أصول الفقه الإسلامي

السنة في اللغة الطريقة، وأما في الشرع، فقد تطلق على ما كان من العبادات نافلة منقولة عن النبيصلى الله عليه وآله وسلم ، وقد تطلق على ما صدر عن الرسول من قول، أو فعل، أو تقرير، وعند الكلام على الأدلة الشرعية تطلق السنة على فعل الرسول، وعلى قوله، وعلى إقراره، فكل ذلك هو السنة. وكل ذلك متلقى بالوحي قال تعالى: (( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)) وقال: (( قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ))

منـزلة السنة من القرآن

السنة دليل شرعي، للدليل القاطع على نبوة سيدنا محمدصلى الله عليه وآله وسلم ورسالته، وللدليل القطعي الثبوت القطعي الدلالة على أنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وعلى أن ما ينذر به إنما هو وحي من الله تعالى. فالسنة وحي من الله تعالى. غير أن الوحي إنما هو مضامين السنة ومعانيها وليس ألفاظها. فالله تعالى قد أوحى له بها، وهو قد عبر عن هذا الوحي بلفظ من عنده، أو بفعل منه، أو بتقرير أي سكوت منه.

دليل كالقرآن

والسنة دليل كالكتاب، سواء بسواء دون أي فرق بينهما؛ لقيام الدليل القاطع عليها كقيامه على القرآن، والاقتصار على الكتاب رأي الخارجين على الإسلام، قال تعالى: (( وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)) وقــال: ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) وقــال: (( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) وقال: (( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)) وقــال: (( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)) وقال: (( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ))والرد إلى الرسول بعد وفاته هو الرد إلى سنته، وقال: ( قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) وقال: (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)) فهذه النصوص القطعية الثبوت القطعية الدلالة، صريحة في وجوب الأخذ بالسنة كالأخذ بالكتاب، ومنكر السنة كافر قطعاً، فيجب الأخذ بالسنة كالأخذ بالقرآن، سواء بسواء من غير أي فرق بينهما. ولا يجوز أن يقال عندنا كتاب الله نأخذ به؛ لأن ذلك قد يفهم منه ترك السنة، بل لا بد من أن تقرن السنة بالكتاب، وقد نبـّه الرسولصلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك في حديثه، فقد ورد أن النبيصلى الله عليه وآله وسلم قال: «يُوشِكُ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، يُحَدَّثُ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِي، فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ، أَلاَ وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِصلى الله عليه وآله وسلم مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ» أخرجه ابن ماجه. وروي أنهصلى الله عليه وآله وسلم قال: «يُوشِكُ أَحَدُكُمْ يَقُولُ: هَذَا كِتَابُ اللَّهِ، مَا كَانَ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ أَحْلَلْنَاهُ وَمَا كَانَ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْناَهُ، أَلاَ مَنْ بَلَغَهُ عَنِّي حَدِيثٌ فَكَذَّبَ بِهِ، فَقَدْ كَذَّبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِي حَدَّثـَهُ» أخرجه ابن عبد البرّ.

معيّنة للقرآن

والسنة قاضية على الكتاب؛ لأن الكتاب يكون محتملاً للأمرين فأكثر، فتأتي السنة بتعيين أحدهما، فيرجع إلى السنة ويترك مقتضى ظاهر الكتاب، قال تعالى: (( وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ)) بعد قوله: (( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ)) مما يدل على حل كل ما عدا ما ذكر، فجاءت السنة فأخرجت من ذلك نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، بقول الرسولصلى الله عليه وآله وسلم : «لاَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلاَ عَلَى خَالَتِهَا» أخرجـه مسـلم. فكان ذلك تركاً لظـاهر الكتاب وتقديم السنة عليه. وقد يكون ظـاهـر الكتاب أمـراً، فتأتي السـنة فتخرجه عن ظاهره. فقد أتى القرآن بأخذ الزكاة من جميع الأموال ظاهراً، فجاءت السنة فخصصته بأموال مخصوصة عينتها، وحصرت أخذ الزكاة منها فقط، فلا تؤخذ من غيرها.

مبيّنة للقرآن

والسنة بالنسبة للقرآن مبينة له في الأغلب الأعم، قال تعالى: (( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)). وذلك أن تعريف القرآن بالأحكام الشرعية أكثره كلي لا جزئي، وحيث جاء جزئياً فمأخذه على الكلية، والقرآن جامع، ولا يكون جامعاً إلا والمجموع فيه أمور كليات؛ لأن الشريعة تمت بتمام نـزوله. والسنة على كثرتها، وكثرة مسائلها، بيان للكتاب. وجميع ما في السنة له أصل في الكتاب، بيّـنه على إجمال، أو تفصيل، أو على الوجهين معاً، وجاءت السنة قاضية على ذلك كله بالتوضيح والشرح. وقد جاءت السنة بأحكام كثيرة لم ينص عليها في القرآن الكريم، لكن هذه الأحكام جاءت ملحقة بأصول لها مذكورة في القرآن، وهي من قبيل البيان لما في القرآن، فتكون السنة مبينة للكتاب.

ويتلخص بيان السنة للكتاب فيما يلي:

  1. تفصيل مجمله: ومن ذلك أن الله تعالى أمر بالصلاة في الكتاب، من غير بيان لمواقيتها، وأركانها، وعدد ركعاتها، فبينت السنة ذلك. قالصلى الله عليه وآله وسلم : «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» أخرجه البخاري. وورد في الكتاب وجوب الحج، من غير بيان لمناسكه، فبينت السنة ذلك، وقالصلى الله عليه وآله وسلم : «أَلاَ فَخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» أخرجه أحمد. وورد فيه وجوب الزكاة، من غير بيان لما تجب فيه، ولا المقدار الواجب فيه، فبينت السنة ذلك. وهكذا.
  2. تخصيص عامه: فقد وردت في القرآن عمومات، وجاءت السنة وخصصت هذا العام، ومن ذلك أن الله تعالى أمر أن يرث الأبناء الآباء على نحو ما بين في قوله تعالى: (( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)) الآية، فكان هذا الحكم عاماً في كل أب يورث، وكل ولد وارث، فخصصت السنة الأب المورث بغير الأنبياء بقولهصلى الله عليه وآله وسلم : «لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» أخرجه البخاري ومسلم وأحمد. وخصصت السنة الوارث بغير القاتل بقولهصلى الله عليه وآله وسلم : «.. وَلاَ يَرِثُ الْقَاتِلُ شَيْئاً» أخرجه أبو داود. ومن ذلك قوله تعالى: (( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا))فإن هذه الآية دلت على عدة الوفاة، فخصصت هذه الآية في حديث سـبيعة الأسلمية، إذ ولدت بعد وفاة زوجها بخمسة وعشرين يوماً، فأخبرهاصلى الله عليه وآله وسلم أن قد حلت، فبين ذلك أن الآية مخصوصة في غير الحامل.
  3. تقييد مطلقه: فقد وردت في القرآن آيات مطلقة، وجاءت السنة وقيدت هذا الإطلاق بقيد معين، ومن ذلك قوله تعالى: (( وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ)) فهذه الثلاثة: صيام، صدقة، نسك، نكرات مثبتة، فهي لفظ مطلق، وقد قيد بالحديث الذي أخرجه مسلم من طريق كعب بن عجرة بقولهصلى الله عليه وآله وسلم له: «فَاحْلِقْ رَأْسَكَ وَأَطْعِمْ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ وَالْفَرَقُ ثَلاَثـَةُ آصُعٍ أَوْ صُمْ ثـَلاَثـَةَ أَيَّامٍ أَوِ انْسُكْ نَسِيكَةً» فقيد إطلاق الصيام بثلاثة أيام، وإطلاق الصدقة بفرق لستة مساكين، والفرق ثلاثة آصع، وإطلاق النسك بذبح شاة واحدة.
  4. إلحاق فرع من فروع الأحكام بأصله الذي ورد في القرآن، فيظهر هذا الفرع بأنه تشريع جديد، وعند التدقيق يتبين أنه ملحق بأصله الذي ورد في القرآن، وهذا كثير. فمن ذلك أن الله تعالى ذكر الفرائض مقــدرة، ولم يذكر ميراث العصبــات إلا مــا نص عليه في قولــه تعــالى: ((يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ))وقــوله تعــالى: (( وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)) وهو يقضي أن العاصب من غير الأولاد والإخوة ليس له فرض مقدر، بل يأخذ ما بقي بعد أداء الفروض، وقد بيـّن الرسولصلى الله عليه وآله وسلم ذلك فقال: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» أخرجه البخاري. فألحق العاصب من غير الأولاد بالإخوة والأولاد. وكذلك جعلت الأخوات مع البنات عصبة، عن الأسود: «أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وَرَّثَ أُخْتًا وَابْنَةً، فَجَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا النِّصْفَ، وَهُوَ بِالْيَمَنِ، وَنَبِيُّ اللَّهِصلى الله عليه وآله وسلم يَوْمَئِذٍ حَيٌّ» أخرجه أبو داود. ومعاذ لا يقضي بمثل هذا القضاء في حياتهصلى الله عليه وآله وسلم إلا لدليل يعرفه، ولو لم يكن لديه دليل لم يعجل بالقضية. ومن ذلك أن الله حرم الجمع بين الأختين بقوله: (( وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ)) ولم يذكر الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وقد بينهصلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «لاَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلاَ عَلَى خَالَتِهَا، وَلاَ الْمَرْأَةُ عَلَى ابْنَةِ أَخِيهَا، وَلاَ عَلَى ابْنَةِ أُخْتِهَا» أخرجه أحمد من طريق أبي هريرة. وقد أخرج ابن حبان من طريق ابن عباس قال: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِصلى الله عليه وآله وسلم أن تُزَوَّجَ الْمَرْأَةُ عَلَى العَمَّةِ وَالْخَالَةِ. قَالَ: إِنَّكُنَّ إِذَا فَعَلْتُنَّ ذَلِكَ قَطَّعْتُـنَّ أَرْحَـامَكُنَّ» فألحـق ذلك كله في تحريم الجمع بين الأختين. ومن ذلك أن الله تعالى يقول: (( وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ))ولم يذكر تفصيلات، فنصت السنة على ما يستعين به المجتهد على معرفة الأحكام، فيما يشتبه أنه من الخبائث والطيبات، وألحقته يهما، فنصت السنة على النهي عن أكل لحم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وألحقتها بالخبائث. عن ابن عباس قال: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِصلى الله عليه وآله وسلم عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَعَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ» أخرجه مسلم. وعن جابر قال: «حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِصلى الله عليه وآله وسلم يَعْنِي يَوْمَ خَيْبَرَ الْحُمُرَ الإِنْسِيَّةَ، وَلُحُومَ الْبِغَالِ، وَكُلَّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ» أخرجه الترمذي. ونصت السنة على إباحة أكل الضب والأرنب وما شابهها، وألحقتها بالطيبات، عن ابن عمر قال: «سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِصلى الله عليه وآله وسلم عَنْ أَكْلِ الضَّبِّ. فَقَالَ: لاَ آكُلُهُ، وَلاَ أُحِرِّمُهُ» أخرجه مسلم. وعن أبي هريرة قال: «أَتَى أَعْرَابِيٌّ رَسُولَ اللَّهِصلى الله عليه وآله وسلم بِأَرْنَبٍ قَدْ شَوَاهَا، وَمَعَهَا صِنَابُهَا وَأَدَمُهَا، فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَمْسَكَ رَسُولُ اللَّهِصلى الله عليه وآله وسلم فَلَمْ يَأْكُلْ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَأْكُلُوا» أخرجه أحمد. والصناب صبغ يتخذ من الخردل والزبيب ويؤتدم به. ومن ذلك أن الله أباح من الصيد الجارح المعلم ما أمسك، وعلم من ذلك أنه ما لم يكن معلماً فصيده حرام إذا لم يمسك إلا على نفسه، فدار بين الأصلين ما كان معلماً ولكنه أكل من صيده، فالتعليم يقتضي أنه أمسك عليك، والأكل يقتضي أنه اصطاد لنفسه لا لك، فتعارض الأصلان، فجاءت السنة ببيان ذلك، فقالصلى الله عليه وآله وسلم : «فَإِنْ أَكَلَ فَلاَ تَأْكُلْ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ» أخرجه مسلم. ومن ذلك أن الله تعالى ذكر من تحريم الرضاعة قوله: (( وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ)) فألحق النبي،صلى الله عليه وآله وسلم ، بهاتين سائر القرابات من الرضاعة اللاتي يحرمن من النسب، كالعمة، والخالة، وبنت الأخ، وبنت الأخت، وأشباه ذلك، فقالصلى الله عليه وآله وسلم : أخرجه البخاري. «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» ومن ذلك أن الله تعالى قال: ((وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ)) فحكم بالأموال بشهادة النساء منضمة إلى شهادة رجل، فألحقت السنة بذلك اليمين مع الشاهد، فقضىصلى الله عليه وآله وسلم بذلك، فقد روي عن علي :«أَنَّ النَّبِيَّصلى الله عليه وآله وسلم قَضَى بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ وَيَمِينِ صَاحِبِ الْحَقِّ» أخرجه الدارقطني. فجرى الشاهد واليمين مجرى الشاهدين، أو الشاهد والمرأتين. وعلى هذا المنوال جاءت السنة بأحكام كثيرة لم تأت بالكتاب، وهي تشريع جديد، ولكنها ملحقة بأصل لها. غير أنه ليس معنى ذلك أن الرسولصلى الله عليه وآله وسلم لا يأتي بتشريع جديد، إلا كان ملحقاً بأصله في القرآن، ولا معناه أن كل تشريع جديد يأتي به الرسولصلى الله عليه وآله وسلم لا بد أن يكون ملحقاً بأصله في القرآن، بل ذلك هو الأغلب الأعم، ولكن قد يأتي الرسولصلى الله عليه وآله وسلم بتشريع جديد ليس ملحقاً بأصله في القرآن، بل قد يكون لا أصل له في القرآن. فمثلاً الملكية العامة الثابتة في الأشياء التي هي من مرافق الجماعة تشريع جديد جاء به الرسولصلى الله عليه وآله وسلم حين قال: «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثـَلاَثٍ: فِي الْكَلإِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ» أخرجه أبو داود. وهذا غير ملحق بأصله في القرآن. ومن ذلك تحريم أخذ ضريبة الجمارك الثابت بقولهصلى الله عليه وآله وسلم : «لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ صَاحِبُ مَكْسٍ» أخرجه أحمد. فإنه غير ملحق بأصله في القرآن. غير أن هذا قليل، والأعم الأغلب أن التشريع الجديد الذي جاء به الرسولصلى الله عليه وآله وسلم ملحق بأصله في القرآن.

وهكذا نجد السنة راجعة إلى الكتاب، وما ورد فيها بمنـزلة التفسير والشرح لمعاني أحكام الكتاب، من تفصيل مجمله، وتخصيص عامه، وتقييد مطلقه، وإلحاق فرع بأصله، ولكن مع ذلك فإن فيها تشريعاً جديداً لم يرد له أصل في القرآن، فكانت السنة بياناً للقرآن، وتشريعاً جديداً للأحكام، أما البيان فيدل عليه قوله تعالى:(( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)) وأما التشريع الجديد فيدل عليه قوله تعالى: (( تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)) والرد إلى الله بالرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول إذا كان حياً، فلما قبضه الله صار الرد إلى سنته، والتنازع مطلق في فهم القرآن، وفي استنباط الأحكام، والرد إلى السنة مطلق فيما هو موجود في القرآن، وفيما كان تشريعاً جديداً؛ ولذلك قال الله تعالى: (( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)) وقال: ((فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ)) وهو عام؛ لأنه اسم جنس مضاف. وعلى ذلك كانت السنة دليلاً شرعياً مثل الكتاب، وقد قال رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم : «تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ» أخرجه مالك.