أصول الفقه الإسلامي // لا يقع التعارض بين قول الرسول وفعله إلا في حالة واحدة: وهي النسـخ، ومـا عدا هذه الحالة فلا تعارض بين القول والفعل مطلقاً. غير أنه قد يظهر لأول وهلة في بعض أقوال الرسول وأفعاله أن هناك تعارضاً بين القول والفعل، ولكن عند التدقيق يظهر أن ظروف كل منهما غير ظروف الآخر، فلا يكون هناك تعارض، ولهذا يمكن الجمع بينهما. والتعارض له ثلاث أحوال:

  • إحداها: أن يكون القول متقدماً، وهو أن النبي  صلى الله عليه وآله وسلم   إذا فعل فعلاً، ولم يكن هناك دليل على أن هذا الفعل خاص بالنبي، فإنه يكون ناسخاً للقول المتقدم عليه المخالف له، سواء أكان ذلك القول عاماً، كما إذا قال صوم يوم كذا واجب علينا ثم أفطر ذلك اليوم، وقام الدليل على اتباعه كما فرضنا، أم كان خاصاً به بدليل دل على ذلك، أم خاصاً بنا بدليل دل على ذلك. يعني أن فعله  صلى الله عليه وآله وسلم   الثابت التكرر، الواجب التأسي، إذا تأخر عن القول خاصاً به، أو خاصاً بنا، أو عاماً له ولنا، نسخ القول في حقه، أو في حقنا، أو في حقه وحقنا. أما الفعل الخاص به فظاهر فيه النسخ، وأما الخاص بنا فلوجوب الاتباع، وأما العام له ولنا فكذلك لوجوب الاتباع.
  • ثانيتها: أن يكون القول متأخراً عن الفعل المذكور، وهو الذي دل الدليل على أنه يجب علينا اتباعه فيه؛ لأنه لا يوجد دليل على أنه خاص به، وهذا ينظر فيه، فإن لم يدل الدليل على وجوب تكرار الفعل، فلا تعارض بينه وبين القول المتأخر أصلاً؛ لأن الفعل وقع لمرة واحدة وانتهى، ولم يطلب تكراره، فأصبح معدوماً، فلا يكون القول معارضاً له؛ لأنه غير مطلوب التكرار. وإن دل الدليل على وجوب تكراره عليه وعلى أمته، فالقول المتأخر قد يكون عاماً، أي متناولاً له  صلى الله عليه وآله وسلم   ولأمته، وقد يكون خاصاً به، وقد يكون خاصاً بنا. فإن كان عاماً فإنه يكون ناسخاً للفعل المتقدم، كما إذا صام يوم عاشوراء مثلاً، وقام الدليل على وجوب تكراره، وعلى تكليفنا به، ثم قال لا يجب علينا صيامه، هذا إن كان عاماً. وأما إن اختص القول المتأخر بالنبي  صلى الله عليه وآله وسلم  ، فإن القول المتأخر ينسخ الفعل المتقدم في حقه  صلى الله عليه وآله وسلم  ، لا في حقنا. وإن اختص القول المتأخر بنا أي بالأمة، كما إذا قال: لا يجب عليكم أن تصوموا، فلا تعارض فيه بالنسبة للنبي  صلى الله عليه وآله وسلم   فيستمر تكليفه به. وأما في حقنا فإنه يدل على عدم التكليف بذلك الفعل، ثم إن ورد قبل صدور الفعل منا كان مخصصاً، أي مبيناً لعدم الوجوب، أي كنا مستثنين من الفعل، وإن ورد بعد صدور الفعل منا فلا يمكن حمله على التخصيص؛ لاستلزامه تأخير البيان عن وقت الحاجة، فيكون ناسخاً لفعله المتقدم.
  • ثالثتها: أن يكون المتأخر من القول والفعل مجهولاً، أي لم يعلم أن الفعل هو المتقدم أو القول. وفي هذه الحال ينظر، فإن أمكن الجمع بينهما، يرتفع التعارض، وإن لم يمكن الجمع بينهما فإنه يؤخذ بالقول فيما كان مختصاً بنا، أو عاماً له ولنا، دون ما كان مختصاً به، فيقدم القول، ويؤخَذ به، ويترك الفعل؛ وذلك لكون القول مستقلاً بالدلالة موضوعاً لها، بخلاف الفعل، فإنه لم يوضع للدلالة، وإن دل فإنما يدل بواسطة القول، ولأن القول أعم دلالة لشموله المعدوم والموجود، المعقول والمحسوس، بخلاف الفعل، لاختصاصه بالموجود المحسوس.

وفي حـالـة كـون الفـعـل والـقـول اللذين فيهما شبهة التـعـارض بياناً لنص سابق، مثل قوله  صلى الله عليه وآله وسلم   بعد آية الحج «مَنْ قَرَنَ حَجّـاً إِلَى عُـمْـرَةٍ فَلْيَطُفْ طَوَافاً وَاحِداً، وَيَسْعَ سَعْياً وَاحِداً» ذكره الآمدي في الإحكام. وما روى الدارقطني عنه   صلى الله عليه وآله وسلم   أنه «قَرَنَ فَطَافَ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ» فإن الجمع بين الفعل والقول في هذه الحالة يكون كما هو مفصل في أقسام الكتاب والسنة -البيان والمبين -.

هذه هي أحوال التعارض بين القول والفعل، ومن الأمثلة على ذلك ما رواه أبو داود من طريق الرُّبَيِّع بنت معوذ بن عفراء: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  صلى الله عليه وآله وسلم   مَسَحَ بِرَأْسِهِ مِنْ فَضْلِ مَاءٍ كَانَ فِي يَدِهِ»، وعن سفيان الثوري قال: حدثتني الرُّبيع بنت معوذ بن عفراء قالت: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وآله وسلم   يَأْتِينَا ...، وَمَسَحَ رَأْسَهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ وَضُوئِهِ فِي يَدَيْهِ» أخرجه أحمد. فهذا الفعل يعارض ما أخرجه الطبراني أن النبي  صلى الله عليه وآله وسلم   قال: «خُذُوا لِلرَّأْسِ مَاءً جَدِيداً» والجمع بينهما هو أن قوله: «خُذُوا» خطاب خاص بالأمة وليس عاماً، وأنه وإن كان خطاب الرسول لأمته خطاباً له، لأنه يدخل في عموم كلامه، ولكن إذا جاءت قرينة تدل على أن له حكماً خاصاً به، فيكون من خصوصياته، وهنا جاء مسحه رأسه بما بقي من وضوئه، إذا وضع إلى جانب قوله خذوا للرأس ماءً جديداً، فإنه يكون قرينة على أن فعله  صلى الله عليه وآله وسلم   خاص به، والقول خاص بالأمة، وعليه فلا تعارض بين قوله  صلى الله عليه وآله وسلم  : «خُذُوا لِلرَّأْسِ مَاءً جَدِيداً» وبين فعله  صلى الله عليه وآله وسلم   بكونه لم يأخذ للرأس ماءً جديداً، بل مسح بما بقي من وضوئه بيديه، فإنه خاص به؛ وذلك لأن أمره  صلى الله عليه وآله وسلم   للأمة أمر خاص بهم بقرينة فعله  صلى الله عليه وآله وسلم  ، فهو أخص من أدلة التأسي القاضية باتباعه في أقواله وأفعاله  صلى الله عليه وآله وسلم   فبني العام على الخاص، ولا يجب التأسي به في هذا الفعل الذي ورد أمر الأمة بخلافه.

ومن الأمثلة أيضاً ما روي عن إبراهيم التيمي عن عائشة رضي الله عنها : «أَنَّ النَّبِيَّ  صلى الله عليه وآله وسلم   كَانَ يُقَبِّلُ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ، ثـُمَّ يُصَلِّي وَلاَ يَتَوَضَّأُ» أخرجه النسائي. وهذا الحديث قيل عنه إنه ضعيف، ولكن تبين أن من قال إنه ضعيف قال ذلك لأن الحديث مرسل، مع أن المرسل مما يحتج به، وقد قال النسائي في هذا الحديث: «ليس في هذا الباب أحسن من هذا الحديث، وإن كان مرسلاً» وقد روى الدارقطني الحديث موصولاً، قال: عن إبراهيم عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «إِنْ كَانَ رَسُولُ  صلى الله عليه وآله وسلم   لَيُصَلِّي، وَإِنِّي لَمُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ اعْتِرَاضَ الْجَنَازَةِ، حَتَّى إِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ مَسَّنِي بِرِجْلِهِ» أخرجه النسائي. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ  صلى الله عليه وآله وسلم   لَيْلَةً مِنَ الْفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ» أخرجـه مسـلم. فهذه الأحاديث الدالة على فعله  صلى الله عليه وآله وسلم تعارض آية: (( أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا)) فإن هذه الآية صرحت بأن اللمس من جملة الأحداث الموجبة للوضوء، وهو حقيقة في لمس اليد، مجاز في الجماع، ولا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذرت الحقيقة، والحقيقة هنا لا تتعذر بل تتيقن، ولا يصار إلى المجاز إلا إذا وجدت قرينة، ولا توجد قرينة هنا تجعله مجازاً، فتعين أن يكون حقيقة. ويؤيد بقاءه على معناه الحقيقي قراءة: (( أَوْ لَمَسْتُمُ))فإنها ظاهرة في مجرد اللمس من دون جماع. وعليه فإن فعل الرسول في لمس المرأة وفي لمس المرأة له، لا سيما وأن لمس عائشة لبطن قدم النبي قد ثبت مرفوعاً وموقوفاً، والرفع زيادة يتعين المصير إليها، يعارض الآية، أي يعارض النص القولي، أي القرآن. والجمع بينهما هو أن الآية تقول أو (( لَامَسْتُمُ)) فهي خاصة بالأمة، وأنه وإن كان الرسول يدخل في عمومها، ولكن فعل الرسول خلاف النص القولي قرينة على أن الفعل خاص بالرسول،والنص القولي خاص بالأمة. فاللمس باليد صدر من الرسول، ولم يتوضأ، فهو مختص به؛ لأن فعله  صلى الله عليه وآله وسلم   لا يعارض النص القولي الخاص بالأمة، بل يكون مختصاً به؛ لأن اقتران الآية بفعل الرسول على خلافها يكون قرينة على أن الآية خاصة بالأمة. وعليه لا تعارض بين النص القولي والفعل. وهكذا ترد أفعال للنبي  صلى الله عليه وآله وسلم   يظهر فيها أنها تعارض قول الرسول، فيحاول الجمع بينهما، فإن لم يمكن الجمع طبقت في حقها قواعد الأحوال الثلاث.