أصول الفقه الإسلامي

المباح هو ما دل الدليل السمعي على خطاب الشارع بالتخيير فيه بين الفعل والترك من غير بدل. والإباحة من الأحكام الشرعية؛ لأنها خطاب الشارع، ولا بد لثبوت الإباحة من ورود خطاب الشارع بها.

وليست هي رفع الحرج عن فعل الشيء وتركه، وإلا لكان تشريعها ثابتاً قبل ورود الشرع، مع أنه لا شرع قبل ورود الشرع، وإنما هي ما ورد خطاب الشارع بالتخيير فيها بين الفعل والترك، فهي قد شرعت من الشرع نفسه، ووجدت بعد وروده؛ ولذلك كانت من الأحكام الشرعية.

ثم إن الأحكام التي تتحقق فيها الإباحة، لا بد من ورود الشرع بإباحة كل حكم بعينه، وليست هي التي سَكتَ عنها الشرع، ولم يحرمها، ولم يحللها.

وأما ما أخرجه الترمذي عن سلمان الفارسي قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن السمن، والجبن، والفراء، فقال: «الْحَلاَلُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ» فإنه لا يدل على أن ما سَكتَ عنه القرآن مباح. فإن هناك أشياء حرمت، وأشياء أحلت، في الحديث، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» أخرجه أحمد. فالمراد ما سَكتَ عنه الوحي. وكذلك ليس المراد بما سَكتَ عنه الوحي أنه مباح؛ لأن قوله في الحديث: «الْحَلاَلُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ» يشمل كل شيء لم يحرمه، فيشمل الواجب، والمندوب، والمباح، والمكروه، إذ يصدق عليه أنه حلال بمعنى أنه ليس بحرام، وعليه فلا يكون معنى ما سَكتَ عنه أنه المباح، وأما قوله: «وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ» وقوله في حديث آخر: «وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ» أخرجه البيهقي، وقوله في حديث آخر: «وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ،رُخْصَةً لَكُمْ لَيْسَ بِنِسْيَانٍ، فَلاَ تَبْحَثُوا عَنْهَا» أخرجه البيهقي. فإن المراد من سكوته عن أشياء إحلاله لها، فيعتبر إحلاله لها عفواً من الله، ورحمة بالناس؛ لأنه لم يحرمها بل أحلها، بدليل قول الرسول في حديث سعد بن أبي وقاص: «إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا، مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» أخرجه مسلم، أي من سأل عن شيء سَكتَ عن تحريمه الوحي. فالسكوت في هذه الأحاديث هو السكوت عن التحريم، وليس السكوت عن بيان الحكم الشرعي؛ لأن الله لم يسكت عن بيان الحكم الشرعي، بل بيـّنه في كل شيء، قال تعالى: ((وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ)) وعليه لا يكون المباح هو ما سَكتَ عنه الشرع، بل المباح هو ما بيـّن الشرع حكمه أنه مباح.

وما سكت عنه الشرع هو ما لم يحرمه أي أحلّه، ويقع في ذلك الواجب، والمندوب، والمباح، والمكروه. على أن الأحكام المباحة قد ورد في كل حكم منها دليل على إباحته. فإباحة الصيد واضحة في قوله تعالى: ( وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) وإباحة الانتشار بعد صلاة الجمعة واضحة في قوله تعالى: (( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا)) وإباحة البيع واضحة في قوله تعالى: (( وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ)) وإباحة الإجارة، والوكالة، والرهن، وغير ذلك، واضحة في أدلتها؛ وعلى ذلك فإن الإباحة حكم شرعي لا بد من ثبوتها بدليل شرعي يدل عليها.