أصول الفقه الإسلامي

إن الأفعال الواقعة في الوجود قد جاء خطاب الشارع وبيّـن أحكامها من حيث الاقتضاء أو التخيير، وجاء خطاب الشارع، ووضع لهذه الأحكام ما تقتضيه من أمور يتوقف عليها تحقق الحكم، أو يتوقف عليها إكماله، أي إنها وضعت لما يقتضيه الحكم الشرعي. فخطاب الشارع كما يرِد بالاقتضاء والتخيير، يرد بما يقتضيه الاقتضاء والتخيير، وذلك بجعل الشيء سبباً، أو بجعله شرطاً، أو بجعله مانعاً، أو بجعله صحيحاً أو باطلاً أو فاسداً، أو بجعله عزيمة أو رخصة.

السبب

وإذا كان خطاب الاقتضاء والتخيير أحكاماً تعالج فعل الإنسان، فإن خطاب الوضع يعالج تلك الأحكام ومتعلقاتها. فخطاب الاقتضاء والتخيير أحكام لفعل الإنسان، وخطاب الوضع أحكام لتلك الأحكام، فتكسبها أوصافاً معينة. وكونها كذلك لا يخرجها عن كونها متعلقة بأفعال الإنسان؛ لأن المتعلق بالمتعلق بالشيء متعلق بذلك الشيء أيضاً، فيكون الاضطرار سبباً في إباحة الميتة، وخوف العنت سبباً في إباحة نكاح الإماء، والسلس سبباً في إسقاط وجوب الوضوء لكل خارج في الصلاة (بل يكفي وضوء واحد لكل صلاة حتى وإن خرج أثناء الصلاة)، وزوال الشمس أو غروبها أو طلوع الفجر سبباً في إيجاب وجود تلك الصلوات، وما أشبه ذلك، كل ذلك خطاب من الشارع متعلق بالحكم، وهو إباحة الميتة، وإباحة نكاح الإماء، وإسقاط وجوب الوضوء لكل خارج في الصلاة، وإيجاب وجود الصلاة، ومن هنا كان السبب من خطاب الوضع.

الشرط

وكون الحول شرطاً في سبب إيجاب الزكاة، والبلوغ شرطاً في التكليف مطلقاً، وإرسال الرسل شرطاً في الثواب والعقاب، والقدرة على التسليم شرطاً في صحة البيع، والرشد شرطاً في دفع مال اليتيم إليه، كل ذلك خطاب من الشارع متعلق بالحكم، ومن هنا كان الشرط من خطاب الوضع.

المانع

وكون الحيض مانعاً من الوطء، ومن الطواف بالبيت، ووجوب الصلوات، وأداء الصيام، وكون الجنون مانعاً من القيام بالعبادات، وإطلاق التصرفات، وما أشبه ذلك كل هذا خطاب من الشارع متعلق بالحكم؛ ومن هنا كان المانع من خطاب الوضع.

العزائم والرخص 

وكون المريض العاجز عن القيام يرخص له أن يصلي قاعداً، وكون المسافر يجوز له أن يفطر في رمضان، وكون المكره إكراه إلجاء يجوز له أن ينطق بالكفر، كل ذلك خطاب من الشارع متعلق بالحكم، وهو الصلاة قاعداً، والإفطار في رمضان، والنطق بكلمة الكفر؛ ومن هنا كانت الرخص من خطاب الوضع. فهذه الأربعة، لا إشكال في أن خطاب الشارع جاء بالحكم، وجاء بأمور تتعلق بذلك الحكم.

أما ما جاء من الأحكام تشريعاً عاماً، وألزم العباد بالعمل به، كالصلاة من حيث هي، والصوم من حيث هو، والجهاد من حيث هو، فإن خطاب الوضع في هذه الأحكام هو وصفها من حيث كونها شرعت تشريعاً عاماً، ومن حيث إلزام العباد العمل بها، وهذا التشريع العام والإلزام به هو ما يسمى العزيمة. ولذلك كانت العزائم من أحكام الوضع، وتعتبر هي والرخص قسماً واحداً؛ لأن العزائم أصل ويتفرع عنها الرخص، فكانت الرخص والعزائم من خطاب الوضع.

الصحة والبُطلان

وأما ما يتعلق بآثار العمل في الدنيا، فإن خطاب الوضع يظهر من حيث هذه الآثار، فمثلاً نقول الصلاة صحيحة إذا استوفت جميع أركانها، ونقول البيع صحيح إذا استوفى جميع شروطه، ونقول الشركة صحيحة إذا استكملت الشروط الشرعية. فهذا وصف للحكم من حيث أداؤه، لا من حيث تشريعه، وقد جاء الشارع بذلك، فاعتبر البيع صحيحاً، والصلاة صحيحة. وكذلك إذا فقد البيع الإيجاب، أو فقدت الصلاة الركوع، أو فقدت الشركة القبول، فإنها تكون حينئذ باطلة. فبطلانها وصف للحكم من حيث أداؤه، لا من حيث تشريعه، وقد جاء الشارع بذلك فاعتبرها باطلة. ومن هنا كانت الصحة والبطلان قسماً واحداً؛ لأن خطاب الشارع فيهما يتعلق بحكم واحد،إما صحيحاً أو باطلاً؛ لأن الصحة أصل والبطلان مترتب على أحكام الصحة، فكانت الصحة والبطلان قسماً واحداً.

هذا هو خطاب الوضع، وهو متعلق بأمر يقتضيه الحكم، وهو خمسة أقسام: السبب، والشرط، والمانع، والصحة والبطلان والفساد، والعزائم والرخص.