روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء». والغرباء هم النـزاع من القبائل، روى الدارمي وابن ماجة وابن أبي شيبة والبزار وأبو يعلى وأحمد، بإسناد رجاله ثقات، واللفظ له، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء، قيل ومن الغرباء؟ قال النـزاع من القبائل». قال في اللسان: (ونزاع القبائل غرباؤهم الذين يجاورون قبائل ليسوا منهم الواحد نزيع ونازع ... هو الذي نزع عن أهله وعشيرته، أي بعُد وغاب).

ومن حلية هؤلاء الغرباء النـزاع وما قيل فيهم:

  1. يصلحون عند فساد الناس:     بدليل حديث عمرو بن عوف بن زيد بن ملحة المزني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن الدين ليأرز إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جُحرها، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية من رأس الجبل. إن الدين بدأ غريباً ويرجع غريباً، فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي» قال أبو عيسى هذا حديث حسن. فالغرباء ليسوا الصحابة لأنهم يأتون بعد أن يفسد الناس طريقة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في العيش، والصحابة رضوان الله عليهم لم يفسدوها ولم تفسد في زمانهم. وبدليل حديث سهل بن سعد الساعدي t قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء قالوا يا رسول الله ومن الغرباء؟ قال الذين يصلحون عند فساد الناس» هذه رواية الطبراني في الكبير، وفي الأوسط والصغير «يصلحون إذا فسد الناس» ولفظ "إذا" يستعمل لما يستقبل من الزمان وفيه دلالة على أن الفساد يكون بعد عصر الصحابة. هذا الحديث قال عنه الهيثمي: رواه الطبراني في الثلاثة ورجاله رجال الصحيح غير بكر بن سليم وهو ثقة.
  2. قليلون:     روى أحمد والطبراني عن عبد الله بن عمرو قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً وطلعت الشمس فقال: «يأتي قوم يوم القيامة نورهم كنور الشمس، قال أبو بكر: نحن هم يا رسول الله؟ قال: لا ولكم خير كثير ولكنهم الفقراء المهاجرون الذين يحشرون من أقطار الأرض، ثم قال: طوبى للغرباء، طوبى للغرباء، قيل ومن الغرباء؟ قال: ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم» قال الهيثمي له في الكبير أسانيد ورجال أحدهما رجال الصحيح. وينبـغي التنبه إلى أن ميـزة الغـربة ليست أفضل من ميزة الصحبة، فالغرباء النـزاع ليسوا أفضل من الصحابة، فقد تميز بعض الصحابة بميزات خاصة غير ميزة الصحبة ولم تجعلهم أفضل من أبي بكر، وتميز أويس القرني بميزة خاصة لم تجعله أفضل من الصحابة وهو تابعي. فكذلك الغرباء النـزاع.
  3. قوم من أفناء الناس:     أخرج الحاكم في المستدرك وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «إن لله عباداً ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الشهداء والنبيون يوم القيامة لقربهم من الله تعالى ومجلسهم منه، فجثا أعرابي على ركبتيه فقال يا رسول الله صفهم لنا وحلّهم لنا قال: قوم من أفناء الناس من نزاع القبائل، تصادقوا في الله وتحابوا فيه، يضع الله عز وجل لهم يوم القيامة منابر من نور، يخاف الناس ولا يخافون، هم أولياء الله عز وجل الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون». قال في اللسان: (أفناء أي أخلاط الواحد فِـنْـو)، وهذه الصفة موجودة في حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه عند أحمد بلفظ: «هم ناس من أفناء الناس ونوازع القبائل». وعند الطبراني في الكبير: «من بلدان شتى».
  4. يتحابّون بروْح الله:     أي بشريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، أي أن الذي يربط بينهم هو مبدأ الإسلام لا غير، ولا تربط بينهم أية رابطة أخرى، لا رابطة نسب أو قرابة، ولا رابطة مصلحة أو منفعة دنيوية. أخرج أبو داود بإسناد رجاله ثقات عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى، قالوا يا رسول الله تخبرنا من هم قال هم قوم تحابوا بروْح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور وإنهم على نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، وقرأ هذه الآية: ( أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) »، ووردت هذه الصفة عند الحاكم من حديث ابن عمر السابق بلفظ «تصادقوا في الله وتحابوا فيه»، وعند أحمد من حديث أبي مالك الأشعري بلفظ: «لم تصل بينهم أرحام متقاربة تحابوا في الله وتصافوا» وعند الطبراني من حديث أبي مالك أيضاً بلفظ «لم يكن بينهم أرحام يتواصلون بها لله، لا دنيا يتباذلون بها، يتحابون بروح الله عز وجل»، وعند الطبراني من حديث عمرو بن عبسه بإسناد قال عنه الهيثمي رجاله موثقون وقال المنذري مقارب لا بأس به قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «... هم جُمّاع من نوازع القبائل يجتمعون على ذكر الله تعالى فينتقون أطايب الكلام كما ينتقي آكل الثمر أطايبه» والاجتماع على ذكر الله غير الاجتماع لذكر الله، فالأول يعني أنه رابطة تربطهم سواء كانوا جلوساً معاً أم متفرقين بينما الاجتماع للذكر ينتهي بانتهائه، وعند الطبراني بإسناد حسنه الهيثمي والمنذري عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «... هم المتحابون في الله من قبائل شتى وبلاد شتى يجتمعون على ذكر الله»أي أن الرابط بينهم ذكر الله، وهو روح الله الوارد في الأحاديث السابقة.
  5. ينالون هذه المرتبة دون أن يكونوا شهداء:     لأن الشهداء يغبطونهم، وهذا لا يعني أنهم أفضل من الأنبياء والشهداء، بل هذه ميزة تميزوا بها، وهي لا تجعلهم أفضل كما مر، أخرج الطبراني في الكبير بإسناد قال عنه الهيثمي حسن رجاله وثقوا عن أبي مالك الأشعري قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنـزلت هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) قال فنحن نسأله إذ قال: «إن لله عباداً ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء بقربهم ومقعدهم من الله عز وجل يوم القيامة» قال وفي ناحية القوم أعرابي، فقام فجثا على ركبتيه ورمى بيديه، ثم قال: حدثنا يا رسول الله عنهم من هم، قال فرأيت وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينتشر، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «عباد من عباد الله، من بلدان شتى، وقبائل من شعوب أرحام القبائل، لم يكن بينهم أرحام يتواصلون بها لله، لا دنيا يتباذلون بها، يتحابون بروح الله عز وجلّ، يجعل الله وجوههم نوراً، يجعل لهم منابر قدام الرحمن تعالى، يفزع الناس ولا يفزعون، ويخاف الناس ولا يخافون». وقد اتفقت جميع الروايات على نفي النبوة والشهادة عنهم، وإنما نالوا هذه المرتبة بهذه الصفات.

هذه بعض حليتهم، أما منـزلتهم عند الله فقد بينتها الأحاديث السابقة، ولا حاجة للتكرار، ومن تدبَّرها كان حرياً أن يسارع إلى حجز منبر قدام الرحمن تعالى، لعله سبحانه يرحم غربته ويحقق رغبته.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.