بر الوالدين

بر الوالدين هو الإحسان إليهما، وطاعتهما، وفعل الخيرات لهما، وقد جعل الله للوالدين منزلة عظيمة، فجعل برهما والإحسان إليهما والعمل على رضاهما فرضاً عظيماً، وذكره بعد الأمر بعبادته، فقال جلَّ شأنه: ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) وقال تعالى: ( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) وقال تعالى: ( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ )

فكما يبر المسلم والديه في حياتهما، كذلك هو يبرهما بعد موتهما، بأن يدعو لهما بالرحمة والمغفرة، وينَفِّذَ عهدهما، ويكرمَ أصدقاءهما. روى ابن ماجة أن رجلا من بني سلمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبويَّ شيء أبرُّهما به من بعد موتهما؟ قال: «نعم، الصلاة عليهما -الدعاء-، والاستغفار لهما، وإيفاءٌ بعهودهما من بعد موتهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما». وحثَّ الله كلَّ مسلم على الإكثار من الدعاء لوالديه في معظم الأوقات، فقال سبحانه على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام: ( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ)، وقال جلَّ من قائل على لسان سيدنا نوح عليه السلام: ( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ).

وبرُّ الوالدين له فضل عظيم وأجر كبير عند الله سبحانه، فقد جعل الله بر الوالدين من أعظم الأعمال وأحبها إليه، فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: «الصلاة على وقتها»، قال: ثم أي؟ قال: «ثم بِرُّ الوالدين»، قال: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» متفق عليه. روى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قصة ثلاثة رجال اضطروا إلى أن يبيتوا ليلتهم في غارٍ، فانحدرت صخرة من الجبل، فسدت عليهم باب الغار، فأخذ كل واحد منهم يدعو الله ويتوسل إليه بأحسن الأعمال التي عملها في الدنيا، حتى يفرِّج الله عنهم ما هم فيه، فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت أحضر لهما اللبن كل ليلة ليشربا قبل أن يشرب أحد من أولادي، وتأخرت عنهما ذات ليلة، فوجدتُهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما أو أعطي أحداً من أولادي قبلهما، فظللت واقفاً وقدح اللبن في يدي أنتظر استيقاظهما حتى طلع الفجر، وأولادي يبكون من شدة الجوع عند قدمي حتى استيقظ والداي وشربا اللبن، اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك ففرِّج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، وخرج الثلاثة من الغار.

 

من فضائل بر الوالدين:

رضا الوالدين من رضا الله: إن المسلم يسعى دائماً إلى رضا والديه، حتى ينال رضا ربه، ويتجنب إغضابهما، حتى لا يغضب الله، قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي: « رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد». وروى البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « من أرضى والديه فقد أرضى الله، ومن أسخط والديه فقد أسخط الله» البخاري.

الجنة تحت أقدام الأمهات: روى ابن ماجة أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريد الجهاد، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع ويبرَّ أمه، فأعاد الرجل رغبته في الجهاد، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع ويبرَّ أمه، وفي المرة الثالثة، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: « ويحك! الزم رِجْلَهَا فثم الجنة».

الفوز بمنزلة المجاهد: روى الطبراني أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أشتهي الجهاد، ولا أقدر عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: « هل بقي من والديك أحد؟»، قال: أمي، قال: «فاسأل الله في برَّها، فإذا فعلتَ ذلك فأنت حاجٌّ ومعتمر ومجاهد». وروى مسلم أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد، فقال صلى الله عليه وسلم: «أحيٌّ والداك؟»، قال: نعم. قال صلى الله عليه وسلم: «ففيهما فجاهدْ». وروى مسلم أيضاً أنه أقبل رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد، أبتغي الأجر من الله، فقال صلى الله عليه وسلم: «فهل من والديك أحد حي؟»، قال: نعم. بل كلاهما. فقال صلى الله عليه وسلم: «فتبتغي الأجر من الله؟»، فقال: نعم. قال صلى الله عليه وسلم: «فارجع إلى والديك، فأَحْسِنْ صُحْبَتَهُما».

الفوز ببرِّ الأبناء: إذا كان المسلم بارًّا بوالديه محسنًا إليهما، فإن الله تعالى سوف يرزقه أولادًا يكونون بارين محسنين له، كما كان يفعل هو مع والديه، روى الطبراني والحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بِرُّوا آباءكم تَبرُّكم أبناؤكم، وعِفُّوا تَعِفَّ نساؤكم».

 

بـرُّ الوالدين المشركين:

كان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بارًّا بأمه، فلما أسلم قالت له أمه: يا سعد، ما هذا الذي أراك؟ لتدعن دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتُعَيَّر بي، فيقال: يا قاتلَ أمه. قال سعد: يا أمه، لا تفعلي، فإني لا أدع ديني هذا لشيء، ومكثت أم سعد يوماً وليلة لا تأكل ولا تشرب حتى اشتد بها الجوع، فقال لها سعد: تعلمين والله، لو كان لك مائة نَفْس فخرجت نَفْساً نَفْساً ما تركتُ ديني هذا لشيء، فإن شئتِ فكُلِي، وإن شئتِ فلا تأكلي. فلما رأت إصراره على التمسك بالإسلام أكلت، ونزل يؤيده قول الله تعالى: ( وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)وهكذا يأمرنا الإسلام بالبر بالوالدين حتى وإن كانا مشركين. وتقول السيدة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: قدمت على أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: إن أمي قَدِمَتْ وهي راغبة -أي طامعة فيما عندي من برّ- أفَأَصِلُ أمي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «نعم، صلي أمَّكِ» متفق عليه.

 

عقوق الوالدين من أكبر الكبائر:

حذَّر الله تعالى المسلم من عقوق الوالدين، وعدم طاعتهما، وإهمال حقهما، وفعل ما لا يرضيهما أو إيذائهما ولو بكلمة -أفّ- أو بنظرة، قال تعالى: ( فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا)، وعليه أن لا يدخل عليهما الحزن ولو بأي سبب، لأن إدخال الحزن على الوالدين عقوق لهما، وقد قال الإمام علي رضي الله عنه: "مَنْ أحزن والديه فقد عَقَّهُمَا".

عدَّ النبي صلى الله عليه وسلم عقوق الوالدين من كبائر الذنوب، بل من أكبر الكبائر، وجمع بينه وبين الشرك بالله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين...» متفق عليه. والله تعالى يعَجِّل عقوبة العاقِّ لوالديه في الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم: «كل الذنوب يؤخِّر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين، فإن الله يعجِّله لصاحبه في الحياة قبل الممات» البخاري.