إن نظام الحكم في الإسلام الذي فرضه رب العالمين هو نظام الخلافة، الذي يُنصَّب فيه خليفة بالبيعة على كتاب الله وسنة رسوله للحكم بما أنزل الله. والأدلة على ذلك كثيرة مستفيضة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة:
أما الكتاب فقد قال تعالى مخاطباً الرسول عليه الصلاة والسلام: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ}، وقال: {وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}. وخطاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالحكم بينهم بما أنزل الله هو خطاب لأمته صلوات الله وسلامه عليه، ومفهومه أن يوجِدوا حاكماً بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحكم بما أنزل الله، والأمر في الخطاب يفيد الجزم؛ لأن موضوع الخطاب فرض، وهذا قرينة على الجزم كما في الأصول، والحاكم الذي يحكم بين المسلمين بما أنزل الله بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الخليفة. ونظام الحكم على هذا الوجه هو نظام الخلافة. هذا فضلاً عن أن إقامة الحدود وسائر الأحكام واجبة، وهذه لا تقام إلا بالحاكم، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. والحاكم على هذا الوجه هو الخليفة، ونظام الحكم هو نظام الخلافة.
وأما السنة فقد رُوي عن نافع قال: قال لي عبد الله بن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:«من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» رواه مسلم. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فرض على كل مسلم أن تكون في عنقه بيعة بأنه مات ميتة جاهلية. والبيعة لا تكون بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا لخليفة ليس غير فالحديث يوجب وجود بيعة في عنق كل مسلم، أي وجود خليفة يستحق في عنق كل مسلم بيعة بوجوده. ورواه مسلم عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنما الإمام جُنة يُقاتَل من ورائه ويُتقى به». وروى مسلم عن أبي حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين، فسمعته يُحدّث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وأنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر، قالوا فما تأمرنا؟ قال: فُوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم». فهذه الأحاديث فيها وصف للخليفة بأنه جُنة، أي وقاية، فوصف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأن الإمام جُنة هو إخبار فيه مدح لوجود الإمام، فهو طلب؛ لأن الإخبار من الله ومن الرسول، إن كان يتضمن الذم فهو طلب ترك، أي نهي، وإن كان يتضمن المدح فهو طلب فعل، فإن كان الفعل المطلوب يترتب على فعله إقامة الحكم الشرعي، أو يترتب على تركه تضييعه، كان ذلك الطلب جازماً. وفي الأحاديث أيضاً أن الذين يسوسون المسلمين هم الخلفاء، وهو يعني طلب إقامتهم. على أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أمر بطاعة الخلفاء، وبقتال من ينازعهم في خلافتهم. وهذا يعني أمراً بإقامة خليفة، والمحافظة على خلافته بقتال كل من ينازعه. فقد روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع. فإن جاء آخر ينازعه، فاضربوا عنق الآخر». فالأمر بطاعة الإمام أمر بإقامته، والأمر بقتال من ينازعه قرينة على الجزم في دوام إيجاده خليفة واحداً.
وأما إجماع الصحابة فإنهم، رضوان الله عليهم، أجمعوا على لزوم إقامة خليفة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته، وأجمعوا على إقامة خليفة لأبي بكر، ثم لعمر ثم لعثمان، بعد وفاة كل منهم. وقد ظهر تأكيد إجماع الصحابة على إقامة خليفة من تأخيرهم دفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عقب وفاته، واشتغالهم بنصب خليفة له، مع أن دفن الميت عقب وفاته فرض. والصحابة الذين يجب عليهم الاشتغال في تجهيز الرسول ودفنه اشتغل قسم منهم بنصب الخليفة عن الاشتغال بدفن الرسول، وسكت قسم منهم عن هذا الاشتغال، وشاركوا في تأخير الدفن ليلتين مع قدرتهم على الإنكار، وقدرتهم على الدفن، فقد توفي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ضحى الاثنين، وبقي دون دفن ليلة الثلاثاء ونهار الثلاثاء حيث بويع أبو بكر t ثم دفن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وسط الليل، ليلة الأربعاء، أي تأخر الدفن ليلتين، وبويع أبو بكر قبل دفن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. فكان ذلك إجماعاً على الاشتغال بنصب الخليفة عن دفن الميت، ولا يكون ذلك إلا إذا كان نصب الخليفة أوجب من دفن الميت، وأيضاً فإن الصحابة كلهم أجمعوا طوال أيام حياتهم على وجوب نصب الخليفة. ومع اختلافهم على الشخص الذي يُنتخب خليفة، فإنهم لم يختلفوا مطلقاً على إقامة خليفة، لا عند وفاة رسول الله ولا عند وفاة أي خليفة من الخلفاء الراشدين. فكان إجماع الصحابة دليلاً صريحاً وقوياً على وجوب نصب الخليفة.