أصل الحدّ ما يحجز بين شيئين فيمنع اختلاطهما ، وحدّ الدار ما يميزها ، وحدّ الشيء وصفه المحيط به ، المميز له عن غيره ، وسميت عقوبة الزنا ونحوها حداً لكونها مقدرة من الشرع.
وقد تطلق الحدود ويراد بها نفس المعاصي ، كقوله تعالى : { تلك حدود الله فلا تقربوها } وتطلق على شرائع الله ومحارمه . كقوله تعالى : { وتلك حدود الله ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه } وحدود الله محارمه .
والحدود اصطلاحاً عقوبة مقدرة شرعاً في معصية ، لتمنع من الوقوع في معصية مثلها . والمعاصي المتفق على أن عقوبتها من الحدود ، أي الواجب الحدّ بها ستة هي : الزنا واللواط ، والقذف ، وشرب الخمر ، والسرقة ، والردة ، وقطع الطريق، والحرابة أي البغاة . وقد ورد التحذير من جميع هذه الحدود كما يلي:
- فقد ورد التحذير من الزنا في القرآن والحديث ، قال تعالى : { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا } وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا ينتهب نهبة يرفع النّاس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن "
- وورد التحذير من اللواط في القرآن والحديث . أما القرآن فإن الله قد سمى فيه اللواط فاحشة فقال : { ولوطاً إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين ، إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون } وبين عقاب الله لقوم لوط بأنه عاقبهم بالخسف . قال تعالى : { فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود } وقد قص الله علينا ذلك لنتعظ به ، وأما الحديث فقد روى محمد بن إسحق عن عمرو بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : " ملعون من عمل عمل قوم لوط " وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به " .
- وورد التحذير من القذف في القرآن والحديث . قال الله تعالى : { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لُعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم } وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : " اجتنبوا السبع الموبقات " قيل وما هن يا رسول الله ؟ قال : " الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلاّ بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات "
- وورد التحذير من الخمر في القرآن والحديث قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون } وقد أكد القرآن في هذه الآية تحريم الخمر والميسر وجوهاً من التأكيد : منها تصدير الجملة بانما ، ومنها أنه قرنها بعبادة الأصنام ، ومنها أنه جعلها رجساً . كما قال : { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } ومنها أنه جعلها من عمل الشيطان ، لا يأتي منه إلاّ الشر البحت ، ومنها أنه أمر بالاجتناب ، وجعل الاجتناب من الفلاح ، وهو قرينة على أن الأمر بالاجتناب طلب جازم ، ومنها أنه ذكر ما ينتج عنها من الوبال ، وهو وقوع التعادي والتباغض من أصحاب الخمر والميسر ، وما يؤديان إليه من الصد عن ذكر الله ، وعن مراعاة أوقات الصلاة . وختم كل ذلك بالنهي نهياً جازماً بصيغة الاستفهام الإنكاري بقوله : { فهل أنتم منتهون } أي انتهوا ، وهذا من أبلغ ما ينهى به ، كأنه قيل قد تلي عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والموانع ، فهل أنتم مع هذه الصوارف والموانع منتهون . وعن ابن عباس قال : " كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صديق من ثقيف ودوس ، فلقيه يوم الفتح براحلة أو راوية من حجر يهديها إليه ، فقال : يا فلان أما علمت أن الله حرّمها ؟ فأقبل الرجل على غلامه فقال اذهب فبعها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن الذي حَرّم شربها حَرّم بيعها ، فأمر بها فأفرغت في البطحاء "
- وورد التحذير من السرقة في القرآن والحديث . قال الله تعالى : { يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن } وبيعة الرسول على عدم السرقة صريح بتحريم السرقة ، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " لَعَنَ الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده " والمراد بالبيضة هنا بيضة الحديد ،
- وورد التحذير عن الردة بالقرآن والحديث قال الله تعالى : { ومن يرتدِدْ منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } وفي حديث معاذ " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أرسله إلى اليمن قال له : أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه ، فإن عاد ، وإلا فاضرب عنقه ، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها ، فإن عادت وإلا فاضرب عنقها "
- وورد التحذير من قطع الطرق في القرآن والحديث . قال الله تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض } وعن أنس " أن ناساً من عِكل وعُرَيْنَة قدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتكلموا بالإسلام فاستوخموا المدينة فأمر لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذَوْدٍ وراعٍ ، وأمرهم أن يخرجوا فليشربوا من أبوالها وألبانها ، فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحَرّة كفروا بعد إسلامهم ، وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، واستاقوا الذَوْد ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبعث الطلب في أثرهم ، فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم ، وقطع أيديهم وأرجلهم وماحسمهم ، ثمّ ألقوا في الحَرّة ، يستسقون فما سقوا حتى ماتوا "
- وورد التحذير من البغي وإشهار السيف في وجه الخليفة . قال تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : " سيخرج قوم في آخر الزمان حداث الأسنان ، سفهاء الأحلام ، يقولون من قول خير البرية ، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن قتلهم أجر لمن قتلهم إلى يوم القيامة " وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : " من حمل علينا السلاح فليس منا "
فهذه الأدلة من الكتاب والسنة تبين أنه قد ورد التحذير من جميع الحدود ، فكان ارتكاب أي منها معصية ، وبما أنه قد حدّ الشارع لهذه المعاصي حدوداً ، أي عقوبات معينة ، لذلك وجب التقيد بهذه الحدود .
ولا يجب الحدّ إلاّ على بالغ عاقل ، ملتزم أحكام المسلمين ، مسلماً كان أو ذمياً .
ويضرب الرجل قائماً بسوط وسط ، لا جديد ولا قديم ، ولا يمدّ ولا يجرد المحدود من ثيابه عند جلده ، لقول ابن مسعود : " ليس في ديننا مدّ ، ولا قيد ولا تجريد "، ولا يبالغ بضربه بحيث يشق الجلد ، لأنّ المقصود زجره لا إهلاكه ، ولا يرفع الضارب يده بحيث يبدوا إبطه ، وسن أن يفرق الضرب على بدنه ويتقى وجوباً الرأس ، والوجه ، والفرج ، والمَقَاتِل كالفؤاد والخصيتين ، لأنّه ربما أدى ضربه على شيء من هذا إلى قتله ، أو ذهاب منفعته . والمرأة كالرجل فيما ذكر ، إلاّ أنّها تضرب جالسة . وقد قال علي رضي الله عنه : " تضرب المرأة جالسة والرجل قائماً " . وأشد الجلد جلد الزنا ، ثمّ جلد القذف ، ثمّ جلد الشرب ، ثمّ جلد التعزير . لأنّ الله خص الزنا بمزيد تأكيد بقوله تعالى : { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } وما دونه أخف منه في العدد فلا يجوز أن يزيد عليه في الصفة .