شرعت العقوبات لزجر النّاس عن الجرائم ،  قال الله تعالى :  { ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب } أي في شرع القصاص لكم ،  وهو قتل القاتل ،  حكمة عظيمة ،  وهي بقاء المهج وصونها ،  لأنّه إذا علم القاتل أنه يقتل انكف عن صنعه ،  فكان في ذلك حياة للنفوس ،  ولأن الغالب من حال العاقل أنه إذا علم أنه إذا قَتل قُتل ،  أنه لا يُقدم على القتل ،  وهكذا جميع الزواجر .  ومعنى كونها زواجر أن ينزجر النّاس .

 والجريمة هي الفعل القبيح ،  والقبيح هو ما قبحه الشرع ،  ولذلك لا يعتبر الفعل جريمة إلاّ إذا نص الشرع على أنه فعل قبيح ،  فيعتبر حينئذ جريمة ،  وذلك بغض النظر عن درجة قبحه ،  أي بغض النظر عن كون الجريمة كبيرة أو صغيرة ،  فقد جعل الشرع الفعل القبيح ذنباً يعاقب عليه، فالذنب هو الجريمة بعينها! 

وليست الجريمة موجودة في فطرة الإنسان ،  ولا هي مكتسبة يكتسبها الإنسان ،  كما أنّها ليست مرضاً يصاب به الإنسان ،  وإنما هي مخالفة النظام ،  الذي ينظم أفعال الإنسان ،  في علاقته بربه وبنفسه ،  وعلاقات النّاس بعضهم ببعض .  وذلك أن الإنسان قد خلقه الله تعالى ،  وخلق فيه غرائز وحاجات عضوية ،  وهذه الغرائز والحاجات العضوية طاقات حيوية في الإنسان ،  تدفعه لأنّ يسعى لإشباعها .  فهو يقوم بالأعمال التي تصدر عنه من أجل هذا الإشباع .  وترك هذا الإشباع دون نظام يؤدي إلى الفوضى والاضطراب ،  ويؤدي إلى الإشباع الخاطئ ،  أو الإشباع الشاذ .  وقد نظّم الله إشباع هذه الغرائز والحاجات العضوية ،  حين نظّم أعمال الإنسان .  بالأحكام الشرعية ،  فبين الشرع الإسلامي الحكم في كل حادثة تحدث للإنسان ،  وشرع الحلال والحرام ،  ولهذا ورد الشرع بأوامر ونواه ،  وكلف الإنسان العمل بما أمر به ،  واجتناب ما نهى عنه .  فإذا خالف ذلك فقد فعل القبيح ،  أي فعل جريمة ،  فكان لا بد من عقوبة لهذه الجرائم ،  حتى يأتمر النّاس بما أمرهم الله به ،  وينتهوا عما نهاهم عنه ،  وإلا فلا معنى لتلك الأوامر والنواهي ،  إذا لم يكن عقاب على مخالفتها .  وقد بين الشرع الإسلامي أن على هذه الجرائم عقوبات في الآخرة ،  وعقوبات في الدنيا .

أما عقوبة الآخرة فالله تعالى هو الذي يعاقب بها المجرم ،  فيعذبه يوم القيامة قال الله تعالى :  { يُعرَف المجرمون بسيماهم فيؤخذُ بالنواصي والأقدام } .  وقال تعالى :  { والذين كفروا لهم نار جهنم } .  وقال عز شأنه :  { والذين يكنزون الذهب والفضة ،  ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ،  يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بهم جباههم وجنوبهم وظهورهم ،  هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون } .  وقال جلّ جلاله :  { وإن للطاغين لشر مآب ،  جهنم يصلونها فبئس المهاد } .  ومع أن الله أوعد المذنبين بالعذاب ،  إلاّ أن أمر المذنبين موكول إليه تعالى إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم ،  قال تعالى :  { إن الله لا يغفر أنْ يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } .  وتوبتهم مقبولة لعموم الأدلة .

وأما عقوبة الدنيا فيقوم بها الإمام أو نائبه ،  أي تقوم بها الدولة ،  بإقامة حدود الله ،  وتنفيذ أحكام الجنايات والتعزير ،  وتنفيذ المخالفات .  وهذه العقوبة في الدنيا للمذنب على ذنب ارتكبه تسقط عن المذنب عقوبة الآخرة ،  فتكون العقوبات زواجر وجوابر ،  أما كونها زواجر فلانها تزجر النّاس عن فعل الذنوب وارتكاب الجرائم ،  وأما كونها جوابر فلأنها تجبر عقوبة الآخرة .  فتسقط عن المسلم عقوبة الآخرة بعقوبة الدولة في الدنيا .  والدليل على ذلك ما رواه البخاري عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال :  "  كنا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مجلس فقال :  بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ،  ولا تسرقوا ولا تزنوا ،  وقرأ هذه الآية كلها ،  فمن وفي منكم فأجره على الله ،  ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة له ،  ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله عليه إن شاء غفر له ،  وإن شاء عذبه "  .  فهذا الحديث صريح في أن عقوبة الدنيا على ذنب معين ،  وهي عقوبة الدولة للمذنب ،  تسقط عنه عقوبة الآخرة ،  ومن أجل ذلك اعترف ( ماعز ) بالزنا فرجم حتى مات ،  واعترفت الغامدية بالزنا فرجمت حتى ماتت ،  واعترفت امرأة من جهينة بالزنا فرجمت حتى ماتت ،  وقال عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :  "  لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم "  فإن هؤلاء قد اعترفوا ليعاقبوا على الذنب من الدولة في الدنيا حتى تسقط عنهم عقوبة الآخرة ،  ولذلك تجد الغامدية تقول للرسول :  "  يا رسول الله طهرني "  .  وقد كان كثير من المسلمين يأتون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقرون بالجرائم التي ارتكبوها ليوقع عليهم الرسول الحد في الدنيا ،  حتى يسقط عنهم عذاب الله يوم القيامة ،  فيحتملون آلام الحد والقصاص في الدنيا ،  لأنّه أهون من عذاب الآخرة .  وعليه فالعقوبات زواجر وجوابر .

وهذه العقوبات من الدولة على الذنوب والجرائم هي الطريقة الوحيدة لتنفيذ أوامر الله ونواهيه ،  فالله تعالى شرع الأحكام ،  وشرع أحكاماً أخرى لتنفيذها ،  وهي أحكام العقوبات ،  فأمر بالمحافظة على المال قال صلى الله عليه وآله وسلم :  "  لا يحل مال امرئ مسلم إلاّ بطيب نفسه "  ،  وقال :  "  إن دمائكم وأموالكم عليكم حرام "  وشرع أحكام قطع اليد لتنفيذ أمر الله هذا ،  ونهى عن الزنا قال تعالى :  { ولا تقربوا الزنا } وشرع أحكام الجلد والرجم لتنفيذ نهي الله هذا،  وهكذا جميع الأوامر والنواهي جعل طريقة تنفيذها العقوبة على عدم التنفيذ من قبل الدولة ،  ومن هنا كانت طريقة تنفيذ أحكام الشرع عقوبة من لم ينفذها ،  أي عقوبة من خالفها بعقوبات محددة حددها ،  أو بجعله للحاكم تقدير عقوبتها .