أصول الفقه الإسلامي

العزيمة هي ما شرع من الأحكام تشريعاً عاماً، وألزم العباد بالعمل به. والرخصة ما شرع من الأحكام تخفيفاً للعزيمة لعذر،ولم يلزم العباد العمل به، مع بقاء حكم العزيمة.

  • فمثلاً الصوم عزيمة، والفطر للمريض رخصة.
  • وغسل العضو في الوضوء عزيمة، والمسح على العضو المجروح أو المكسور رخصة.
  • والصلاة قائماً عزيمة، والقعود في الصلاة عند العجز رخصة،

وهكذا. فالعزيمة ما كان تشريعه عاماً، فلا تختص ببعض المكلفين دون البعض، ولا يخير بين العمل بها والعمل بغيرها، بل يلزم بالعمل بها وحدها. والرخصة ما كان تشريعه طارئاً لعذر، فيكون تشريعه معتبراً ما وجد العذر، ولا يعتبر إذا زال العذر، وهو خاص بالمكلفين المتصفين بهذا العذر وحده.

المستثنى عزيمة

وعلى هذا لا يكون الحكم المستثنى من عموم نص رخصة بل هو عزيمة، وكذلك لا يكون الحكم الذي يختص ببعض الحالات رخصة بل هو عزيمة؛ لأن هذه حالات وليست أعذاراً. فمثلاً

  • عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام، وعدة الحامل المتوفى عنها زوجها أن تضع حملها. فهذا الحكم مستثنى من ذاك فلا يكون رخصة.
  • وأيضاً البيع، إذا استوفى شروطه ولم يكن منهياً عنه، صحيح. والبيع بالغبن الفاحش، وإن استوفى شروطه وكان غير منهي عنه، بيع فاسد، يخير صاحبه فيه فلا يكون رخصة.
  • وبيع ما لم يقبض باطل، وبيع الحيوان الذي لم يقبض صحيح فلا يكون ذلك رخصة.
  • وعلى هذا فإن السلم، والعرايا، والمساقاة، وشبه ذلك من العقود، عزيمة وليس برخصة،
  • وكذلك جميع المباحات عزيمة وليس رخصة.

وذلك أن المراد من إلزام العباد العمل به، أي العمل بالحكم، سواء أكان واجباً أم مندوباً أم مباحاً أم كان حراماً أم مكروهاً. ألا ترى أن أكل الميتة حرام، وأكل المضطر جائز فهو رخصة، فيكون العمل بالحكم، لا القيام بنفس العمل. وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم في العرايا: «أَرْخَصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا» أخرجه مالك. فالمراد بها المعنى اللغوي وهو سهل عليكم.

ومثل ذلك جميع العقود التي سهل الله على الناس فإنها عزائم؛ لأنها ليست مستثناة من أصل ممنوع لعذر يذهب استثناؤها حين يذهب العذر، بل هي مشروعة تسهيلاً للعباد، وتشريعها عام ودائمي. وهناك فرق بين من لا يقدر على الصلاة قائماً، أو يقدر بمشقة فيصلي جالساً، وإن كان مخلاً بركن من الأركان فلم يتحتم عليه القيام، فهذا رخصة، وبين أن يشتري الرجل تمر النخلات لطعام أهله رطباً بخرصها ثمراً، فهذا ليس رخصة؛ لأنه ليس استثناء لعذر، بل هو حالة جاز فيها بيع الرطب باليابس، فهي وإن كانت مستثناة، ولكنها لم تشرع لعذر حتى تكون رخصة، وإنما شرعت تسهيلاً على الناس، فهو من تسهيل التشريع وليس من الأعذار، فليس برخصة.

الرخصة

والرخصة حتى تعتبر رخصة شرعاً لا بد أن يدل عليها دليل شرعي، وما لم يدل عليه دليل شرعي لا يعتبر رخصة، فإنها حكم شرعه الله لعذر. فالعذر سبب شرعية الحكم، فلا بد أن يدل عليه دليل شرعي. على أن الرخصة تعتبر من الأسباب الشرعية، وهي نفسها حكم من أحكام الوضع، وهي خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد بالوضع، وما دامت هي نفسها خطاب الشارع، فلا بد من أن يكون هناك دليل شرعي يدل عليها.

  • فالعمى، والعرج، والمرض، أعذار في القعود عن الجهاد، قال تعالى: (( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ))
  • والسفر عذر في الإفطار في رمضان، قال تعالى: (( وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ))
  • والنسيان، والخطأ، والإكراه، أعذار ترفع الإثم إذا وقع صاحبها في محرم، قال عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» أخرجه ابن ماجه،
  • والجهل فيما يجهل مثله على مثله عذر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم سمع معاوية بن الحكم يشمت عاطساً وهو في الصلاة، فبعد أن فرغوا من الصلاة، علمه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن الكلام يبطل الصلاة، حيث قال له صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه مسلم: «إِنَّ هَذِهِ الصَّلاةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ، وَالتَّكْبِيرُ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ» ولم يأمره بإعادة الصلاة.

فهذه أعذار ورد الدليل الشرعي بها فتعتبر أعذاراً، وهكذا كل ما وردت فيها أدلة أنها أعذار معينة لأحكام معينة تعتبر أعذاراً، وما لم يرد فيه دليل لا قيمة له، ولا يعتبر عذراً شرعياً مطلقاً.

العذر والعلة

وهذه الأعذار اعتبرت أعذاراً لذاتها، لا لما فيها من علة؛ وذلك لأن الدليل الشرعي الذي دل على أنها أعذار لم يعلل اعتبارها عذراً، بل أطلق ذلك فلا تعلل؛ لأن الشرع لم يعللها، وجعل كل عذر منها عذراً للحكم الذي جاء عذراً له لا لغيره، فهو يعتبر عذراً خاصاً بالحكم الذي جاء له، وليس عذراً عاماً لكل حكم؛ ولذلك كان العمى عذراً لترك الجهاد، ولم يكن عذراً لترك الصلاة. وفوق ذلك، فإن هذه الأعذار، وهي: المرض، والعرج، والسفر، والنسيان، والإكراه، والخطأ، وإن كانت أوصافاً، ولكنها وصف غير مفهم أنه للتعليل، وغير مفهم وجه العلية؛ ولذلك لا يقاس عليه، ولا يؤخذ سبباً لعليته، أي علة لاعتباره علة، فيطبق عليه حكم العلة؛ ولهذا لا يقال إن السفر علة لأن فيه مشقة، بل السفر علة لأن الله اعتبره علة، لا لأنه شاق، أي إنه علة قاصرة؛ ولذلك يقصر المسافر مسافة القصر ولو سافر بطائرة، ولا يقصر المسافر دون مسافة القصر ولو سافر في شدة الحر في الصحراء؛ لأن المشقة ليست العذر الذي رخص في القصر، بل العذر الذي رخص في القصر هو السفر، من حيث كونه سفراً، بغض النظر عن المشقة، وهكذا سائر الأعذار التي ترتب عليها رخص بالنص الشرعي.

العمل بالرخصة أو العزيمة

هذا من حيث حقيقة الرخصة والعزيمة شرعاً. أما من حيث العمل بالرخصة أو بالعزيمة، فإن العمل بأيهما شاء مباح، فله أن يعمل بالرخصة، وله أن يعمل بالعزيمة؛ وذلك لأن نصوص الرخص دالة على ذلك.

  • قال تعالى: (( فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) وقـال: (( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ)) فجعل الرخصة في رفع الإثم عن الأكل وهو الإباحة، وغفر له فعله وهو الإباحة.
  • وقال تعالى: (( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ)) ورفع الجناح يعني الإباحة.
  • وقال تعالى: (( وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)) وهو الإباحة،

فأدلة الرخص نفسها تعطي الإباحة، وليس الوجوب، أو الندب. وأيضاً

  • فقد روى مسلم عن حمزة بن عمرو أنه قال: «يَا رَسُولَ اللَّه، أَجِدُ بِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ؟ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم هِيَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ»
  • وعن أبي سعيد قال: «سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَيَصُومُ الصَّائِمُ، وَيُفْطِرُ الْمُفْطِرُ، فَلاَ يَعِيبُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ» أخرجه مسلم.

فهذه النصوص تدل دلالة صريحة على أن الرخصة مباحة هي والعزيمة، فله أن يأخذ بأيهما شاء.

قد يقال ...

وقد يقال إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ الَلَّهَ يُحِبُ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ، كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ» أخرجه ابن حبان. وهذا طلب، وهو دليل على أنه مندوب، والمضطر إذا خاف الهلاك على نفسه، وجب عليه أكل لحم الميتة، ويحرم عليه الامتناع عن أكلها. والغاص الذي لا يجد إلا الخمر، يجب عليه أن يزيل غصته بالخمر إذا خاف الهلاك، ويحرم عليه أن يمتنع ويهلك. والصائم إذا بلغ به الجهد حد الهلاك، يجب عليه أن يفطر، ويحرم عليه أن يظل صائماً ويهلك، وهكذا؛ مما يدل على أن العمل بالرخصة فرض؛ ولذلك قد تكون الرخصة فرضاً، وقد تكون مندوباً، وقد تكون مباحاً.

والجواب ...

والجواب على ذلك هو:

  • أن الكلام في الرخصة من حيث هي رخصة. والرخصة من حيث هي رخصة مباحة قطعاً بدليل الأدلة السابقة. فالرخصة من حيث تشريعها حكمها الإباحة.
  • وأما قول الرسول: «إِنَّ الَلَّهَ يُحِبُ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ» الحديث، فليس في الحديث دلالة على الندب، بل هو يدل على الإباحة؛ لأنه يبين أن الله يحب أن تؤتى الرخص، ويحب أن تؤتى العزائم، وليس طلب أحدهما بأولى من طلب الآخر، فنص الحديث هو: «إِنَّ الَلَّهَ يُحِبُ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ، كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ» ولذلك لا دلالة في الحديث على أن العمل بالرخصة قد يكون مندوباً.
  • وأما أكل لحم الميتة فلا يعني بالمضطر الذي يتحقق الهلاك، بل مجرد خوف الهلاك يعتبر مضطراً، وهذا يكون له الأكل مباحاً وليس واجباً، ولكن إذا تحقق الهلاك لو لم يأكل، فحينئذ حرم عليه أن يمتنع عن الأكل، ووجب عليه أن يأكل، وهذا ليس لأنه رخصة، بل لأنه صار واجباً. وذلك أن العمل بالعزيمة، وهو الامتناع عن الأكل، مباح، ولكنه مباح صار يؤدي حتماً إلى الحرام، وهو هلاك النفس، فصار حراماً عملاً بالقاعدة الشرعية «الوسيلة إلى الحرام حرام» فعمل العزيمة هنا صار حراماً، فيصبح العمل بالرخصة واجباً، لسبب عارض وهو تحقق الهلاك، وهذا ليس حكم الرخصة من حيث هو، بل حالة من الحالات التي تنطبق عليها قاعدة «الوسيلة إلى الحرام حرام». وهذا ليس خاصاً بالرخصة، بل هو عام لجميع المباحات،
  • ومثل ذلك شرب الغاص للخمر، وإفطار المتحقق للهلاك، وغير ذلك. وعلى هذا، فإن الرخصة من حيث هي، ومن حيث تشريعها رخصة، حكمها أنها مباحة، فإذا أوصل تركها والعمل بالعزيمة إلى حرام، توصيلاً محتماً، صار المباح حراماً.