العقوبات أربعة أنواع هي :  الحدود ،  والجنايات ،  والتعزير ،  والمخالفات .

أما الحدود فالمراد منها عقوبات المعاصي المقدرة لأجل حق الله .  وسميت حدوداً لأنّها تمنع العاصي من العود إلى تلك المعصية التي حدَّ لأجلها في الغالب ،  ويطلق الحد على نفس المعصية ومنه قوله تعالى :  { تلك حدود الله فلا تقربوها } كما يطلق على عقوبة تلك المعصية .  وكلمة حد وحدود بمعنى عقوبات المعاصي لا تطلق إلاّ على المعاصي التي فيها حق الله تعالى ،  ولا تطلق على غيرها ،  ولا يصح فيها العفو ،  لا من الحاكم ،  ولا من الذي اعتدى عليه ،  لأنّها حق الله ،  فلا يملك أحد من البشر إسقاطه ،  ولا بحال من الأحوال .

واما الجنايات فإنها تطلق على التعدي على البدن ،  مما يوجب قصاصاً أو مالاً ،  فتشمل الاعتداء على النفس ،  والاعتداء على أعضاء الجسم .  والمراد منها هنا العقوبات التي توقع على هذا التعدي .  وهذه العقوبات فيها حق العبد ،  وما دامت متعلقة بحق العبد فإنّه يجوز لصاحب الحق أن يعفو ،  وأن يسقط حقه .  قال الله تعالى :  { فمن عُفي له من أخيه شيء } بعد قوله :  { كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } أي فمن عفا له أخوه في الدين من أولياء الدم عن شيء من حقهم في القصاص ،  مما يدل على جواز أن يعفو صاحب الحق في الجنايات عن حقه .  وقد وردت أحاديث كثيرة تبين جواز أن يعفوا صاحب الحق .  فعن أبي شريح الخزاعي قال :  سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :  "  من أصيب بدم أو خبل ( والخبل الجراح ) فهو بالخيار بين إحدى ثلاث :  إما أن يقتص ،  أو يأخذ العقل ،  أو يعفوا ،  فإن أراد رابعة فخذوا على يديه "  عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :  "  ما عفا رجل عن مَظْلِمة إلا زاده الله بها عزاً "  وعن أنس قال :  "  ما رُفع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر فيه القصاص إلاّ أمر فيه بالعفو "  .  وهذه كلها أدلة على جواز العفو .  وما دامت ليس فيها حق الله تعالى فإن عفو صاحب الحق يستوجب عفو الحاكم ،  فيعفو الحاكم عن المعتدي عفواً تاماً ،  بمجرد صدور العفو من صاحب الحق .  ولا يقال إن في هذه الجنايات حق عامة الرعية وهو الأمن ،  لا يقال ذلك لأنّ وجود حق فيها لعامة المسلمين يحتاج إلى دليل يدل عليه ،  ولا دليل على ذلك .  ولأنّ المعمول به في عصر الصحابة رضوان الله عليهم أنه كان إذا عفي عن المعتدي من قبل صاحب الحق أسقطت عنه العقوبة .  فقد أخرج الطبراني :  "  أن علياً رضي الله عنه  أُتي برجل من المسلمين قتل رجلاً من أهل الذمّة فقامت عليه البينة :  فأمر بقتله ،  فجاء أخوه فقال :  إني قد عفوت ،  قال :  فلعلهم هددوك وفرقوك وقرعوك ؟ قال :  لا ،  ولكن قتله لا يرد علي أخي ،  وعرضوا لي ورضيت ،  قال :  أنت أعلم ،  من كان له ذمتنا فدمه كدمنا ،  وديته كديتنا "  مما يدل على أن العفو عن المعتدي من قبل صاحب الحق يسقط عنه العقوبة .

وأما التعزير فهو عقوبة على معصية لا حد فيها ولا كفارة .  فالمعصية إذا ارتكبت ينظر فيها ،  فإن كانت مما قدّر الله لها عقوبة معينة ،  أي كانت داخلة تحت الحدود ،  فإنّه يعاقب مرتكبها بالحد الذي شرعه الله ولا تعزير ،  وكذلك إن جعل لها كفارة معينة فإنّه يجبر مرتكبها على الكفارة .  وأما إن لم تكن داخلة تحت الحدود ،  ولم يجعل الشارع كفارة لها ،  فإنها تدخل تحت عقوبة التعزير .  وأما التعدي على البدن فلا تعزير فيه لأنّ عقوباته قد بينها الشارع .

والتعزير يختلف عن الحدود والجنايات فالحدود والجنايات عقوبات مقدرة معينة من الشارع ،  وهي لازمة ولا يجوز استبدالها ولا الزيادة والنقصان فيها ،  أما التعزير فهو عقوبة غير مقدرة بعينها ،  ولا لازمة بعينها .  وأيضاً فإن الحدود والجنايات لا تقبل العفو ،  ولا الإسقاط من قبل الحاكم إلاّ العفو من صاحب الحق في الجنايات وهذا بخلاف التعزير ،  فإنّه يقبل العفو والإسقاط .  فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يعزر من قال له :  إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله ،  وعفا عنه ،  مع أن القائل ارتكب معصية تستحق العقوبة .  ثمّ إن الحدود والجنايات لا تختلف باختلاف النّاس ،  فجميع النّاس فيها سواء لعموم الأدلة بخلاف التعزير فإنّه يجوز أن يختلف باختلاف النّاس ،  فتراعى فيه عدم السوابق ،  وأصحاب السلوك الحسن ،  وغير ذلك ،  فقد ورد عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :  "  أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلاّ الحدود "  والمراد بعثراتهم هنا مخالفتهم لأوامر الله ونواهيه ،  بدليل قوله "  إلا الحدود "  فهو قرينة على المعنى المراد ،  وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :  "  الأنصار كرشي وعيبتي والناس سيكثرون ويقلون فاقبلوا من محسنهم وتجاوزا عن مسيئهم "  والمراد بالتجاوز العفو ،  والمسيء يشمل مرتكب المعصية لأنّه مسيء .  فهذا كله يدل على أن التعزير يصح فيه أن يختلف قدر العقوبة باختلاف أحوال النّاس وظروفهم ،  فيعاقب شخص على معصية بالسجن ،  ويعاقب شخص آخر على نفس المعصية بالتوبيخ ،  أو اللوم والتأنيب .

وأما المخالفات فهي العقوبات التي يوقعها الحاكم على من يخالف أوامر السلطان ،  سواء الخليفة أو غيره من المعاونين والولاة والعمال ونحوهم ،  ممن عمله من أعمال الحكم ،  وكانت له صلاحية في إعطاء الأوامر .  فهذه العقوبة على مخالفة الأمر هي عقوبة المخالفة ،  وكذلك تطلق المخالفة على نفس الفعل الذي خالف فيه أمر الحاكم ،  فهي تطلق على الفعل وتطلق على عقوبة الفعل .  وإنما جعلت المخالفة عقوبة من العقوبات التي أمر بها الشارع ،  لأنّ مخالفة أمر الحاكم معصية من المعاصي ،  فإن الله قد أمر بطاعة أولي الأمر بصريح القرآن .  قال تعالى :  { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } وأمر بطاعة الأمير بصريح الأحاديث ،  عن أم الحصين الأحمسية أنّها سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول :  "  اسمعوا وأطيعوا وان أُمِّر عليكم عبدٌ حبشي ما أقام فيكم كتاب الله عز وجل "  وعن أنس قال :  قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :  "  اسمعوا وأطيعوا وإن استُعمِل عليكم عبد حبشي كأنّ رأسه زبيبة "  فهذا دليل على وجوب طاعة الأمير ،  والياً كان أو عاملاً ،  وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :  "  من أطاعني فقد أطاع الله ،  ومن عصاني فقد عصى الله ،  ومن أطاع أميري فقد أطاعني ،  ومن عصى أميري فقد عصاني "  وفي رواية أخرى " ومن يطع الأمير فقد أطاعني ، ومن يعص الأمير فقد عصاني " فهذا صريح بأن مخالفة الحاكم معصية .  ومن هنا كانت عليها عقوبة ،  وبما أن الشارع لم يعين لها عقوبة معينة فإن للقاضي أن يقدر العقوبة عليها ،  وللحاكم أن يقدر العقوبة التي يراها على تلك المعصية ،  ولهذا فإن بعض الفقهاء يدخلون المخالفات في باب التعزير ،  لأنّها عقوبة على معصية لم يقدرها الشارع ،  لكن الحق أنها ليست من باب التعزير ،  لأنّها ليست مخالفة لأمر الله ،  والتعزير خاص بمخالفة أوامر الله ونواهيه ،  وهذه ليست كذلك ،  ولكنها لأنّها مخالفة لأمر الله بطاعة الحاكم ،  فكانت عقوبة خاصّة يقدرها الحاكم ،  وبقدر ما تستحق مخالفته من أوامره ونواهيه من عقوبات ،  وعليه فإن المخالفات خاصّة بمخالفة الأوامر التي يصدرها الحاكم من عنده ،  لما له من صلاحيات أعطاه إياها الشرع .

وينبغي أن يعلم أن الأوامر التي يصدرها الحاكم من عنده ،  سواء أكانت من نوع المأمورات ،  أم من نوع المنهيات محصورة فيما جعل الشرع له أن يدبره برأيه واجتهاده ،  وذلك كإدارة بيت المال ،  وكإقامة المدن ،  وتنظيم الجيوش ،  وغير ذلك .  فهذه التي جعل الشارع له أن يقوم بها برأيه واجتهاده هي التي له أن يأمر فيها بأشياء ،  وينهى عن أشياء ،  وهذه هي التي تعتبر مخالفته فيها معصية .  عملاً بحديث :  "  ومن يعص الأمير فقد عصاني "  وهذه هي التي تدخل تحتها المخالفات ،  أما غيرها فلا تعتبر من المخالفات ،  ولو أمر بها أمير المؤمنين .  وذلك أن الخليفة لا يحّل حراماً ،  ولا يحرّم حلالاً ،  فلا يحل له أن يجعل المندوب أو المباح واجباً ،  ولا أن يجعل المكروه حراماً .  فإن فعل ذلك لم تجب طاعته ،  ولا تعتبر مخالفة أوامره معصية فإذا ألزم النّاس بمباح ،  أو بمندوب فإنّه يكون قد أوجبه عليهم ،  وإذا منع النّاس من مكروه فإنّه يكون قد حرمه عليهم ،  وكذلك لا يجوز له أن يبيح حراماً ،  أو يحرّم مباحاً ،  لأنّه يكون قد حرّم الحلال وأحل الحرام . وذلك قد جاء النهي عنه صريحا في القرآن ، وجاء عاماً يشمل الخليفة وغيره ،  وإنما للخليفة أن يأمر وينهى فيما جعل الشرع له أن يقوم به برأيه واجتهاده ،  وعليه فالمخالفات محصورة في نوع واحد هو الأمور التي للحاكم أن يدبرها برأيه واجتهاده .

هذه هي أنواع العقوبات ،  ولا يوجد غيرها مطلقاً ،  وكل ما يصدر من الإنسان من أفعال يستحق عليها العقاب داخلة تحت هذه الأنواع الأربعة ،  لأنّها إما معاصٍ قد قدر الشرع لها عقوبة ،  أو معاصٍ لم يقدر لها الشرع عقوبة ،  وإما اعتداء على بدن ،  فهذه ثلاثة أفعال ،  والفعل الرابع هو معصية الحاكم ،  فهذه أربعة أنواع ،  وتفصيلاتها تكون في أربعة أبواب .