القول بأن الحجاب بمعنى النقاب مفروض على النساء في الإسلام يسترن به وجوههن ما عدا عيونهن هو رأي إسلامي، قاله بعض الأئمة المجتهدين من أصحاب المذاهب. والقول بأن النقاب غير مفروض على النساء في الإسلام، فلا يجب على المرأة المسلمة أن تستر وجهها مطلقاً لأنه ليس بعورة، هو أيضاً رأي إسلامي، قاله بعض الأئمة المجتهدين من أصحاب المذاهب. وبما أن هذه المشكلة هي من المشاكل الاجتماعية المهمة، وتبنِّي أي رأي من هذين الرأيين يؤثر في طراز الحياة الإسلامية، لذلك كان لا بد من عرض شامل للأدلة الشرعية في هذه المشكلة، بدراستها، وتتبعها، وتطبيقها على المشكلة. حتى يتبنى المسلمون الرأي الأقوى دليلاً، وحتى تتبنى الدولة الإسلامية الرأي الأرجح برجحان الدليل.

 نعم قامت منذ أكثر من نصف قرن مناقشات حول المرأة، أثارها الكفار المستعمرون في نفوس المفتونين بالغرب، المضبوعين بثقافته، ووجهة نظره في الحياة. فحاولوا أن يدسّوا على الإسلام آراء غير إسلامية، وحاولوا أن يفسدوا وجهة نظر المسلمين، وابتدعوا فكرة الحجاب والسفور، ولم يتصدّ لهم العلماء المفكرون، بل تصدى لهم كتاب، وأدباء، ومتعلمون جامدون، ما مكّن لآراء هؤلاء المضبوعين، وجعل أفكارهم محل بحث ومناقشة، مع أنها أفكار غربية، جاءت لغزو الإسلام وإفساد المسلمين، وتشكيكهم في دينهم. نعم قامت هذه المناقشات ولا تزال بقاياها وآثارها ماثلة، ولكنها لا تستأهل البحث، ولا ترقى إلى درجة الأبحاث التشريعية والاجتماعية. لأن البحث إنما هو في أحكام شرعية استنبطها مجتهدون واستندوا فيها إلى دليل، أو إلى شبهة دليل، وليس البحث في آراء كتاب، أو تسميات مأجورين، أو سفسطات مخدوعين، أو ترهات مضبوعين. فما يقوله المجتهدون مستنبطين إياه من الأدلة الشرعية هو الذي يوضع موضع بحث، ويناقش مناقشة تشريعية. وكذلك يلتحق بأقوال المجتهدين مما يوضع موضع البحث أقوال بعض الفقهاء والشيوخ والمتعصبين للنقاب فتبحث لإزالة الشبهة من نفوسهم. ولهذا سنعرض لأقوال المجتهدين ولأدلتهم، حتى يتبين القول الراجح، فيلزم كل من يراه راجحاً بالعمل به، والعمل لتطبيقه.

 

  • لقد ذهب الذين قالوا بالحجاب إلى أن عورة المرأة جميع بدنها ما عدا وجهها وكفيها، إنما هو في الصلاة فحسب، أما في خارج الصلاة فقالوا إن جميع بدنها عورة، بما في ذلك وجهها وكفاها. واستندوا في قولهم هذا إلى الكتاب والسنّة.

أما الكتاب فلأن الله تعالى يقول: { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } وهو صريح في ضرب الحجاب عليهن، ويقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} وقالوا إن معنى يدنين عليهن من جلابيبهن يرخينها عليهن ويغطين بها وجوههن وأعطافهن. ويرون أن النساء كن في أول الإسلام على عادتهن في الجاهلية متبذلات تبرز المرأة في درع وخمار، لا فرق بين الحرة والأَمَة، وكان الفتيان من أهل الشطارة يتعرضون للإماء إذا خرجن بالليل إلى مقاضي حوائجهن في النخيل والغيطان، وربما تعرضوا للحرة بِعِلة الأَمَة، يقولون حسبناها أَمَة، فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء بلبس الأردية والملاحف، وستر الرؤوس والوجوه، ليحتشمن ويهبن، فلا يطمع فيهن طامع. وهذا أجدر وأولى أن يعرفن فلا يتعرض لهن. ولا يلقين ما يكرهن. ومنهم من يقول ذلك أدنى أن يعرفن هنالك (لا) محذوفة أي ذلك أجدر أن لا يعرفن جميلات أو غير جميلات فلا يؤذين. ويقول الله تعالى: { t وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } وقالوا إن أمر الله للنساء أن يقرن في بيوتهن دليل على الحجاب.

وأما السنة فلـِما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «المرأة عورة» أخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق ابن مسعود.ولقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «إذا كان لإحداكنّ مكاتَب فملك ما يؤدي فلتحتجب منه» أخرجه الترمذي من طريق أم سلمة. ولـِما رُوي عن أم سلمة قالت: «كنت قاعدة عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنا وميمونة فاستأذن ابن أم مكتوم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : احتجبن منه. فقلت يا رسول الله إنه ضرير لا يبصر، قال: أفعمياوان أنتما لا تبصرانه» أخرجه أبو داود. ولما رواه البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: «كان الفضل رديف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاءت امرأة من خثعم فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر»وعن جرير بن عبد الله قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن نظر الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري» أخرجه مسلم،وعن علي رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة» أخرجه أحمد من طريق بريدة.

هذه هي أدلة القائلين بالحجاب، والقائلين إن جميع بدن المرأة عورة. وهي أدلة لا تنطبق على المشكلة المستدل عليها بها، لأنها جميعها ليست في هذا الموضوع. أما آية الحجاب وآية {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } فلا علاقة لنساء المسلمين بها مطلقاً، وهما خاصتان بنساء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أما آية الحجاب فهي صريحة بأنها خاصة بنساء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهذا واضح من الآية إذا تليت جميعها، فهي آية واحدة مرتبطة ببعضها لفظاً ومعنى. فإن نص الآية هو { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا } فالآية نص في نساء النبي، وخاصة بهن، ولا علاقة لها بنساء المسلمين، ولا علاقة لأية نساء غير نساء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الآية. ويؤيد كون هذه الآية خاصة بنساء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما رُوي عن عائشة قالت: «كنت آكل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيساً في قصعة، فمر عمر فدعاه فأكل، فأصابت أصبعه أصبعي، فقال عمر: أواه، لو أُطاع فيكن ما رأتكن عين، فنزل الحجاب» أخرجه البخاري. وما روي عن عمر رضي الله عنه قال: «قلت: يا رسول الله، يدخل عليك البَرُّ والفاجر فلو حجبت أمهات المؤمنين. فأنزل الله آية الحجاب» أخرجه البخاري، وما روي أن عمر مرّ على نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهن مع النساء في المسجد فقال: «إن احتجبتن فإن لكن على النساء فضلاً، كما أن لزوجكن على الرجال الفضل، فقالت زينب رضي الله عنها: يا ابن الخطاب، إنك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا، فلم يلبثوا يسيراً حتى نزلت» أخرجه الطبراني. فنص الآية وهذه الأحاديث قطعية الدلالة بأنها نزلت في حق نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم تنزل في غيرهن.

وأما آية { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } فهي أيضاً خاصة بنساء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ونص الآية كاملاً هو {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) } فصدر الآية صريح بأنها نزلت في نساء النبي خاصة بهن، لأن الخطاب لنساء النبي، ولأنه تخصيص بهن { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ } ولا يوجد أبلغ ولا أدل من هذا النص على أن هذه الآية نزلت في نساء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم . وعليه فإن { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ £} التي يحتجون بها هي خاصة بنساء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم . وقد أكد ذلك في الآية التي بعدها مباشرة، فإنه بعد قوله { تَطْهِيرًا } عقب ذلك فقال { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) } فذكرهن بأن بيوتهن مهابط الوحي، وأمرهن أن لا ينسين ما يتلى فيها من القرآن.

فهاتان الآيتان صريحتان بأنهما لنساء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنهما خاصتان بنساء الرسول، فلا دلالة في أي منهما على حكم للنساء المسلمات غير نساء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم . على أن هنالك آيات أخرى خاصة بنساء الرسول مثل قوله تعالى: { وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} فلا يجوز لنساء الرسول أن يتزوجن بعده، بخلاف النساء المسلمات فإنهن يتزوجن بعد أزواجهن، وآيتا الحجاب هاتان خاصتان بنساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم كآية تحريم زواجهن بعده.

ولا يقال هنا إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وان سبب نزول الآيات هو نساء الرسول وهي عامة فيهن وفي غيرهن، لا يقال ذلك لأن سبب النزول هو حادثة وقعت، فكانت سبب النزول. أما هنا فليست نساء الرسول حادثة وقعت، وإنما هو نص معين جاء بحق أشخاص معينين، فقد نص على شخصهن، فقال: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ } وقال: { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا } والضمير لنساء الرسول، ومعين بهن ليس غير، وعقب ذلك بقوله: { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ مما يشعر بعلة حجابهن، وكل ذلك يعين أن الآيتين نص جاء بحق نساء الرسول، فلا تنطبق عليهما قاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

وكذلك لا يقال إن خطاب نساء الرسول خطاب للنساء المسلمات، لأن كون الخطاب المعين لشخص معين خطاباً للمؤمنين إنما هو خاص بالرسول محمد عليه الصلاة والسلام، ولا يشمل خطاب نسائه، فخطاب الرسول خطاب للمؤمنين، أما خطاب نسائه فهو خاص بهن، لأن الرسول هو محل القدوة في كل خطاب أو فعل أو سكوت، ما لم يكن من خصوصياته صلى الله عليه وآله وسلم . أما نساء الرسول فلسن محل القدوة، لأن الله يقول { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } ولا يصح أن تكون نساء الرسول قدوة، بمعنى أن يفعل الفعل لأنهن يفعلنه أو يتصف بالصفة لأنهن يتصفن بها، بل هو خاص بالرسول لأنه لا يتبع إلا الوحي.

وكذلك لا يقال إنه إذا كانت نساء الرسول وهُن الطاهرات اللواتي يتلى الوحي في بيوتهن يطلب منهن الحجاب، فإن غيرهن من النساء المسلمات أولى أن يطلب منهن. لا يقال ذلك لسببين:

  1. أن هذا ليس من قبيل الأولى، لأن الأولى هو أن ينهى الله عن الصغير، فيكون نهياً عن الكبير من باب أولى، كقوله تعالى: { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } فمن باب أولى أن لا يضربهما. والأولى يفهم من سياق الكلام كقوله تعالى: { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } فأداء ما دون القنطار من باب أولى، وعدم أداء ما فوق الدينار من باب أولى. وآية الحجاب ليست من هذا القبيل، لأن سياق الآية لا يدل إلا على نساء النبي، ولا يدل على مفهوم آخر. ولفظ نساء النبي ليس وصفاً مفهماً حتى يقال غير نساء النبي من باب أولى. بل هو اسم جامد فلا يتأتى أن يكون له مفهوم، فيكون الكلام خاصاً بالشيء الذي جاء النص عليه، ولا يتعداه إلى غيره ولا مفهوم له. ولا يتأتى في الآية موضوع من باب أولى مطلقاً، لا من ألفاظ الآية، ولا من سياقها.
  2. أن هاتين الآيتين أمر لأشخاص مخصوصين قد نص عليهم بعينهم للاتصاف بصفات معينة، فلا يكون أمراً لغيرهم مطلقاً، لا لمن هو أعلى منهن، ولا لمن هو أدنى منهن، لأنه وصف معين، وهو مختص بأشخاص معينين. فهو أمر لنساء الرسول بوصفهن نساء الرسول لأنهن لسن كأحد من النساء ولأن هذا العمل يؤذي الرسول.

وإذا انتفى انطباق قاعدة (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) وانتفى الاقتداء بنساء الرسول، وانتفى كون غيرهن من باب أولى، وثبت أن النص قطعي في كونه لنساء الرسول، فقد ثبت أن هاتين الآيتين خاصتان بنساء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا تشمل النساء المسلمات مطلقاً، ولا بوجه من الوجوه. فيثبت بذلك أن الحجاب خاص بنساء الرسول، والمكث بالبيوت خاص بنساء الرسول. وانتفى الاستدلال بهما على كون الحجاب قد شرع للنساء المسلمات.

وأما الآية الثانية وهي قوله تعالى: { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ } فإنها لا تدل على تغطية الوجه بحال من الأحوال، لا منطوقاً ولا مفهوماً، ولا يوجد فيها أي لفظ يدل على ذلك، لا مفرداً، ولا من وجوده في الجملة، على فرض صحة سبب النزول. فالآية تقول { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ } ومعناها يرخين عليهن من جلابيبهن، و (من) هنا ليست للتبعيض وإنما هي للبيان أي يرخين عليهن جلابيبهن. ومعنى أدنى الستر: أرخاه، وأدنى الثوب أرخاه، ومعنى يدنين يرخين. والجلباب هو الملحفة، وكل ما يستر به من كساء وغيره. أو هو الثوب الذي يغطي جميع الجسم. قال في القاموس المحيط: (والجلباب كسرداب وكسنمار: القميص وثوب واسع للمرأة دون الملحفة أو ما تغطي به ثيابها كالملحفة) وقال الجوهري في الصحاح: (الجلباب الملحفة وقيل الملاءة) ، وقد ورد في الحديث: الجلباب بمعنى الملاءة التي تلتحف بها المرأة فوق ثيابها. فعن أُم عطية رضي الله عنها قالت: «أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى، العواتق والحيض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير، ودعوة المسلمين. قلت: يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جلباب. قال: لتلبسها أختها من جلبابها» أخرجه مسلم، ومعناه ليس لها ثوب تلبسه فوق ثيابها لتخرج فيه، فأمر بأن تعيرها أختها من ثيابها التي تلبس فوق الثياب، فيكون معنى الآية هو: إن الله طلب من الرسول أن يقول لأزواجه وبناته ونساء المؤمنين أن يرخين عليهن ثيابهن التي تلبس فوق الثياب إلى أسفل، بدليل ما روي عن ابن عباس أنه قال: الجلباب الرداء يستر من فوق إلى أسفل. فالآية تدل على إرخاء الجلباب - وهو الثوب الواسع - إلى أسفل، ولا تدل على غير ذلك. فمن أين يمكن أن يفهم أن معنى يدنين عليهن من جلابيبهن أن يجعلن ثوبهن على وجههن؟ مهما فسرت كلمة يدنين ومهما فسرت كلمة جلباب، في حدود المعنى اللغوي والمعنى الشرعي؟، بل الآية نص في إرخاء الثياب، وإرخاؤها إنما هو إلى أسفل، وليس رفعها إلى أعلى. وعلى ذلك فليس في هذه الآية أي دليل على حجاب، لا من قريب ولا من بعيد. والقرآن تفسر ألفاظه وجمله بمعناها اللغوي والشرعي، ولا يجوز أن تفسر في غيرهما، والمعنى اللغوي واضح بأنه أمر للنساء بأن يرخين عليهن جلابيبهن، أي ينزلن ويسدلن ثيابهن التي يلبسنها فوق الثياب إلى أسفل حتى تغطي القدمين. وقد ورد هذا المعنى في إرخاء الثوب إلى أسفل في الحديث الشريف، فعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «من جرَّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فقالت أُم سلمة: فكيف يصنع النساء بذيولهن، قال: يرخين شبراً قالت: إذن ينكشف أقدامهن، قال: فيرخينه ذراعاً لا يزدن عليه» أخرجه الترمذي.

هذا بالنسبة للآيات التي يستدل بها من يدّعون أن النقاب للنساء المسلمات قد شرعه الله، أما بالنسبة للأحاديث التي استدل بها على النقاب فلا تدل عليه، فإن حديث المكاتَب إذا ملك ما يؤدي إلى عتقه يُحتجب عنه خاص بنساء الرسول، ويؤيد ذلك حديث آخر، فعن أبي قلابة قال: «كان أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يحتجبن من مكاتَب ما بقي عليه دينار» أخرجه البيهقي،فلا دلالة في الحديث على أن المرأة المسلمة تحتجب. وأما حديث أم سلمة وطلب الرسول منها ومن ميمونة أن تحتجبا فإنه خاص بنساء الرسول، والحديث نص في أم سلمة وميمونة، ونص الحديث هو: عن ابن شهاب عن نبهان مولى أم سلمة أنها حدثته: «كنت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وميمونة، فبينما نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه وذلك بعدما أُمِرْنا بالحجاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «احتجبا منه. فقلت: يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه» أخرجه الترمذي وهو حسن صحيح. وأما ما روي عن عائشة قالت: «كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله محرمات فإذا حاذى بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزنا كشفناه» فإنه يتناقض مع ما رواه البخاري عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين» قال في الفتح: والنقاب الخمار الذي يشد على الأنف أو تحت المحاجر. فحديث عائشة ينص على أن النساء المحرمات قد غطين وجوههن عندما كانت تمر بهن الركبان. وحديث ابن عمر يدل على النهي عن لبس النقاب وهو لا يغطي إلا القسم الأسفل من الوجه فكيف يتفق ذلك مع ستر الوجه كله بالثوب بإسداله على الوجه. وبالرجوع للحديثين تبين أن حديث عائشة هذا قد أعلَّ بأنه من رواية مجاهد عن عائشة. وقد ذكر يحيى بن سعيد القطان ويحيى بن معين وأبو حاتم الرازي أن مجاهداً لم يسمع منها. ومع أن هناك من توقع سماع مجاهد من عائشة رضي الله عنها مثل ما نقل عن علي بن المديني قوله: «لا أنكر أن يكون مجاهد يلقى جماعةً من الصحابة، وقد سمع من عائشة». ومثل من صرح بسماع مجاهد من عائشة في حديث آخر عند البخاري، إلا أن أبا داود بعد روايته حديث الركبان سكت عنه. والمعروف أن أبا داود إذا سكت عن حديث عنده اعتبر الحديث صالحاً يجوز الاحتجاج به، إلا أن يخالفه حديث أصح منه فيترك. وحيث إن حديث ابن عمر حديث صحيح قد رواه البخاري، وهو أقوى من حديث عائشة في أحسن أحواله، لذلك يرد حديث عائشة لمعارضته للحديث الصحيح ولا يحتج به. وأما الحديث الذي فيه الفضل بن عباس فليس فيه دليل على النقاب بل فيه دليل على عدم النقاب لأن الخثعمية كانت تسأل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهي كاشفة الوجه بدليل نظر الفضل إليه وبدليل ما جاء في رواية أخرى لهذا الحديث «فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الفضل فحوّل وجهه من الشق الآخر» وروى هذه القصة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وزاد «فقال له العباس: يا رسول الله، لِمَ لويت عنق ابن عمك؟ قال: رأيت شاباً وشابة فلم آمن الشيطان عليهما» فيكون حديث الخثعمية دليلاً على عدم وجود النقاب لا على النقاب. لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يراها وهي كاشفة الوجه. فأما تحويله نظر الفضل، فلأنه رأى أنه ينظر إليها بشهوة وتنظر إليه، بدليل رواية علي «فلم آمن الشيطان عليهما» ولذلك حوّله لأنه نظر بشهوة لا لأنه نظر، والنظر بشهوة ولو إلى الوجه والكفين حرام. وأما حديث نظر الفجاءة فإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أمر جريراً أن يصرف بصره، أي يغضه، وهو من قبيل غض النظر الوارد في قوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَـٰرِهِمْ }  والمراد هنا نظر الفجاءة لغير الوجه والكفين مما هو عورة، لا نظر الوجه والكفين. لأن نظر الوجه والكفين جائز دون أن يكون نظر فجاءة، بدليل إباحة النظر إليها في حديث الخثعمية السابق، وبدليل أن الرسول كان ينظر إلى وجوه النساء حين بايعنه، وحين كان يعظهن، مما يدل على أن المسؤول عنه وهو نظر الفجاءة إلى غير الوجه والكفين. وأما حديث علي «لا تتبع النظرة النظرة» فإنه نهي عن تكرار النظر وليس عن مجرد النظر العادي غير المقصود.

وعلى ذلك فلا يوجد من الأحاديث التي يستدل بها من يدعي أن الله شرع النقاب دليل على وجوب النقاب، وبهذا يتبين أنه لا يوجد دليل يدل على أن الله أوجب النقاب للمسلمات، أو يدل على أن الوجه والكفين عورة، لا في الصلاة ولا خارج الصلاة. والأدلة التي استدلوا بها لا يوجد فيها وجه قوي للاستدلال على ذلك.

 

  • وأما كون الوجه والكفين ليسا بعورة، وكون المرأة يجوز لها أن تخرج إلى السوق والطريق في كل مكان كاشفة وجهها وكفيها فذلك ثابت في القرآن والحديث.

أما القرآن فقد قال الله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا  وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ }  فالله تعالى نهى المؤمنات أن يبدين زينتهن، أي نهاهن أن يظهرن محل زينتهن لأنه هو المراد بالنهي. واستثنى من محل الزينة ما ظهر منها، وهو استثناء صريح، وهو يعني أن هناك محل زينة في المرأة يظهر لا يشمله النهي عن إظهار محال الزينة في المرأة، وهذا لا يحتاج إلى أدنى كلام، فالله ينهى المؤمنات أن يبدين محل زينتهن إلا ما هو ظاهر منها. أما ما هي الأعضاء التي يعنيها قوله { إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} فذلك يرجع تفسيره إلى أمرين، أولهما إلى التفسير المنقول، والثاني إلى ما يفهم من كلمة { مَا ظَهَرَ مِنْهَا} حين تطبيقها على ما كان يظهر من النساء المسلمات أمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي عصره، عصر نزول هذه الآية.

أما النقل فقد روي عن ابن عباس في تفسير هذه الآية أن ما ظهر منها تعني «الوجه والكفين» وجرى على ذلك المفسرون، قال الإمام ابن جرير الطبري: (وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عنى بذلك الوجه والكفين) وقال القرطبي: "لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة وعبادة وذلك في الحج والصلاة فيصلح أن يكون الاستثناء راجعاً إليهما". وقال الإمام الزمخشري: "فإن المرأة لا تجد بداً من مزاولة الأشياء بيديها ومن الحاجة إلى كشف وجهها خصوصاً في الشهادة والمحاكمة والنكاح وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها، وخاصة الفقيرات منهن وهذا معنى قوله: مَا ظَهَرَ مِنْهَا}".

وأما ما يفهم من { مَا ظَهَرَ مِنْهَا} فإنه يتبين أن ما كان يظهر عند نزول هذه الآية هو الوجه والكفان. فقد كانت النساء يكشفن وجوههن وأيديهن بحضرته صلى الله عليه وآله وسلم وهو لا ينكر ذلك عليهن، وكن يكشفن وجوههن وأيديهن في السوق والطريق، والحوادث في ذلك أكثر من أن تحصى، فمن ذلك:

  1. عن جابر بن عبد الله قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة، ثم قام متوكئاً على بلال فأمر بتقوى الله، وحث على طاعته ووعظ الناس وذكرهم، ثم مضى حتى أتى النساء وذكّرهن فقال: «تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم، فقامت امرأة من سطة النساء سفعاء الخدين، فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن الشكاة وتكفرن العشير» أخرجه مسلم. قال فجعلن يتصدقن من حليهن يلقين في ثوب بلال من أقراطهن وخواتيمهن.
  2. عن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى. قال هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت: «إني أصرع، وإني أنكشف، فادعُ الله لي. فقال لها: إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك. فقالت: أصبر. فقالت: إني أنكشف فادعُ الله لي أن لا أنكشف. فدعا لها» أخرجه الطبراني في الكبير.
  3. ومما يدل على أن اليد ليست بعورة مصافحة الرسول للنساء في البيعة. عن أم عطية قالت: «بايعنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقرأ علينا أن لا يشركن بالله شيئاً ونهانا عن النياحة، فقبضت امرأة منا يدها فقالت: فلانة أسعدتني وأنا أريد أن أجزيها. فلم يقل شيئاً فذهبت ثم رجعت» أخرجه البخاري. وهذا الحديث يدل على أن النساء كن يبايعن باليد، لأن هذه المرأة قبضت يدها بعد أن كانت مدتها للبيعة. فكون الحديث ينص على أن المرأة قبضت يدها حين سمعت لفظ البيعة صريح بأن البيعة كانت باليد، وأن الرسول كان يبايع النساء بيده الشريفة. وأما ما روي عن عائشة من أنها قالت: «وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم امرأة إلا امرأة يملكها» متفق عليه،فإنه رأي لعائشة وتعبير عن مبلغ علمها، وإذا قورن قول عائشة بحديث أُم عطية هذا ترجح حديث أُم عطية، لأنه نص عن عمل حصل أمام الرسول، ودلّ على عمل للرسول فهو أرجح من رأي محض لعائشة.

فهذه الحوادث الثلاث الثابتة في الأحاديث تدل دلالة واضحة على أن الذي كان يظهر من المرأة هو الوجه والكفان، أي أن المستثنى في الآية { مَا ظَهَرَ مِنْهَا} هو الوجه والكفان. وهذا يدل على أنهما ليسا بعورة، لا في الصلاة، ولا خارج الصلاة. لأن الآية عامة: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا }.

وأما الآية التي بعدها فإن مفهومها يدل على أن الوجه والكفين ليسا بعورة، فالله يقول: { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ }  والخمر جمع خمار، وهو ما يغطى به الرأس، والجيوب جمع الجيب، وهو موضع القطع من الدرع والقميص، فأمر تعالى بأن يلوى الخمار على العنق والصدر، فدل على وجوب سترهما، ولم يأمر بلبسه على الوجه، فدل على أنه ليس بعورة. وليس معنى كلمة الجيب هو الصدر كما يتوهم، بل الجيب من القميص طوقه وهو فتحته التي تكون حول العنق وأعلى الصدر، وضرب الخمار على الجيب ليُّه على طوق القميص من العنق والصدر. فالأمر بجعل غطاء الرأس يلوى على العنق والصدر استثناء للوجه، فدل على أنه ليس بعورة. وبذلك يكون النقاب غير موجود، ولم يشرعه الله سبحانه وتعالى.

هذا من حيث الأدلة من القرآن، أما الأدلة من الحديث على أن النقاب لم يشرّعه الله تعالى، وأن الوجه والكفين ليسا بعورة، فلـِما رواه أبو داود عن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن الجارية إذا حاضت لم يصلح أن يُرى منها إلا وجهها ويداها إلى المفصل»، فهذا الحديث صريح بأن الوجه والكفين ليسا بعورة، وأن الله لم يشرع ستر الوجه والكفين، ولم يشرع النقاب.

وهكذا فإن الأدلة السابقة من الكتاب والسنة تدل دلالة واضحة صريحة على أن المرأة المسلمة تخرج إلى السوق كاشفة وجهها وكفيها، وتتحدث إلى الرجال الأجانب، وهي كاشفة وجهها وكفيها، وتعامل الناس جميع المعاملات المشروعة، من بيع وشراء وإجارة وتأجير وشفعة ووكالة وكفالة وغير ذلك وهي كاشفة وجهها وكفيها. وأن الحجاب لم يشرعه الله تعالى إلا لنساء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم . وأنه وإن كان القول بالنقاب رأياً إسلامياً لأن له شبهة الدليل، وقد قال به أئمة مجتهدون من أصحاب المذاهب إلا أن شبهة الدليل التي يستدلون بها واهية، لا يكاد يظهر فيها الاستدلال.

 

  • بقيت مسألة يقول بها بعض المجتهدين وهي أن النقاب يشرع للمرأة خوف الفتنة، فيقولون تمنع المرأة من كشف وجهها بين الرجال لا لأنه عورة، بل لخوف الفتنة، وهذا القول باطل من عدة وجوه.
  1. أنه لم يرد بتحريم كشف الوجه لخوف الفتنة نص شرعي، لا من الكتاب، ولا من السنة، ولا من إجماع الصحابة، ولا من علة شرعية يقاس عليها، فلا قيمة له شرعاً ولا يعتبر حكماً شرعياً. لأن الحكم الشرعي هو خطاب الشارع، وتحريم كشف الوجه لخوف الفتنة لم يأت في خطاب الشارع، وإذا علم أن الأدلة الشرعية جاءت على النقيض منه تماماً، فأباحت الآيات والأحاديث كشف الوجه واليدين إباحة مطلقة لم تقيد بشيء، ولم تخصص في حالة من الحالات فيكون القول بتحريم كشف الوجه، وإيجاب ستره تحريماً لما أحله الله، وإيجاباً لما لم يوجبه رب العالمين. فهو فوق عدم اعتباره حكماً شرعياً، هو مبطل لأحكام شرعية ثابتة بصريح النص.
  2. أن جعل خوف الفتنة علة لتحريم كشف الوجه وإيجاب ستره لم يرد فيه أي نص شرعي لا صراحة ولا دلالة ولا استنباطاً ولا قياساً فلا يكون علة شرعية مطلقاً، بل هو علة عقلية، والعلة العقلية لا اعتبار لها في أحكام الشرع، بل المعتبر إنما هو العلة الشرعية ليس غير. وعليه فلا يقام أي وزن لخوف الفتنة في تشريع تحريم كشف الوجه وإيجاب ستره، لأنه لم يرد في الشرع.
  3. أن قاعدة الوسيلة إلى الحرام محرمة لا تنطبق على تحريم كشف الوجه لخوف الفتنة، وذلك لأن هذه القاعدة تقتضي أن يتوفر فيها أمران: أحدهما أن تكون الوسيلة موصلة إلى الحرام بغلبة الظن. والثاني أن يكون ما تؤول إليه قد ورد النص بتحريمه، وليس مما يحرمه العقل. وهذا غير موجود في كشف الوجه لخوف الفتنة. وعليه فلا ينطبق كشف الوجه لخوف الفتنة على قاعدة تحريم ما يكون وسيلة لما هو حرام، على فرض أن الفتنة تَحرُم شرعاً على من يفتتن به، لأنه ليس مما يؤول إليه بغلبة الظن. على أنّ خوف الفتنة لم يرد نص بجعله حراماً، بل لم يجعل الشرع الفتنة نفسها حراماً على من يفتتن به الناس، بل حرّم على الناظر نظرة افتتان أن ينظر، ولم يحرم ذلك على المنظور، فقد روى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: «كان الفضل رديف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاءت امرأة من خثعم فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر» أي صرف وجه الفضل عنها، بدليل ما جاء في رواية أخرى لهذا الحديث: «فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الفضل فحول وجهه من الشق الآخر» وروى هذه القصة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وزاد: «فقال له العباس: يا رسول الله، لم لويت عنق ابن عمك؟ قال: رأيت شاباً وشابة فلم آمن الشيطان عليهما» . ومن ذلك يتبين أن الرسول صرف وجه الفضل عن الخثعمية، ولم يأمر الخثعمية بستر وجهها، وكانت كاشفة له، فلو كانت الفتنة حراماً على من يفتتن به لأمر الرسول الخثعمية بستر وجهها بعد أن تحقق من نظرة الفضل إليها نظرة افتتان. ولكنه لم يأمرها، بل لوى عنق الفضل، مما يدل على أن التحريم على الناظر، لا على المنظور إليه. وعلى ذلك فإن تحريم افتتان الناس بالمرأة لم يرد به نص يحرمه على المرأة التي يفتتن بها، بل ورد النص بعدم تحريمه عليها، فلا يكون ما يؤدي إليه حراماً. على أنه يجوز للدولة عملاً برعاية الشؤون أن تبعد أشخاصاً بعينهم عن أعين من يفتتنون بهم، لتحول بين من يفتتن به الناس، وبين الناس إذا كانت الفتنة في الشخص عامة، كما فعل عمر بن الخطاب بنصر بن حجاج حين نفاه إلى البصرة، لافتتان النساء به لجماله. وهذا عام في الرجال والنساء، فلا يقال إنه يحرم على النساء كشف الوجه لخوف الفتنة، حيث لا يكون ذلك من قبيل الوسيلة إلى الحرام محرمة.