الإسلام يبين أن وراء الكون والحياة والإنسان خالقاً خلقها هو الله تعالى ، ولذلك كان أساسه الاعتقاد بوجود الله عز وجل... والإيمان بالله يجب أن يقترن بالإيمان بنبوة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم- ورسالته ، وبأن القرآن كلام الله ، فيجب الإيمان بكل ما جاء به .
ولهذا كانت العقيدة الإسلامية تقضي بأنه يوجد قبل الحياة ما يجب الإيمان به وهو الله ، وتقضي بالإيمان بما بعد الحياة ، وهو يوم القيامة ، وبأن الإنسان في هذه الحياة الدنيا مقيد بأوامر الله ونواهيه ، وهذه هي صلة الحياة بما قبلها ، ومقيد بالمحاسبة على اتباع هذه الأوامر واجتناب هذه النواهي ، وهذه هي صلة الحياة بما بعدها ، ولذلك كان حتماً على المسلم أن يدرك صلته بالله حين القيام بالأعمال ، فيسير أعماله بأوامر الله ونواهيه وكان ذلك هو معنى مزج المادة بالروح والغاية من تسييرها بأوامر الله ونواهيه هي رضوان الله . والغاية المقصودة من القيام بها هي القيمة التي يحققها العمل .
- الأهداف العليا لصيانة المجتمع:
وانطلاقا من العبودية لله والتقيد بأوامره في كل شيء لم تكن الأهداف العليا لصيانة المجتمع من وضع الإنسان بل هي من أوامر الله ونواهيه ، وهي ثابتة لا تتغير ولا تتطور:
- فالمحافظة على نوع الإنسان ،
- وعلى العقل ،
- وعلى الكرامة الإنسانية ،
- وعلى النوع الإنساني ،
- وعلى نفس الإنسان ،
- وعلى الملكية الفردية ،
- وعلى الدين ،
- وعلى الأمن ،
- وعلى الدولة ،
أهداف عليا ثابتة لصيانة المجتمع ، لا يلحقها التغيير ولا التطور ، ووضع للمحافظة عليها عقوبات صارمة ، فوضع الحدود والعقوبات للمحافظة على هذه الأهداف الثابتة ، ولذلك يعتبر القيام بالمحافظة على هذه الأهداف واجباً ، لأنها أوامر ونواه من الله ، لا لأنها تحقق قيماً مادية . وهكذا يقوم المسلم وتقوم الدولة بكافة الأعمال حسب أوامر الله ونواهيه لأنها هي التي تنظم شؤون الإنسان كلها ، والقيام بالأعمال حسب أوامر الله ونواهيه هو الذي يجعل الطمأنينة عند المسلم . ومن هنا كانت السعادة ليست إشباع الجسد وإعطاءه متعة ، بل هي إرضاء الله سبحانه وتعالى .
أما الحاجات العضوية والغرائز فقد نظمها الإسلام تنظيما يضمن إشباع جميع جوعاتها ، من جوعة معدة ، أو جوعة نوع ، أو جوعة روحية ، أو غير ذلك . ولكن لا بإشباع بعضها على حساب بعض ، ولا بكبت بعضها وإطلاق بعض ، ولا بإطلاقها جميعها ، بل نسقها جميعها وأشبعها جميعها بنظام دقيق ، مما يهيء للإنسان الهناءة والرفاه ، ويحول بينه وبين الانتكاس إلى درك الحيوان بفوضوية الغرائز .
- النظرة إلى للمجتمع والجماعة والفرد
ولضمان هذا التنظيم ، ينظر الإسلام للجماعة باعتبارها كلاً غير مجزأ ، وينظر للفرد باعتباره جزءاً من هذه الجماعة غير منفصل عنها . ولكن كونه جزءاً من الجماعة لا يعني أن جزئيته هذه كجزئية السن في الدولاب ، بل يعني أنه جزء من كل ، كما أن اليد جزء من الجسم ، ولذلك عني الإسلام بهذا الفرد بوصفه جزءاً من الجماعة ، لا فرداً منفصلاً عنها ، بحيث تؤدي هذه العناية للمحافظة على الجماعة ، وعني في نفس الوقت بالجماعة لا بوصفها كلاً ليس له أجزاء بل بوصفها كلاً مكوناً من أجزاء هم الأفراد بحيث تؤدي هذه العناية إلى المحافظة على هؤلاء الأفراد كأجزاء ، قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم ، فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا ، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً " .
وهذه النظرة للجماعة والفرد هي التي تجعل للمجتمع مفهوماً خاصاً ، لأن هؤلاء الأفراد وهم أجزاء من الجماعة لا بد أن تكون لديهم أفكار تربطهم ، يعيشون حسبها ، وأن يكون لهم مشاعر واحدة يتأثرون بها ويندفعون بحسبها ، وأن يكون لهم نظام واحد يعالج مشاكل حياتهم جميعها . ومن هنا كان المجتمع مؤلفاً من الإنسان والأفكار والمشاعر والأنظمة ، وكان الإنسان مقيداً في الحياة بهذه للأفكار والمشاعر والأنظمة . ولذلك كان المسلم في الحياة - عبداً لله - مقيداً في كل شيء بالإسلام وليس له حريات مطلقاً . فالعقيدة للمسلم مقيدة بحدود الإسلام وليست مطلقة . ولذلك يعتبر ارتداده جريمة كبرى يستحق عليها القتل إن لم يرجع . والناحية الشخصية مقيدة بنظام الإسلام ، ولذلك كان الزنا جريمة يعاقب عليها ، دون رأفة مع التشهير { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } ، وكان شرب الخمر جريمة يعاقب عليها ، وكان الاعتداء على آخرين جريمة تختلف باختلاف هذا الاعتداء من قذف أو قتل أو ما شابه ذلك ، والناحية الاقتصادية مقيدة بالشرع وبالأسباب التي أباح للفرد التملك بها ، وبحقيقة هذه الملكية الفردية من أنها إذن الشارع بالانتفاع بالعين . وكان الخروج عن هذه القيود جريمة تختلف باختلاف نوع هذا الخروج من سرقة أو نهب أو ما شاكل ذلك . ولهذا كان لا بد من الدولة التي تحفظ هذه الجماعة وهذا الفرد ، وتطبق النظام على المجتمع ، وكان لا بد من تأثير المبدأ في معتنقه ليكون الحفظ طبيعياً آتياً من قبل الناس أنفسهم . ولذلك كان المبدأ هو الذي يقيد ويحفظ ، والدولة هي المنفذة . ولهذا كانت السيادة للشرع وليست للدولة ولا للأمة ، وإن كانت السلطة للأمة ومظهرها في الدولة ، ومن هنا كانت طريقة تنفيذ النظام هي الدولة وإن كان الاعتماد على تقوى الله في الفرد المؤمن ليقوم بأحكام الإسلام . وعليه كان لا بد من التشريع الذي تنفذه الدولة ، والتوجيه للفرد المؤمن لينفذ الإسلام بدافع تقوى الله . ومن هنا كان الإسلام عقيدة وأنظمة ، وكان مبدأ الإسلام فكرة وطريقة من جنس هذه الفكرة ، وكان نظامه منبثقاً عن عقيدته ، وكانت حضارته طرازاً معيناً في الحياة . وكانت طريقته في حمل الدعوة أن يطبق من قبل الدولة ، وأن يحمل قيادة فكرية إلى العالم ، تكون هي الأساس لفهم نظام الإسلام والعمل به ، وكان العمل به في الجماعة التي تحكم بنظام الإسلام ، نشراً للدعوة الإسلامية ، لأن تطبيق نظام الإسلام على غير المسلمين من الناس يعتبر من الطريقة العملية للدعوة ، فقد كان لهذا التطبيق الأثر الأكبر في إيجاد هذا العالم الإسلامي المترامي الأطراف .
- آلية تنفيذ النظام في المجتمع، ومسئولية الدولة والفرد
الإسلام يرى أن النظام إنما ينفذه:
- الفرد المؤمن بدافع تقوى الله ،
- وتنفذه الدولة بشعور الجماعة بعدالته ،
- وبتعاون الأمة مع الحاكم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،
- وبسلطان الدولة .
وتتولى الدولة شؤون الجماعة ، ولا تتولى عن الفرد شؤونه إلا إذا عجز عنها ، ولا يتطور النظام أبداً . والدولة لها صلاحية تبني الأحكام الشرعية إذا تعددت نتائج الاجتهاد فيها .
- القيادة الفكرية الإسلامية
والقيادة الفكرية لمبدأ الإسلام متفقة مع فطرة الإنسان ، وهي على عمقها سهلة ميسورة ، سرعان ما يفتح لها الإنسان عقله وقلبه ، وسرعان ما يقبل عليها ليفهمها ، وليتعمق في فهم دقائقها بشغف وتقدير ، لأن التدين فطري في الإنسان ، وكل إنسان بفطرته ، متدين ، ولا تستطيع أي قوة أن تنزع منه هذه الفطرة ، لأنها متأصلة فيه ، فالإنسان بطبعه يشعر أنه ناقص ، وأن هناك قوة أكمل منه ، وأن هذه القوة تستحق التقديس ، والتدين هو الاحتياج إلى الخالق المدبر ، الناشيء عن العجز الطبيعي في تكوين الإنسان ، وهو غريزة ثابتة لها رجع معين هو التقديس ، ولذلك كانت الإنسانية في جميع العصور متدينة تعبد شيئاً ، فعبدت الإنسان ، والأفلاك ، والحجارة ، والحيوان ، والنيران ، وغير ذلك . ولما جاء الإسلام بعقيدته جاء ليخرج الإنسانية من عبادة المخلوقات إلى عبادة الله الذي خلق كل شيء .
ولما ظهر المبدأ المادي الذي ينكر وجود الله وينكر الروح لم يستطع أن يقضي على هذا التدين الطبيعي ، وإنما نقل تصور الإنسان لقوة أكبر منه ، ونقل تقديسه لهذه القوة ، نقل كل ذلك إلى تصور هذه القوة في المبدأ وفي حملته ، وجعل تقديسه لهما وحدهما ، فكأنه رجع إلى الوراء ، ونقل تقديس الناس من عبادة الله إلى عبادة العباد ، ومن تقديس آيات الله إلى تقديس كلام المخلوقات ، فكان رجعياً في ذلك . ولم يستطع القضاء على فطرة التدين ، وإنما حولها بالمغالطة تحويلاً رجعياً . ولذلك كانت قيادته الفكرية تختلف مع طبيعة الإنسان ، وكانت قيادة سلبية . ومن هنا كانت القيادة الفكرية في الشيوعية مخفقة من ناحية فطرية ، وإنما يتحيل لها بالمعدة ، وتستهوي الجائعين ، والخائفين ، والبائسين ، ويتمسك بها المنخفضون ، والمخفقون في الحياة الحاقدون عليها ، والمصابون بالشذوذ العقلي ، حتى يقال إنهم من ذوي الفكر حين يتشدقون بالنظرية الديالكتيكية التي هي أظهر شيء فساداً وبطلاناً بشهادة الحس والعقل معاً . وتتوسل بالقوة لإخضاع الناس لمبدئها ، ومن هنا كان الضغط والكبت ، وكانت الثورات والقلاقل ، والتخريب والاضطراب من أهم وسائلها .
- الرأسمالية سلبية مخفقة من ناحية فطرية
وكذلك كانت القيادة الفكرية للرأسمالية مخالفة لفطرة الإنسان التي هي فطرة التدين ، لأن فطرة التدين كما تبرز في التقديس تبرز في تدبير الإنسان لأعماله في الحياة ، لظهور اختلافه وتناقضه حين يقوم بهذا التدبير ، وهذا آية العجز . ولذلك كان لا بد أن يكون الدين هو المدبر لأعمال الإنسان في الحياة . فإبعاد الدين عن الحياة مخالف لفطرة الإنسان . على أنه ليس معنى وجود الدين في الحياة هو جعل أعمال الحياة الدنيا عبادات بل معنى وجود الدين في الحياة هو جعل النظام الذي أمر الله به هو الذي يعالج مشاكل الإنسان في الحياة ، وهذا النظام صادر عن عقيدة قررت ما في فطرة الإنسان . فإبعاده وأخذ نظام صادر من عقيدة لا توافق غريزة التدين مخالف لفطرة الإنسان . ولذلك كانت القيادة الفكرية الرأسمالية مخفقة من ناحية فطرية ، لأنها قيادة سلبية في فصلها الدين عن الحياة ، وفي إبعادها التدين عن الحياة ، وجعله مسألة فردية ، وفي إبعادها النظام الذي أمر الله به عن معالجة مشاكل الإنسان .
- إيجابية القيادة الفكرية الإسلامية
والقيادة الفكرية الإسلامية هي قيادة إيجابية لأنها تجعل العقل أساساً للإيمان بوجود الله ، إذ تلفت النظر إلى ما في الكون والإنسان والحياة ، مما يحمل على الجزم بوجود الله الذي خلق هذه المخلوقات ، وتعين للإنسان ما يبحث عنه بفطرته من كمال مطلق ، لم يوجد في الإنسان والكون والحياة ، وترشد عقله إليه . فيدركه ويؤمن به .
أما القيادة الفكرية الشيوعية فهي مبنية على المادية وليس على العقل ، وإن توصل إليها العقل ، لأنها تقول بوجود المادة قبل الفكر ، وبجعلها أصل الأشياء ، فهي مادية . وأما القيادة الفكرية الرأسمالية فهي مبنية على الحل الوسط الذي توصلت إليه من النزاع الدامي الذي استمر عدة قرون بين رجال الكنيسة ورجال الفكر ، وأنتج فصل الدين عن الدولة .
لذلك كانت القيادتان الفكريتان الشيوعية والرأسمالية مخفقتين ، لأنهما متناقضتان مع الفطرة ، وغير مبنيتين على العقل .
والحاصل أن القيادة الفكرية الإسلامية هي وحدها القيادة الفكرية الصحيحة ، وما عداها قيادات فكرية فاسدة ، لأن القيادة الفكرية الإسلامية مبنية على العقل ، في حين أن القيادات الفكرية الأخرى غير مبنية على العقل ، ولأنها قيادة فكرية تتفق مع فطرة الإنسان ، فيتجاوب معها ، في حين أن القيادات الفكرية الأخرى تخالف فطرة الإنسان .