الرياء هو قصد رضى الناس عند إيقاع القربة، فهو من أعمال القلب لا من أعمال اللسان ولا سائر الجوارح، وحقيقته أنه القصد من القول أو الفعل، ففي الرياء بدلاً من أن تكون القربة لله تكون للناس، فالقول أو العمل، أي القرب، ليست هي الرياء وإنما هي محله، والرياء هو عين القصد، وليس هو المقصود، إذ المقصود هو رضى الناس. فإذا كان القصد مشتركاً بين الله والناس كانت القربة حراماً، وأشد من هذا إذا كانت خالصة للناس دون الله.

 وتقييد الرياء بالقرب لأنه في غيرها لا يكون رياء، وذلك كإجراء عقد بيع على مرأى من الناس، أو التجمل باللباس المباح وغير هذا، أما قيد رضى الناس فلإخراج المقاصد الأخرى كمن يقصد المنافع في الحج.

والقرب قد تكون من العبادات وقد تكون من غيرها، فالذي يطيل السجود ليراه الناس مراء، والذي يتصدق ليراه الناس مراء، والذي يجاهد ليراه الناس مراء، والذي يكتب مقالاً ليقال عالم مراء، والذي يلقي محاضرة لكسب إعجاب الناس مراء، والذي يخطب ليقال خطيب مراء، والذي يلبس مرقعة ليقال زاهد مراء، والذي يطيل لحيته ويشمر ثوبه ليقال صاحب سنة مراء، والذي يداوم على أكل العدس ليقال متقشف مراء، والذي يدعو الألوف ليقال جواد مراء، والذي يطأطئ في مشيته ليقال خاشع مراء، والذي يرفع صوته بالقرآن ليلاً ليسمع جيرانه مراء، ومن حمل مصحفاً صغيراً وحرص على أن يراه الناس فيرضوا مراء.

ونحن في زمان لا يستحيا فيه من الرياء، بل إن الأعم الأغلب يجهلونه، ويجهلون واقعه وأحكامه. والدليل على أننا في الزمان الذي لا يستحيا فيه من الرياء، ظهور قلانس البرود الذين أخبر عنهم الصادق المصدوق، فقد أخرج الزبيدي والصفي في الكنـز والحكيم الترمذي في النوادر وأبو نعيم في الحلية بإسناد قال عنه الحاكم: لا أعلم له علة، عن أنس رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :«يكون في آخر الزمان ديدان القراء، فمن أدرك ذلك الزمان فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ومنهم، وهم الأنتنون، ثم يظهر قلانس البرود فلا يستحيا يومئذ من الرياء، والمتمسك يومئذ بدينه كالقابض على جمرة، والمتمسك بدينه أجره كأجر خمسين، قالوا: أمنا أو منهم؟ قال بل منكم»، والقلانس جمع قلنسوة والبرود جمع برد، وهذا كناية عن رجال الدين الذين يتميزون بالقلانس والبرود بغض النظر عن الشخص الذي تحويه القلنسوة والبرد، فالاعتبار عند الناس لهذا ورد علامة على عدم الاستحياء من الرياء.

التسميع

أما التسميع فهو التحدث للناس بالقرب لنيل رضاهم. والفرق بين الرياء والتسميع أن الرياء مصاحب للعمل، أما التسميع فيكون بعده، أي بعد العمل. والرياء لا يعلمه إلا الله ولا سبيل للتحقق منه عند الناس، حتى المرائي فإنه لا يعرف الرياء من نفسه إلا إذا كان مخلصاً، نقل النووي في المجموع عن الشافعي أنه قال: (لا يعرف الرياء إلا مخلص). والإخلاص يحتاج إلى معاناة ومجاهدة للنفس، لا يقوى عليها إلا من طلق الدنيا.

والتسميع قد يكون بقربة قد فعلها في السر، كمن قام الليل وأصبح يحدث الناس بذلك، كما يكون بقربة فعلها علناً في مكان فحدث بها في مكان آخر، كل ذلك بقصد نيل رضى الناس.

ومن أحسن ما نقل إلينا عن القرن الأول وابتعادهم عن التسميع ما نقله أبو يوسف في الآثار عن أبي حنيفة عن علي بن الأقمر أن عمر بن الخطاب  رضي الله عنه مرَّ برجل وهو يأكل بشماله، وعمر يقوم على الناس وهم يأكلون فقال له: كل بيمينك يا عبد الله، قال: إنها مشغولة. ثم مرَّ به الثانية فقال مثل ذلك، ثم مرَّ به الثالثة فقال مثل ذلك، فقال: شغل ماذا؟! قال قطعت يوم مؤتة، قال ففزع عمر لذلك فقال: من يغسل ثيابك؟ من يدهن رأسك؟ من يقوم عليك؟ قال فعدَّد عليه بمثل هذا، ثم أمر له بجارية وراحلة طعام ونفقة. قال فقال الناس: جزى الله عمر عن رعيته خيراً. وما رواه البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه قال: «خرجنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم  في غزاة ونحن ستة نفر، بيننا بعير نعتقبه، فنقبت أقدامنا، ونقبت قدماي، وسقطت أظفاري، وكنا نلف على أرجلنا، وحدث أبو موسى بهذا ثم كره ذاك قال ما كنت أصنع بأن أذكره، كأنه كره أن يكون شيء من عمله أفشاه».

والرياء والتسميع كلاهما حرام بلا خلاف، والأدلة علىذلك كثيرة منها:

  1. قوله تعالى: ( الذين هم يراءون ).
  2. وقوله تعالى: ( فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا)
  3. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم  من حديث جندب عند البخاري ومسلم: «من سمّع سمّع الله به، ومن يراء يراء الله به» واللفظ للبخاري.
  4. وحديث ابن عباس عند مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: «من سمّع سمع الله به ومن راءى راءى الله به».
  5. وحديث أبي هريرة عند مسلم والنسائي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به، فعرفه نعمته فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال هو جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمته فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار».
  6. وحديث أبي هند الداري عند البيهقي والطبراني وأحمد واللفظ له أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم  يقول: «من قام مقام رياء وسمعة رايا الله به يوم القيامة وسمّع» قال المنذري إسناده جيد وقال الهيثمي رجال أحمد والبزار وأحد أسانيد الطبراني رجال الصحيح.
  7. وحديث عبد الله بن عمرو عند الطبراني والبيهقي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يقول: «من سمَّع الناس بعمله سمَّع الله به سامع خلقه وصغَّره وحقره» قال المنذري أحد أسانيد الطبراني صحيح.
  8. وحديث عوف بن مالك الأشجعي عند الطبراني بإسناد حسن قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «من قام مقام رياء رايا الله به، ومن قام مقام سمعة سمَّع الله به».
  9. وحديث معاذ بن جبل عند الطبراني بإسناد حسن عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: «ما من عبد يقوم في الدنيا مقام سمعة ورياء إلا سمع الله به على رؤوس الخلائق يوم القيامة».
  10. وعند ابن ماجة والبيهقي بإسناد حسن عن أبي سعيد الخدري قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ونحن نتذاكر المسيح الدجال فقال: «ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح الدجال؟ فقلنا بلى يا رسول الله، فقال: الشرك الخفي أن يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل».
  11. وعند ابن ماجة والبيهقي والحاكم وقال صحيح ولا علة له عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر رضي الله عنه خرج إلى المسجد فوجد معاذاً عند قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبكي، فقال: ما يبكيك؟ قال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اليسير من الرياء شرك، ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة، إن الله يحب الأبرار الأنقياء الأخفياء الذين إن غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى يخرجون من كل غبراء مظلمة».

والرياء إذا دخل عملاً مما يتقرب به إلى الله أبطله، أي اعتبر كأنه لم يكن، فوق ما فيه من الإثم، والدليل على ذلك حديث أبي هريرة عند مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :«قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشِركه» فرياء الشرك يبطل العمل، ومن باب أولى بطلان العمل بالرياء الخالص. أخرج أحمد عن أبي بن كعب بإسناد حسن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «بشر هذه الأمة بالسنا والرفعة والنصر والتمكين،  فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب». وأخرج البيهقي والبزار بإسناد لا بأس به عن الضحاك بن قيس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :«إن الله تبارك وتعالى يقول أنا خير شريك فمن أشرك معي شريكاً فهو لشريكي. يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله، فإن الله تبارك وتعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما خلص له، ولا تقولوا هذا لله وللرحم فإنها للرحم وليس لله منها شيء، ولا تقولوا هذا لله ولوجوهكم فإنها لوجوهكم وليس لله فيها  شيء». وأخرج الترمذي وابن ماجة وابن حبان والبيهقي وأحمد بإسناد حسن عن أبي سعيد بن أبي فضالة رضي الله عنه  وكان من الصحابة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يقول: «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة ليوم لا ريب فيه، نادى مناد من كان أشرك في عمله أحداً فليطلب ثوابه من عنده، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك».

إخفاء العمل الصالح

ومن السنة إخفاء العمل الصالح حيثما وُجِد إلى ذلك سبيل، كالصدقة النافلة والصلاة النافلة والسنن الرواتب والدعاء والاستغفار وقراءة القرآن، والأدلة على هذا كثيرة نكتفي منها بحديث أنس عند أحمد بإسناد صحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم :«... نعم الريح قالت يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الريح؟ قال: نعم ابن آدم يتصدق بيمينه يخفيها عن شماله». والأثر الذي يرويه النسائي والمزي وعلي بن الجعد وغيرهم عن الزبير بن العوام قال: من استطاع منكم أن يكون له خبي من عمل صالح فليفعل. وفي رواية خبيئة. وقال الضياء في المختارة إسناده صحيح. وحادثة صاحب النقب مع قتيبة معروفة.

وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف نتقي الشرك الخفي، فقد أخرج أحمد والطبراني وأبو يعلى بإسناد حسن عن أبي موسى الأشعري أنه قال في خطبته: (يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل، فقام إليه عبد الرحمن بن حزن وقيس بن المضارب فقالا: والله لتخرجن مما قلت، أو لنأتين عمر مأذوناً لنا أو غير مأذون، فقال: بل أخرج مما قلت، خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ذات يوم فقال: «يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل، فقال له من شاء الله أن يقول: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: قولوا اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه»).

وليس التسميع كالرياء في إبطاله للعمل مع أنه يشاركه في الحرمة، إذ أن التسميع إما أن يكون بعمل خالطه رياء، فهذا العمل باطل قبل التسميع، فزاده التسميع إثماً، ولم يؤثر في بطلانه، وإما أن يقع العمل خالصاً لله فيقع صحيحاً حسناً، فيأثم فاعله بالتسميع بعد ذلك، وهذا الإثم كسائر الآثام يمكن الاستغفار منه والتوبة، فإن غفره الله قبل الموت، أو ستره يوم القيامة، وإلا وضع في ميزانه ينقص حسناته، إلا أنه لا يبطل العمل الذي وقع خالصاً، فالأدلة الواردة في التسميع تفيد حرمته فقط، ولا تفيد إبطاله للعمل كالرياء، فالرياء شرك يترك الله العمل الذي فيه رياء لشريكه، ويقول للعامل اطلب ثوابك من الشريك، أي أن العمل الذي خالطه الرياء يكون كالمعدوم، بينما العمل الذي سمَّع به فاعله بعد أن وقع خالصاً لله، موجود حقيقة ويستحق فاعله الثواب، إلا أنه سمَّع فأثم بالتسميع. وأقواله عليه السلام: «سمع الله به»«سمع به سامع خلقه»«سمع به على رؤوس الخلائق» كلها مشعرة بالعقوبة المترتبة على التسميع، ولا تفيد بطلان العمل كما ورد بشأن الرياء.

ولا يقاس التسميع على الرياء في إبطال العمل، لأن العمل الذي يخالطه الرياء يعتبر كأنه لم يقع فهو باطل، بينما العمل الذي كان خالصاً لله ثم تبعه التسميع يعتبر أنه وقع صحيحاً، فلا تقاس القربة التي وقعت صحيحة على القربة التي وقعت باطلة.

 

 

إن وجدت خيرا فانشره، فالدال على الخير كفاعله، دولة الخلافة، - نصر نت - nusr.net