كيف هدمت دولة الخلافة؟بدء مصطفى كمال أول خطوة في ثورته ضد الخلافة

كان من نتيجة إرسال البرقية - كما سبق - إلى إسطنبول من ميناء سينوب الحربية المهمة، والتي أظهر فيها الشعب هياجاً شديداً، ومما جاء فيها: «إن الأمة التركية لا يمكن أن تقدر لها الحياة وفيها حكومة تحركها أوروبا كما تشاء، وتتحكم فيها كما تريد» أن عزل والي سينوب من مركزه، وكان من جراء ذلك أن تبودلت البرقيات بين رئيس الوزراء باسم السلطان وبين مصطفى كمال، وأصر السلطان على عودة مصطفى كمال على جناح السرعة، ولكن مصطفى رفض وأرسل برقية قال فيها ما نصه: «سأبقى في الأناضول إلى أن يتحقق استقلال البلاد». فكان هذا الرفض الصريح هو الخطوة الأولى نحو الثورة، ومضى يجمع الناس، وينتقل في الأناضول إلى أن أشعل الثورة.

على هذا الوجه بدأ مصطفى كمال في ثورته التي انتهت بإزالة الخلافة وفصل تركيا عن باقي أجزاء الدولة العثمانية، أو على حد تعبيرهم: تحطيم الإمبراطورية العثمانية.

ومن هذه الوقائع وحدها يبرز بشكل لا يحتمل اللبس، أن الإنجليز هم الذين هيأوا كل شيء للقيام بهذه الثورة، وهم الذين أرسلوا مصطفى كمال ليقوم بها.

  1. فهم الذين ادعوا أن هناك قلاقل في الأقاليم الشرقية،
  2. وهم الذين طلبوا إرسال مصطفى كمال بالذات لإخماد هذه القلاقل،
  3. وهم الذين هيأوا اليونانيين لاحتلال أزمير برعاية أسطولهم وتحت حمايته، والقيام بتلك الاستفزازات المثيرة،
  4. وهم الذين أحضروا مصطفى كمال لأزمير رغم طلب السلطات العثمانية إرجاعه، وأفسحوا له الطريق ليقوم فوراً باستثمار هذه الاستفزازات، للبدء بجمع الناس حوله.

فهذه الوقائع تنطق بذلك بأفصح لغة وأوضح بيان، وتضع أصبع كل من يعرفها على هذه الحقيقة القطعية.

دعم إنجلترا ثورة مصطفى كمال

غير أنه بالرغم من ذلك كله لو ترك الإنجليز مصطفى كمال بعد ذلك يتم ما بدأ به من الثورة لما استطاع أن يخطو خطوة واحدة نحو الغاية التي وصل إليها. فإنه إذا كان يمكن أن يوجد في تركيا من يسكت على فصل البلاد الإسلامية الناطقة باللسان العربي عن الدولة العثمانية والاكتفاء بالبلاد التركية، إلا أنه لم يكن هناك مسلم واحد في البلاد التركية يرضى بإلغاء الخلافة، أو يوافق عليه ما عدا مصطفى كمال وبضعة أنفار لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليدين. بل كان الإجماع منعقداً على التمسك بالخلافة. وكان حبها والولاء لها متغلغلاً في أعماق الأعماق، وكانت كلمة «بادشاهٍ تجوك ياشا» حين ينطق بها تهز أوتار قلب كل تركي، وتثير فيه أقوى المشاعر. ولذلك لا يحتمل أن يقدم أي ممثلين للأمة أياً كانوا على أن يقرروا إلغاء الخلافة.

ولكن الأساليب التي اتبعها الإنجليز ودأبهم على إسناد مصطفى، وعلى العمل، هو الذي أعطى ثورة مصطفى هذه الثمرات. فإن إنجلترا في الوقت الذي قامت فيه بهذه الثورة كانت تعد عملاً دولياً لاستثمارها. فإنها أخذت تقوم بالدعاية الواسعة لها، وتضخم أخبارها، وتحاول إثارة المخاوف في نفوس الحلفاء ضد تركيا.

وأخذت التقارير من الأجانب والضباط تنهال على إسطنبول، وكلها طافحة بوصف حالة القلق العظيم الذي يسود الأناضول وانفجار الشعور القومي، وأخذت في نفس الوقت البرقيات ووكالات الأنباء تحمل أخبار الثورة مجسمة، وفي هذه الأثناء دعي لعقد مؤتمر صلح في باريس بين الحلفاء، وحشرت إنجلترا أخبار الاضطرابات التي قام بها مصطفى كمال في أبحاث المؤتمر، وصارت توغر الصدور، وتحض على وضع شروط قاسية.

ولكن فرنسا كانت تدرك أن هذه الأعمال مصطنعة من إنجلترا فلم تهتم لأخبار اضطرابات مصطفى كمال، بل ذهبت إلى أكثر من ذلك فحاولت استمالة حكومة الداماد فريد باشا، فأظهرت له عدم غضبها من هذه الثورة. ولما علمت رغبته في الذهاب بنفسه إلى باريس للتودد إلى الحلفاء وكسب عطفهم أسرعت فوضعت دارعة حربية تحت تصرف البعثة العثمانية وعلى رأسها رئيس الوزراء لإسماع صوت الدولة العثمانية في مؤتمر الصلح المعقود في باريس، قبل أن يتولوا البت في مصير الدولة العثمانية.

ولكن إنجلترا عارضت في ذلك وتخوفت من حماس فرنسا للحكومة العثمانية، فحاولت منعه أولاً فتظاهر بأنه يرغب السفر مع البعثة، ولكن مرضه يحول دون ما يتمناه. ثم سافر على دارعة حربية إنجليزية.

وقرر مؤتمر باريس شروطاً قاسية جداً، وكانت إنجلترا هي التي تبنت هذه القرارات، وصارت تظهر الحماس لها، حتى إن لويد جورج خطب في الثامن من تشرين الثاني سنة 1919 خطاباً في جليدهول قال فيه: «إن شروط الصلح قد وافقت عليها الدول المتحالفة أتم الموافقة، وعلى الأخص في قضية الإمبراطورية العثمانية. وإن أوروبا كلها مجمعة إجماعاً تاماً على أن الحكم العثماني الضار الكريه ينبغي أن ينتهي في الأراضي التي يسكنها اليونان والأرمن والعرب. وإن الموانئ الواقعة على البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط ينبغي أن تفتح في وجوه الأمم كلها». ولكن فرنسا لم تكن راضية عن المعاهدة، وكذلك إيطاليا. بيد أن حماس إنجلترا لهذه الشروط لم يكن بقصد تنفيذها، بل بقصد اتخاذها وسيلة لتهديد الدولة العثمانية، ولتثير الأتراك ضد السلطان فيقفوا إلى جانب مصطفى كمال. ولذلك كانت فيما بعد أول من دعا لعقد مؤتمر في لندن فانعقد في شباط (فبراير) سنة 1921 لإلغاء هذه المعاهدة.

 

يتبع إن شاء الله