كيف هدمت دولة الخلافة؟ // سبق بيان الجولة الأولى في ثورة مصطفى كمال ضد الخلافة بدعم انجلترا، ومن جهة أخرى فإن أخبار مؤتمر سيواس وصلت إلى إسطنبول على غير واقعها، ووصلت بأنها انتصار لمصطفى كمال. وتأيد هذا بمقاطعة المؤتمر لحكومة إسطنبول، وهذه المقاطعة وإن كان سببها ما قام به رئيس الوزراء حين منع الاتصال المباشر بين المؤتمر وبين القصر، وحين أرسل غالب بك على رأس القبائل الكردية ليلقي القبض عليهم، غير أن المقاطعة بحد ذاتها، والنجاح في عقد مؤتمر، قد أضفى عليه صورة غير التي كان عليها.

وفوق هذا فقد أوعز الحلفاء، يعني الإنجليز، للمسؤولين في إسطنبول أن يتفاهموا مع مصطفى كمال، وفي هذا الجو تقدم أحد أصدقاء مصطفى كمال الحميمين من أيام سلانيك، ويدعى عبد الكريم، من الخليفة وعرض عليه أن يكون وسيطاً بينه وبين مصطفى كمال، وأن مصطفى كمال يدين بالولاء للخلافة، ويدين بالولاء للخليفة، وله شخصياً. وأنه مستعد لأن يقنعه بالتفاهم. وفي هذا الجو الذهني قبل السلطان وحيد الدين أن يعرض مصطفى كمال مطالبه لإنهاء الثورة إنهاءً تاماً، فاتصل عبد الكريم تلفونياً بسيواس، وتحدث مع مصطفى كمال، فوافق على إنهاء الثورة، وطلب تغيير وزارة الداماد فريد، وانتخاب برلمان جديد مكان البرلمان الذي حله السلطان. فوافق السلطان وحيد الدين على ذلك.

وبعد ثلاثة أيام من هذه المخابرات الهاتفية التي تمت في ليلة واحدة فقط، أي في الثاني من تشرين الأول سنة 1919، استقال فريد باشا من الوزارة، وهو يتحدث علناً للناس ويصارحهم أنه يشعر بخيبة أمل، لأن الإنجليز الذين كانوا يؤيدونه قد نفضوا أيديهم منه، وألف الوزارة بعده علي رضا باشا وزير الحرب السابق، واعتبر ذلك فوزاً لمصطفى كمال.

وعلى أثر ذلك أعلن مصطفى كمال في منشور للأمة بأن اللجنة التنفيذية للوطنيين تعترف بالحكومة الجديدة التي يرأسها علي رضا، وأنها تؤيده بكل أنواع التأييد، وشكر جلالة السلطان لأنه تنازل وأصدر إرادته الكريمة بعزل وزارة الداماد فريد باشا.

غير أن السلطان أظهر سخطه على إصدار المنشور، وأبدى استهجانه أن يتحدث مصطفى كمال باسم الأمة، وكادت تتجدد الثورة. ولكن مصطفى كمال منع المتحمسين من إظهار أي شيء، وقررت لجنة سيواس أن تتحاشى خروجها ثانية على الحكومة، وتنفس كثير من القواد الصعداء لأن الكثرة الساحقة منهم كانت لا تريد تجدد الثورة، والجميع يحملون الولاء للخليفة.

غير أن مصطفى كمال أخذ يماطل في حل اللجنة، لأن غرضه تأسيس جمهورية والقضاء على السلطنة والخلافة، وقد أخفق في هذه الجولة فلا بد أن يبقي اللجنة سلاحاً لإجراء محاولة أخرى. ولذلك أخذ يبتكر كل أنواع الأعذار والعلل لتأجيل موعد حل اللجنة، ولم يعتذر عن عدم حلها، بل كان موافقاً على حلها وإنما يماطل في تأجيل الموعد. فأدت هذه المماطلة إلى سخط الذين معه، وأظهر الكثيرون له بشكل صريح أن بقاء هذه اللجنة أمر لا لزوم له، بعد أن أعلنت الأمة رضاها عن الحكومة، بل إن بعض الذين يؤيدون مصطفى كمال ومن أصدقائه كالمارشال عزت باشا قد رفعوا أصوات الاحتجاج والتحذير يطلبون بشدة وضع حد للنزاع الداخلي، والشقاق المعيب. ويرون أن بقاء اللجنة يعني بقاء الشقاق. ولكن مصطفى كمال كان يجيب هؤلاء بأن على الوزارة الجديدة أن تقيم الدليل على أنها تستحق الثقة التي أولتها إياها الأمة، ولا يمكن ذلك إلا بعد مدة تتمكن فيها هذه الوزارة من تقديم أعمالها، وتبرهن على إخلاصها عملياً. وكان يقول: إنه لم يعد يهتم في الوقت الحاضر إلا بالاستعداد لحركة الانتخابات البرلمانية، لتكون الأغلبية الساحقة من النواب الوطنيين.

هذه هي الجولة الأولى في ثورة مصطفى كمال، وهذه هي وقائعها، وهي تدل على أن الإنجليز هم الذين كانوا يقومون بدفعها وحمايتها. فمسرحية محاولة الإنجليز احتلال مدينة سمسون ثم خروجهم منها بارز فيها أنها مسرحية لجمع الناس حول مصطفى كمال، وإلا فهل يعجز الإنجليز عن احتلال سمسون في ذلك الوقت، وهم الذين كانوا جاثمين على صدر الدولة العثمانية، يحتلون أمنع مراكزها، ويستولون على جميع أجزائها. ثم من الذي أخبر مصطفى كمال أن الإنجليز مصممون على احتلال سمسون حتى يبعث رفعت ليمنعهم من احتلالها؟ ثم هل كانت المئة رجل الذين قادهم رفعت كافية لمنع الإنجليز من احتلال مدينة كسمسون إذا كان الإنجليز مصممين فعلاً على احتلالها؟ ثم هل صحيح أن سمسون قد نجت من احتلال الإنجليز بفضل هذه القوة حتى تقام الدعاية الواسعة بأن مصطفى كمال حمى سمسون من احتلال الإنجليز بفضل القوة التي أرسلها إليها. أليس هذا مسرحية مقصودة لجعل الناس يرون أن مصطفى كمال ضد الإنجليز، وضد الحلفاء، ويريد إخراجهم من البلاد؟. ثم الاشتباك مع اليونانيين لماذا حصل؟ إن التعليمات التي يحملها القائد اليوناني من حكومته هي أن يقتصر على أزمير فلماذا تجاوز هذه التعليمات وحاول احتلال ما جاور أزمير؟ وهل قام بذلك من نفسه أم من تعليمات من القائد العام لجيوش الحلفاء؟ ولماذا حصل هذا؟ أليس من أجل إيجاد عصابات في الجبال، وإعطاء الثورة صفة الحرب المسلحة للمحتلين بمحاربة اليونانيين، وجعل الناس ينضمون تحت لواء مصطفى كمال لمحاربة المحتلين من الحلفاء؟ أليس هذا دفعاً للثورة وإشعالاً لها؟ وإذا كانت إنجلترا قد استطاعت أن تختفي عن الأعين حين كانت تقوم بدفع الثورة وإشعالها لأنها سارت في ذلك بأساليب ملتوية، أليس موقفها في منع الخليفة من إعداد جيش للقضاء على القلاقل حماية صريحة للثورة؟ لقد كان من الممكن القضاء على الثورة في صيف سنة 1919، وبدأ السلطان يعمل ليهيئ جيشاً فمنعه الحلفاء، أي منعه الإنجليز بحجة مخالفة هذا لشرط الهدنة التي تنص على تسريح الجيوش. فلماذا هذا المنع من إعداد قوة للقضاء على القلاقل، مع أنه لم يكن بين شروط الهدنة أية مادة تنص على تجريد الجيوش من السلاح أو تسريحها أو تسليم ذخائرها الحربية، ولكنها نصت فقط على أن الجيش التركي ينبغي أن يحل بأسرع ما يمكن مع استثناء الفرق الضرورية لحماية الحدود، والاحتفاظ بالأمن في داخل البلاد. فمن أين جاء قولهم: إن تأليف قوة للقضاء على الثورة يخالف شروط الهدنة؟.

ثم إن الحلفاء أنفسهم أي الإنجليز هم الذين اصطنعوا في أوائل أيار سنة 1919 أن هناك قلاقل في المناطق الشرقية، وطلبوا من السلطان إرسال قائد لإخمادها، واقترحوا مصطفى كمال. أيقترحون إرسال قوة لإخماد القلاقل اصطنعوها هم ولا وجود لها ويمنعون الخليفة من إعداد قوة للقضاء على ثورة معلنة تتناقل أخبارها الصحف والبرقيات والعالمية؟ ثم حين خيرهم الخليفة بين أن يتولوا هم إخماد الثورة بوصفهم محتلين، أو يسمحوا له بإعداد قوة لإخمادها، قالوا له: نحن على الحياد. وأين هو الحياد في منع الخليفة من إعداد قوة لضرب ثورة داخلية ظاهرها أنها على الحلفاء، واشتبكت مع إحدى دولهم، مع اليونان؟ أهذا موقف طبيعي أم ظاهر فيه أنه تأييد للثورة وحماية لها.

لا شك أن منع الحلفاء، أي الإنجليز، السلطان من إعداد قوة لضرب الثورة، ونص شروط الهدنة تقضي بوجود فرق ضرورية من الجيش للاحتفاظ بالأمن، واضح فيه كل الوضوح أنه حماية للثورة، وشل ليد الخليفة لمنعه من القضاء عليها. ومع ذلك فإنه لم يكن في مقدور الثورة أن تنجح في غايتها بإنشاء حكومة ضد السلطان، واضطرت لمفاوضته والدخول تحت طاعته، ولكن عملية إثارة الناس ضد الحلفاء، وإظهار أنهم منعوا الإنجليز من احتلال سمسون، واشتباكهم مع اليونان، قد نجحوا فيه في إيجاد فكرة مقاومة الاحتلال، وإعطاء مصطفى كمال زعامتها.