طباعة
المجموعة: أصول الفقه الإسلامي

أصول الفقه الإسلامي

العزيمة هي ما شرع من الأحكام تشريعاً عاماً، وألزم العباد بالعمل به. والرخصة ما شرع من الأحكام تخفيفاً للعزيمة لعذر،ولم يلزم العباد العمل به، مع بقاء حكم العزيمة.

وهكذا. فالعزيمة ما كان تشريعه عاماً، فلا تختص ببعض المكلفين دون البعض، ولا يخير بين العمل بها والعمل بغيرها، بل يلزم بالعمل بها وحدها. والرخصة ما كان تشريعه طارئاً لعذر، فيكون تشريعه معتبراً ما وجد العذر، ولا يعتبر إذا زال العذر، وهو خاص بالمكلفين المتصفين بهذا العذر وحده.

المستثنى عزيمة

وعلى هذا لا يكون الحكم المستثنى من عموم نص رخصة بل هو عزيمة، وكذلك لا يكون الحكم الذي يختص ببعض الحالات رخصة بل هو عزيمة؛ لأن هذه حالات وليست أعذاراً. فمثلاً

وذلك أن المراد من إلزام العباد العمل به، أي العمل بالحكم، سواء أكان واجباً أم مندوباً أم مباحاً أم كان حراماً أم مكروهاً. ألا ترى أن أكل الميتة حرام، وأكل المضطر جائز فهو رخصة، فيكون العمل بالحكم، لا القيام بنفس العمل. وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم في العرايا: «أَرْخَصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا» أخرجه مالك. فالمراد بها المعنى اللغوي وهو سهل عليكم.

ومثل ذلك جميع العقود التي سهل الله على الناس فإنها عزائم؛ لأنها ليست مستثناة من أصل ممنوع لعذر يذهب استثناؤها حين يذهب العذر، بل هي مشروعة تسهيلاً للعباد، وتشريعها عام ودائمي. وهناك فرق بين من لا يقدر على الصلاة قائماً، أو يقدر بمشقة فيصلي جالساً، وإن كان مخلاً بركن من الأركان فلم يتحتم عليه القيام، فهذا رخصة، وبين أن يشتري الرجل تمر النخلات لطعام أهله رطباً بخرصها ثمراً، فهذا ليس رخصة؛ لأنه ليس استثناء لعذر، بل هو حالة جاز فيها بيع الرطب باليابس، فهي وإن كانت مستثناة، ولكنها لم تشرع لعذر حتى تكون رخصة، وإنما شرعت تسهيلاً على الناس، فهو من تسهيل التشريع وليس من الأعذار، فليس برخصة.

الرخصة

والرخصة حتى تعتبر رخصة شرعاً لا بد أن يدل عليها دليل شرعي، وما لم يدل عليه دليل شرعي لا يعتبر رخصة، فإنها حكم شرعه الله لعذر. فالعذر سبب شرعية الحكم، فلا بد أن يدل عليه دليل شرعي. على أن الرخصة تعتبر من الأسباب الشرعية، وهي نفسها حكم من أحكام الوضع، وهي خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد بالوضع، وما دامت هي نفسها خطاب الشارع، فلا بد من أن يكون هناك دليل شرعي يدل عليها.

فهذه أعذار ورد الدليل الشرعي بها فتعتبر أعذاراً، وهكذا كل ما وردت فيها أدلة أنها أعذار معينة لأحكام معينة تعتبر أعذاراً، وما لم يرد فيه دليل لا قيمة له، ولا يعتبر عذراً شرعياً مطلقاً.

العذر والعلة

وهذه الأعذار اعتبرت أعذاراً لذاتها، لا لما فيها من علة؛ وذلك لأن الدليل الشرعي الذي دل على أنها أعذار لم يعلل اعتبارها عذراً، بل أطلق ذلك فلا تعلل؛ لأن الشرع لم يعللها، وجعل كل عذر منها عذراً للحكم الذي جاء عذراً له لا لغيره، فهو يعتبر عذراً خاصاً بالحكم الذي جاء له، وليس عذراً عاماً لكل حكم؛ ولذلك كان العمى عذراً لترك الجهاد، ولم يكن عذراً لترك الصلاة. وفوق ذلك، فإن هذه الأعذار، وهي: المرض، والعرج، والسفر، والنسيان، والإكراه، والخطأ، وإن كانت أوصافاً، ولكنها وصف غير مفهم أنه للتعليل، وغير مفهم وجه العلية؛ ولذلك لا يقاس عليه، ولا يؤخذ سبباً لعليته، أي علة لاعتباره علة، فيطبق عليه حكم العلة؛ ولهذا لا يقال إن السفر علة لأن فيه مشقة، بل السفر علة لأن الله اعتبره علة، لا لأنه شاق، أي إنه علة قاصرة؛ ولذلك يقصر المسافر مسافة القصر ولو سافر بطائرة، ولا يقصر المسافر دون مسافة القصر ولو سافر في شدة الحر في الصحراء؛ لأن المشقة ليست العذر الذي رخص في القصر، بل العذر الذي رخص في القصر هو السفر، من حيث كونه سفراً، بغض النظر عن المشقة، وهكذا سائر الأعذار التي ترتب عليها رخص بالنص الشرعي.

العمل بالرخصة أو العزيمة

هذا من حيث حقيقة الرخصة والعزيمة شرعاً. أما من حيث العمل بالرخصة أو بالعزيمة، فإن العمل بأيهما شاء مباح، فله أن يعمل بالرخصة، وله أن يعمل بالعزيمة؛ وذلك لأن نصوص الرخص دالة على ذلك.

فأدلة الرخص نفسها تعطي الإباحة، وليس الوجوب، أو الندب. وأيضاً

فهذه النصوص تدل دلالة صريحة على أن الرخصة مباحة هي والعزيمة، فله أن يأخذ بأيهما شاء.

قد يقال ...

وقد يقال إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ الَلَّهَ يُحِبُ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ، كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ» أخرجه ابن حبان. وهذا طلب، وهو دليل على أنه مندوب، والمضطر إذا خاف الهلاك على نفسه، وجب عليه أكل لحم الميتة، ويحرم عليه الامتناع عن أكلها. والغاص الذي لا يجد إلا الخمر، يجب عليه أن يزيل غصته بالخمر إذا خاف الهلاك، ويحرم عليه أن يمتنع ويهلك. والصائم إذا بلغ به الجهد حد الهلاك، يجب عليه أن يفطر، ويحرم عليه أن يظل صائماً ويهلك، وهكذا؛ مما يدل على أن العمل بالرخصة فرض؛ ولذلك قد تكون الرخصة فرضاً، وقد تكون مندوباً، وقد تكون مباحاً.

والجواب ...

والجواب على ذلك هو: