طباعة
المجموعة: أصول الفقه الإسلامي

أصول الفقه الإسلامي

المكلَّفون بالأحكام

 المكلفون بالأحكام هم جميع الناس؛ ولذلك قيل في الحكم إنه خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد. فلا فرق في التكليف بأحكام الشرع بين المسلم والكافر، فكلهم مخاطب بخطاب الشارع، وكلهم مكلف بحكم الشرع. والدليل على ذلك النصوص المتضافرة في هذا الموضوع، فكلها تدل دلالة صريحة لا تقبل التأويل، على أن المخاطب بالشريعة الإسلامية كلها جميع الناس، سواء أكانوا مسلمين أم كفاراً. قال تعالى: (( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا)) وَلَكِنَّ وقال تعالى: (( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا)) وقال عليه الصلاة والسلام: «بُعِثْتُ إِلَى كُلَّ أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ» أخرجه مسلم، أي إلى جميع الناس. فهذا خطاب عام لجميع الناس فيشمل المسلم والكافر.

خطاب التكليف عام يشمل الإيمان والأحكام

ولا يقال إن هذا خطاب في الإيمان بالإسلام، وليس بالأحكام الفروعية؛ لأنه خطاب بالرسالة، وهو يعني الإيمان بها، ولا يعني العمل بالأحكام الفروعية؛ لا يقال ذلك لأن الرسالة عامة تشمل الإيمان بها، وتشمل العمل بالأحكام الفروعية التي جاءت بها، فتخصيصها بالإيمان تخصيص من غير مخصص، وأيضاً لو كان المراد خطاب الناس جميعاً بالإيمان بالإسلام، وخطاب المسلمين فقط بالأحكام الفروعية، فإنه يعني خطاب بعض الناس ببعض الأحكام، وعدم خطابهم ببعضها، ولو جاز خطاب البعض ببعض الأحكام حتى يخص بالخروج عنه بعض الناس، لجاز ذلك في كل ما جاءت به الشريعة، أي لجاز مثل ذلك في قواعد الإسلام المتعلقة بالإيمان؛ لأن ما جاز على الأحكام يجوز على غيرها، وهذا باطل؛ لأن الخطاب صريح: (( رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ)) فالإيمان به متناول الخطاب بداهة. على أن خطاب الناس جميعاً بالأحكام الفروعية ثابت بصريح القرآن كخطابهم بالرسالة، قال تعالى: (( وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ))وقال تعالى: (( يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ)) إلى أن يقول: (( فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى)) وقال تعالى: (( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)) إلى أن يقول: (( مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ)) وأيضاً فإن الله أمر الناس جميعاً بالعبادات، فيكون الكفار مأمورين بالعبادات. قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ))وقال تعالى: (( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ)) فهذه الآيات صريحة بأن الله كلفهم بالأحكام الفروعية، فهي تخاطبهم بالأحكام الفروعية، فيكونون مكلفين بها. ولو لم يكونوا مكلفين بالفروع ما أوعدهم الله وعيداً شديداً بالعذاب على تركها، فقال تعالى: (( وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)) فثبت بذلك أن الله خاطب الكفار ببعض الأوامر وبعض النواهي، من الأحكام الفروعية بخصوصها، فكذلك تكون باقي الأحكام الفروعية مخاطباً بها. ومن ذلك يتبين أن الكفار مخاطبون بالشريعة كلها أصولاً وفروعاً، وأن الله سيعذبهم على عدم الإيمان، وعلى عدم القيام بالأحكام. فمن حيث الخطاب، لا شك أنهم مخاطبون بالأحكام.

خطاب التطبيق من الأفراد والدولة

أما من حيث قيامهم هم بهذه الأحكام، ومن حيث تطبيق الدولة عليهم هذه الأحكام، وإجبارهم على القيام بها، ففيه تفصيل:

أما قيامهم بالأحكام من أنفسهم دون إجبار، فإنه ينظر:

أما تكليفهم بالأحكام جبراً عنهم، ففيه تفصيل:

فإن كانت الأحكام مما جاء الخطاب فيها عاماً، ولم يقيد فيها بشرط الإيمان، ينظر:

 خطاب الشارع يشمل الكفار والمسلمين

وعلى ذلك، فإن خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد عام يشمل الكفار والمسلمين على السواء، ولا فرق فيه بين الكافر والمسلم؛ لعموم خطاب الشارع برسالة الإسلام. ووجوب تطبيقه على الناس عام، يطبق على الكفار كما يطبق على المسلمين، ما داموا خاضعين لسلطان الإسلام. ويجبرون على القيام بأحكام الإسلام ويعاقبون على تركها، ولا يستثنى من ذلك إلا ما استثناه الشرع، وهو ما جعل الشرع الإسلام شرطاً في صحته أو أدائه من الأحكام، وما أقر الكفار عليه ولم يجبرهم على فعله من الأصول والأحكام الفروعية. وما عدا ذلك فهم والمسلمون سواء. ولا يقال إن الله خص المؤمنين ببعض الأحكام كالصلاة، فهم مخاطبون بها وحدهم، فما صدر فيه الخطاب بـ (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا)) فهو خاص بالمسلمين، وما جاء عاماً كالبيع والربا فهو عام للمسلمين وغير المسلمين؛ لا يقال ذلك لأن ما صدر بـ(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا))المقصود منه تذكيرهم بإيمانهم، لا أن الخطاب خاص بهم، بدليل أن الله تعالى يقول: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ)) الآية، وثبت عن الرسول أنه جعل القصاص في القتلى على الكفار، كما هو على المسلمين، سواء بسواء، ولأن قوله: (( لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ)) (( فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِر)ِ) ،(( مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ)) يدل سياق الآيات التي وردت فيها، أنها تذكير بما يقتضيه الإيمان بالله واليوم الآخر، فالآية الأولى: (( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ))والآية الثانية: (( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِر))والآية الثالثة: ( ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ) فكلها تذكير. ومن هذا القبيل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» رواه البخاري ومسلم وغيرهما، فكلها تذكير بالإيمان، وليس شرطاً في التكليف بالأحكام. ولهذا ليس اقتران الخطاب بـ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) مخصصاً له بالمسلمين، بل هو تذكير بالإيمان، وعليه يظل خطاب التكليف عاماً يشمل الكفار والمسلمين. وهكذا فإن الكفار مخاطبون بعموم الشريعة أصولاً وفروعاً، والخليفة مأمور بتطبيق جميع أحكام الشرع عليهم، ويستثنى من تطبيق الأحكام، لا من الخطاب، الأحكام التي جاء نص في القرآن أو الحديث بعدم تطبيقها عليهم، والأحكام التي جاء نص بأنها خاصة بالمسلمين. وما عدا ذلك فتطبق على الكفار جميع أحكام الإسلام كالمسلمين سواء بسواء.