أصول الفقه الإسلامي

الأشياء والأفعال لا يجوز أن تعطى حكماً إلا إذا كان هناك دليل شرعي على هذا الحكم، إذ لا حكم للأشياء ولأفعال العقلاء قبل ورود الشرع، قال تعالى: ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) وقال تعالى: ( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ).

ولأن الحكم لا يثبت إلا بأحد اثنين: إما الشرع، وإما العقل. أما العقل فلا محل له هنا؛ لأن القضية قضية إيجاب وتحريم، والعقل لا يمكن أن يوجب أو يحرم، وليس ذلك منوطاً به، وإنما هو منوط بالشرع؛ فتوقف الحكم على الشرع. وبما أنه لا شرع قبل ورود الشرع؛ فتوقف الحكم على ورود الشرع من الله، أي على مجيء الرسول بالنسبة للشريعة كلها، والدليل الشرعي بالنسبة للمسألة المراد الاستدلال عليها.

أما بالنسبة للرسول، فظاهر من صريح الآية؛ لأن نفي العذاب عن الناس، قبل بعثة الرسول، يدل على عدم تكليفهم بالأحكام والاعتقادات، أي عدم تكليفهم بشيء، ولا معنى لذلك إلا نفي الحكم نفياً باتاً عن الناس قبل أن يبعث الله لهم رسولاً، ومن هنا كان أهل الفترة ناجين، وهم الذين عاشوا بين ضياع رسالة وبعث رسالة، ويكون حكمهم حكم الذين لم تبلغهم رسالة، وذلك كمن عاشوا قبل بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن هذا أيضاً من لم تبلغهم رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم على وجه يلفت النظر، فإنهم كأهل الفترة ناجون؛ لأنه تنطبق عليهم الآية، ويعتبرون أنه لم يبعث لهم رسول، إذ لم تبلغهم رسالته، ويكون إثم عدم التبليغ على القادرين عليه ولم يفعلوا. وعليه، فقبل بعثة الرسول لا يقال إن حكم الأشياء حلال أو حرام؛ لأنه لا حكم لها، وكذلك الأفعال، بل للإنسان أن يفعل ما يريد دون التقيد بحكم، ولا شيء عليه عند الله حتى يبعث إليه رسولاً، وحينئذ يتقيد بأحكام الله التي بلغه إياها الرسول حسب ما بلغها له.

وأما بعد بعثة الرسول، وتبليغه رسالته، فإنه ينظر، فإن كانت رسالته جاءت بأشياء معينة، وأمرهم باتباع رسالة غيره في أشياء أخرى، كما هي الحال مع سيدنا عيسى، فإنهم مقيدون بالأحكام التي بلغها لهم، وملزمون باتباعها، ويعذبون على عدم التقيد بها، حتى تنسخ هذه الرسالة. وإن كانت رسالة الرسول جاءت بأشياء، ولم تتعرض لأشياء، فهم مقيدون بما جاءت به فقط، ولا يعذبون على ما لم تأت به. وأما إن كانت رسالته عامة كل شيء، وجاءت مبينة كل شيء، فإنهم مقيدون في كل شيء بهذه الرسالة. وذلك كما هي الحال مع سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن رسالته عامة كل شيء، وجاءت مبينة كل شيء؛ ولذلك كان لا حكم إلا بما يرد فيها؛ لأن مفهوم قوله تعالى: ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) هو أننا نعذب من بعثنا لهم رسولاً وخالفوا رسالته. والحكم الواحد مهما كان من رسالة الرسول التي بلغها فيعذب كل من خالفه؛ ولذلك لا يكون للشيء، ولا للفعل، حكم حتى يقوم الدليل عليه. وعلى هذا لا يقال إن الأصل في الأشياء والأفعال التحريم بحجة أنه تصرف في ملك الله تعالى بغير إذنه، فيحرم قياساً على المخلوقات؛ لأن صريح الآية أن الله لا يعذب حتى يبعث الرسول، فلا يؤاخذ حتى يبين الحكم، وفوق ذلك فإن المخلوقات تتضرر، والله سبحانه وتعالى منــزه عن المنفعة والضرر. وكذلك لا يقال إن الأصل في الأفعال والأشياء الإباحة، بحجة أنها انتفاع خال من أمارة المفسدة ومضرة المالك، فتباح؛ لا يقال ذلك لأن مفهوم الآية أن الإنسان مقيد بما جاء به الرسول؛ لأنه يعذب على مخالفته، فصار الأصل اتباع الرسول، والتقيد بأحكام رسالته، وليس الأصل الإباحة أي عدم التقيد، ولأن عموم آيات الأحكام تدل على وجوب الرجوع إلى الشرع، ووجوب التقيد به، قال تعالى: ( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) وقال: ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) وقال: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) ولأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول فيما رواه الدارقطني: «كُلُّ أَمْرٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» فهذا يدل على أن الأصل هو اتباع الشرع والتقيد به، ولأن الانتفاع الخالي من أمارة المفسدة ومضرة المالك، ليس حجة على الإباحة، ألا ترى أن الزنا بامرأة مقطوعة غير متزوجة يصدق عليه أنه انتفاع خال من أمارة المفسدة ومضرة المالك، ومع ذلك فهو حرام، وأن الكذب مزاحاً، مع أي كان؛ لجلب الضحك والسرور للاثنين: الكاذب والمكذوب عليه، خال من أمارة المفسدة ومضرة المالك، ومع ذلك فهو حرام. وأيضاً فإنه بعد ورود الشرع صار للأشياء وللأفعال أحكام، فالأصل أن يبحث في الشريعة عن الأشياء والأفعال، هل يوجد لها أحكام أو لا، لا أن يكون الأصل اعتبارها مباحة، ووضع حكم الإباحة لها من العقل مباشرة مع وجود الشرع. وكذلك لا يقال إن الأصل في الأشياء التوقف وعدم الحكم؛ لأن التوقف يعني تعطيل العمل، أو تعطيل الحكم الشرعي، وهو لا يجوز، ولأن الثابت في القرآن والحديث، عند عدم العلم، السؤال عن الحكم، وليس التوقف وعدم الحكم، قال تعالى: ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) وقال صلى الله عليه وآله وسلم في حـديث التيمم، فيما رواه أبو داود عن جابر: «أَلاَ سَـأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ» فدل على أنه ليس الأصل التوقف وعدم الحكم. وعليه، فإنه بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، صار الحكم للشرع، وأضحى لا حكم قبل ورود الشرع؛ فيتوقف الحكم على ورود الشرع، أي على وجود دليل شرعي للمسألة الواحدة؛ ولذلك لا يعطى حكم إلا عن دليل، كما لا يعطى حكم إلا بعد ورود الشرع، والأصل أن يبحث عن الحكم في الشرع، أي الأصل أن يبحث عن الدليل الشرعي للحكم من الشرع.

صلاحية الشريعة

بقيت مسألة وهي، هل الشريعة الإسلامية حاوية لأحكام الوقائع الماضية كلها، والمشاكل الجارية جميعها، والحوادث التي يمكن أن تحدث بأكملها؟ والجواب على ذلك هو، أنه لم تقع واقعة، ولا تطرأ مشكلة، ولا تحدث حادثة، إلا ولها محل حكم. فقد أحاطت الشريعة الإسلامية بجميع أفعال الإنسان إحاطة تامة شاملة، فلم يقع شيء في الماضي، ولا يعترضه شيء في الحاضر، ولا يحدث له شيء في المستقبل، إلا ولكل شيء من ذلك حكم في الشريعة، قال الله تعالى:(وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ)وقال تعالى: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي)فالشريعة لم تهمل شيئاً من أفعال العباد مهما كان، فهي إما أن تنصب دليلاً له بنص من القرآن والحديث، وإما أن تضع أمارة في القرآن والحديث تنبه المكلف على الباعث على تشريعه، لأجل أن ينطبق على كل ما فيه تلك الأمارة أو هذا الباعث. ولا يمكن شرعاً أن يوجد فعل للعبد ليس له دليل، أو أمارة تدل على حكمه؛ لعموم قوله:(تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ)وللنص الصريح بأن الله قد أكمل هذا الدين. فإذا زعم أن بعض الوقائع خالية من الحكم الشرعي، على معنى أن هناك بعض الأفعال من أفعال العباد قد أهملته الشريعة إهمالاً مطلقاً، بحيث لم تنصب دليلاً، أو تضع أمارة تنبه بها المكلف على مقصدها فيه، فإذا زعم ذلك، فإنه يعني أن هناك شيئاً لم يبيّنه الكتاب، وأن هذا الدين لم يكمله الله تعالى، بدليل وجود فعل لم يذكر حكمه، فهو دين ناقص، وهذا معارض لنص القرآن؛ ولذلك يكون زعماً باطلاً. حتى لو وجدت أحاديث آحاد صحت روايتها عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تتضمن هذا المعنى، أي وجود بعض أفعال العباد لم تأت الشريعة بحكم له، فإن مثل هذه الأحاديث ترد دراية؛ لمعارضتها لنص القرآن القطعي الثبوت والدلالة؛ لأن آية ( تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) وآية: ( أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) قطعيتا الثبوت، قطعيتا الدلالة، فأي خبر آحاد يعارضهما يرد دراية؛ ولهذا لا يحل لمسلم، بعد التفقه في هاتين الآيتين القطعيتين، أن يقول بوجود واقعة واحدة من أفعال الإنسان، لم يبين الشرع لها محل حكم، ولا بوجه من الوجوه.

وأما ما رواه ابن ماجه والترمذي عن سلمان الفارسي قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن السمن، والجبن، والفراء، فقال: «الْحَلاَلُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ» وما رواه أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلاَلٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ، فَاقْبَلُوا مِنَ اللَّهِ عَافِيَتَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَنْسَى شَيْئاً، ثـُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآيَةَ: ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) » أخرجه البزار. ومـا رواه البيـهـقي من طـريق أبي ثعلبة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلاَ تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُوداً فُلاُ تَعْتَدُوهَا، وَنَهَى عَنْ أَشْيَاءَ فَلاَ تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رُخْصَةً لَكُمْ لَيْسَ بِنِسْيَانٍ فَلاَ تَبْحَثُوا عَنْهَا»، فإن هذه الأحاديث أخبار آحاد من جهة، فلا تعارض النص القطعي، ومن جهة أخرى فإن هذه الأحاديث لا تدل على أن هناك أشياء لم تبينها الشريعة، وإنما تدل على أن هناك أشياء لم يحرمها الله تعالى رحمة بكم، فعفا عنها، وسَكتَ عن تحريمها، فموضوع هذه الأحاديث ليس السكوت عن تشريع أحكام لها، بل السكوت عن تحريمها. وليس معنى السكوت عن تحريمها تشريع حكم الإباحة لكل ما لم يبيّـنه، بل إن هذا السكوت سكوت من الشارع عن التحريم، وسكوته عن التحريم يعني الحلال، ويدخل فيه الواجب، والمندوب، والمباح، والمكروه، وهو ينطبق على ما يسكت عنه فقط، لا على كل شيء لم يبيّنه. على أن معنى الأحاديث العفو عن هذه الأشياء نظير قوله تعالى: ( عَفَا اللَّهُ عَنْكَ)بدليل نص الأحاديث، وبدليل مـا سـيقت له الأحاديث، وهو النهي عن السؤال عما لم يحرم فيحرم. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «ما لم يذكر في القرآن، فهو مما عفا الله عنه» ذكـره الشـاطبي في الموافقات. وروى ابن شيبة في مصنفه أن إبراهيم بن سـعـد سـأل ابن عبـاس: مـا يؤخذ من أموال أهل الذمة؟ قال: العـفـو. وروى الطبري في تفسيره عن عبيد بن عمير: «إن الله تعالى أحـلّ وحـرّم، فـمـا أحلّ فاستحلّوه، وما حرّم فاجتنبوه، وترك من ذلك أشياء لم يحلّها ولم يحرّمها، فذلك عفو من الله عفاه». وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكـره كـثـرة السؤال فيما لم ينــزل فيه حكم، بناء على حكم البراءة الأصلية، إذ هي راجعة إلى هذا المعنى. ومعناها أن الأفعال معها معفو عنها. وقد قال عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا، مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» أخرجه مسلم، وقال: «ذَرُونِي مَا تَرَكْـتُـكُـمْ، فَإِنَّـمَـا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ، وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ. مَـا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، وَمَا أَمَرْتُكُمْ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» أخرجه أحمد. وأخرج مسـلم وأحمـد عن أبي هريرة قال: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَـالَ: «أَيُّـهَـا النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا» فَقَال رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ، حَتَّى قَالَهَا ثـَلاثـَاً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ» ثـُمَّ قَالَ: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ». فهذا كله يدل على أن المراد من قوله: «وسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ» أي لم يحرمها، وهو نظير قوله في حديث آخر: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ» وتعينه الرواية الأخرى لنفس الحديث وهي: «وَعَفَا عَنْ أَشْيَاءَ» أي تجاوز عنها ولم يحرمها. وعلى ذلك، لا يكون قول الرسول: «وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ» أو قوله: «وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ» معناه أنه لم يبين حكم بعض أفعال العباد، بل معناه لم يحرم أشياء رحمة بكم، وما لم يحرمه من الأشياء المعينة الداخلة تحت حكم السكوت، فهو غير محرم، فحكمه أنه حلال. فالمسألة تتعلق بسكوتالشارع عن تحريم أشياء، ولا تتعلق بعدم بيان أحكام أشياء.

الأصل في أفعال الإنسان التقيد بحكم الله

هذا من حيث معنى الحديث، أما من حيث وضع الحديث في حكم الشريعة، فإن أفعال المكلفين من حيث هم مكلفون، إما أن تكون بجملتها داخلة تحت خطاب التكليف، وهو الاقتضاء أو التخيير، أو لا تكون بجملتها داخلة، فإن كانت في جملتها داخلة، فإنه لا بد أن يكون لها في الشريعة حكم، إذ هي مندرجة تحت خطاب التكليف. وإن لم تكن داخلة بجملتها، لزم أن يكون بعض المكلفين خارجاً عن حكم خطاب التكليف، ولو في وقت أو حالة ما، وهذا باطل من أساسه؛ لأنا لو فرضناه مكلفاً فلا يصح خروجه، وإن فرضناه غير مكلف كان فرضاً باطلاً؛ لأن التكليف عام لعموم خطاب التكليف، فهو يشمل كل حالة، وكل وقت. وعلى هذا لا يمكن أن يكون قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ» يعني أنه لم يبين حكمها، لما يترتب عليه وجود شخص في حالة أو وقت غير مكلف، فلم يبق إلا أن يكون معناه، وسَكتَ عن تحريم أشياء. وعلى ذلك، فإن الحديث لا يدل على أنه يوجد أي فعل للإنسان لم تبينه الشريعة، فيسقط الاستدلال به، وبذلك تتأكد القاعدة الشرعية «الأصل في أفعال الإنسان التقيد بحكم الله» فلا يجوز للمسلم أن يقدم على فعل إلا بعد معرفة حكم الله في هذا الفعل من خطاب الشارع. والإباحة حكم من الأحكام الشرعية، فلا بد من دليل عليها من الشرع، ولا يكون عدم بيان الشرع دليلاً على إباحة الشيء، بل يكون دليلاً على نقص الشريعة، ودليل إباحة الشيء هو أن ينص الشارع على التخيير فيه.

الأصل في الأشياء الإبـاحـة ما لم يرد دليل التحريم

هـذا بالنسبة للأفعال، أما بالنسبة للأشياء، وهي متعلقات الأفعال، فإن الأصـل فيها الإباحة ما لم يرد دليل التحريم، فالأصل في الشيء أن يكون مباحاً، ولا يحرم إلا إذا ورد دليل شرعي على تحريمه؛ وذلك لأن النصوص الشرعية قد أباحت جميع الأشياء، وجاءت هذه النصوص عامة تشمل كل شـيء، قـال تعالى: ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ). ومعـنى تسخير الله للإنسان جميع ما في الأرض هو إباحته لكل ما في الأرض. وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا)وقــال: ( يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) وقـال:( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) وهكذا جميع الآيات التي جاءت في إباحة الأشياء جاءت عامة، فعمومها دل على إباحة جميع الأشياء، فتكون إباحة جميع الأشياء جاءت بخطاب الشارع العام. فدليل إباحتها النصوص الشرعية التي جاءت بإباحة كل شيء. فإذا حرم شيء فلا بد من نص مخصص لهذا العموم، يدل على استثناء هذا الشيء من عموم الإباحة؛ ومن هنا كان الأصل في الأشياء الإباحة. ولذلك نجد الشرع، حين حرم أشياء، قد نص على هذه الأشياء بعـيـنـها، استثناء من عموم النص، فقال تعالى: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِير)ِ وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «حُرِّمَتِ الْخَمْرَةُ لِعَيْنِهَا» ذكره المبسوط عن ابن عباس، فيكون ما نص عليه الشرع من تحريم أشياء هو مستثنى من عموم النص، فهو على خلاف الأصل. والأصل إباحة جميع الأشـيـاء. ولا يقال إن الشيء لا يمكن أن ينفصل عن فعل العبد وحكمه، إنمـا جـاء من حكم فعل العبد، فيأخذ حكم الفعل؛ لا يقال ذلك لأن الأشياء وإن كان لا بد أن تكون متعلقة بأفعال العباد، وإن كان دليلها إنما جـاء في بيان حكم أفعال العباد، إلا أن الدليل لفعل العبد، حين قرن بالشـيء، بيّـن بالنسبة للشيء حال كونه متعلقاً بالفعل حكمين اثنين لا ثـالـث لهـمـا، فبيّـن الإباحة، وبيّـن التحريم، ولم يبيّـن غيرهما بالنسبة للشيء مطلقاً؛ ولذلك لا يقال في حكم الشيء إنه واجب، أو مندوب، فحـصـر حكـم الأشياء في الإباحة أو الحرمة. فهو من هذه الجهة على خـلاف فعل العبد، فلا يأخذ حكمه وإن جاء دليله في بيان حكم فعل العبد. ومن الجهة الأخرى، فإن العموم في دليل الإباحة، والتعيين بالشيء المعـين في دليل التحـريم، يجـعـل الإباحة عامة لجميع الأشياء، والتحريم خاصاً بما ورد تحريمه. وبهذا يكون حكم الأشياء، من حيث الأصل، ومن حيث الأحكام التي توصف بها، يخالف حكم الأفعال. فالأصل في الأشياء الإبـاحـة ما لم يرد دليل التحريم، والأصل في الأفعال التقيد بالحكم الشرعي، والأشياء لا توصف إلا بالحل أو الحرمة، بخلاف الأفعال، فإن خطاب الشارع المتعلق بها جعلها قسمين: أحدهما خطاب التكليف، والآخـر خطـاب الوضع، وجعل خطاب التكليف خمسة أقسام هي: الفـرض، والمندوب، والحرام، والمكروه، والمباح. وجعل خطاب الوضع خمسة أقسام هي: السبب، والشرط، والمانع، والصحة والبطلان والفساد، والعزائم والرخص.

والحـاصـل لا يجـوز أن يـقـال، بعد بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم للـنـاس كافة،إن هناك فعلاً أو شيئاً ليس له حكم، ولا يجوز أن يكون حكم لشيء ما، أو فعل ما، دون أن يكون له دليل من الشـرع؛ لأن الحـكـم هـو خطاب الشارع. ولا يجوز أن يقال إن كل ما لم يبين الشرع حكمه فهو مباح؛ لأن المباح حكم شرعي، إذ هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد بالتخيير، ولأن الادعاء بأن هناك أشياء لم يبين الشارع حكمه يعني أن هناك شيئاً لم يبينه الـقـرآن، وأن الشـريعة ناقصة، وهذا لا يجوز لمعارضته للقرآن القـطـعـي الثبوت، القطعي الدلالة. وعليه، فإنه لا فعل يمكن أن يصدر عن الإنسان، ولا شيء يتعلق بفعل الإنسان، إلا وله في الشريعة محل حكم، ولا حكم إلا بعد وجود الدليل الذي يدل عليه بعينه من خطاب الشارع، إذ لا حكم قبل ورود الشرع، فلا حكم قبل بعثة الرسول، ولا حكم بعد بعثته إلا بدليل، من الرسالة التي جاء بها، يدل على ذلك الحكم بعينه.