أصول الفقه الإسلامي

من أهم الأبحاث المتعلقة بالحكم، وأولاها، وألزمها بياناً، معرفة من الذي يرجع له إصدار الحكم، أي من هو الحاكم؛ لأن على معرفته تتوقف معرفة الحكم ونوعه. وليس المراد بالحاكم هنا صاحب السلطان المنفذ لكل شيء بما له من سلطان، بل المراد بالحاكم من يملك إصدار الحكم على الأفعال، وعلى الأشياء؛ لأن ما في الوجود من المحسوسات لا يخرج عن كونه أفعالاً للإنسان، أو أشياء غير أفعال الإنسان. ولما كان الإنسان، بوصفه يحيا في هذا الكون، هو موضع البحث، وكان إصدار الحكم إنما هو من أجله، ومتعلق به، فإنه لا بد من الحكم على أفعال الإنسان، وعلى الأشياء المتعلقة بها. فمن هو الذي له وحده أن يصدر الحكم على ذلك؟ هل هو الله، أم الإنسان نفسه؟ وبعبارة أخرى، هل هو الشرع، أم العقل؟ لأن الذي يعرفنا أن هذا هو حكم الله هو الشرع، والذي يجعل الإنسان يحكم هو العقل. فمن الذي يحكم، هل هو الشرع، أم العقل؟

الحسن والقبح

أما موضوع هذا الحكم، أي الشيء الذي يصدر حكماً على الأفعال والأشياء، فهو الحسن والقبح؛ لأن المقصود من إصدار الحكم هو تعيين موقف الإنسان تجاه الفعل، هل يفعله، أو يتركه، أو يخير بين فعله وتركه؟ وتعيين موقفه تجاه الأشياء المتعلقة بها أفعاله، هل يأخذها، أو يتركها، أو يخير بين الأخذ والترك؟ وتعيين موقفه هذا متوقف على نظرته للشيء، هل هو حسن، أو قبيح، أو ليس بالحسن، ولا بالقبيح؟ ولهذا كان موضوع الحكم المطلوب هو الحسن والقبح. فهل الحكم بالحسن والقبح هو للعقل أو للشرع؟ إذ لا ثالث لهما في إصدار هذا الحكم.

والجواب على ذلك هو أن الحكم على الأفعال والأشياء، إما أن يكون من ناحية واقعها ما هو، ومن ناحية ملاءمتها لطبع الإنسان وميوله الفطرية، ومنافرتها لها، وإما من ناحية المدح على فعلها والذم على تركها، أو عدم المدح وعدم الذم، أي من ناحية الثواب والعقاب عليها، أو عدم الثواب وعدم العقاب. فهذه ثلاث جهات للحكم على الأشياء:

  • أحدها من حيث واقعها ما هو،
  • والثاني من حيث ملاءمتها لطبع الإنسان أو منافرتها له،
  • والثالث من حيث الثواب والعقاب أو المدح أو الذم.

فأما الحكم على الأشياء، من الجهة الأولى وهي من ناحية واقعها، ومن الجهة الثانية وهي ملاءمتها للطبع ومنافرتها له، فلا شك أن ذلك كله إنما هو للإنسان نفسه، أي هو للعقل لا للشرع. فالعقل هو الذي يحكم على الأفعال والأشياء في هاتين الناحيتين، ولا يحكم الشرع في أي منهما، إذ لا دخل للشرع فيهما. وذلك مثل العلم حسن والجهل قبيح، فإن واقعهما ظاهر منه الكمال والنقص، وكذلك الغنى حسن والفقر قبيح، وهكذا. ومثل إنقاذ الغرقى حسن وأخذ الأموال ظلماً قبيح، فإن الطبع ينفر من الظلم، ويميل لإسعاف المشرف على الهلاك، وكذلك الشيء الحلو حسن والشيء المر قبيح، وهكذا. فهذا كله يرجع إلى واقع الشيء الذي يحسه الإنسان، ويدركه عقله، أو يرجع إلى طبع الإنسان وفطرته، وهو يشعر به، ويدركه عقله؛ ولذلك كان العقل هو الذي يحكم عليه بالحسن والقبح وليس الشرع، أي كان إصدار الحكم على الأفعال والأشياء من هاتين الجهتين هو للإنسان. فالحاكم فيهما هو الإنسان.

المدح والذم والثواب والعقاب

أما الحكم على الأفعال والأشياء، من ناحية المدح والذم عليها في الدنيا، والثواب والعقاب عليها في الآخرة، فلا شك أنه لله وحده وليس للإنسان، أي هو للشرع وليس للعقل، وذلك كحسن الإيمان، وقبح الكفر، وحسن الطاعة، وقبح المعصية، وحسن الكذب في الحرب، وقبحه مع الحاكم الكافر في غير الحرب، وهكذا؛ وذلك لأن واقع العقل أنه إحساس، وواقع، ومعلومات سابقة، ودماغ. فالإحساس جزء جوهري من مقومات العقل، فإذا لم يحس الإنسان بالشيء لا يمكن لعقله أن يصدر حكماً عليه؛ لأن العقل مقيد حكمه على الأشياء بكونها محسوسة، ويستحيل عليه إصدار حكم على غير المحسوسات، وكون الظلم مما يمدح أو يذم ليس مما يحسه الإنسان؛ لأنه ليس شيئاً يحس، فلا يمكن أن يعقل، أي لا يمكن للعقل إصدار حكم عليه. وهو، أي مدح الظلم أو ذمه، وإن كان يشعر الإنسان بفطرته بالنفرة منه، أو الميل له، ولكن الشعور وحده لا ينفع في إصدار العقل حكمه على الشيء، بل لا بد من الحس؛ ولذلك لا يمكن للعقل أن يصدر حكمه على الفعل، أو على الشيء، بالحسن، أو القبح. ومن هنا لا يجوز للعقل أن يصدر حكمه على الأفعال أو الأشياء بالمدح والذم؛ لأنه لا يتأتى له إصدار هذا الحكم، ويستحيل عليه ذلك.

الإنسان والتشريع

ولا يجوز أن يجعل إصدار الحكم بالمدح والذم لميول الإنسان الفطرية؛ لأن هذه الميول تصدر الحكم بالمدح على ما يوافقها، وبالذم على ما يخالفها، وقد يكون ما يوافقها مما يذم، كالزنا، واللواط، واستعباد الناس، وقد يكون ما يخالفها مما يمدح، كقتال الأعداء، والصبر على المكاره، وقول الحق في حالات تحقق الأذى البليغ. فجعل الحكم للميول والأهواء يعني جعلها مقياساً للمدح والذم، وهي مقياس خاطئ قطعاً؛ ولذلك كان جعل الحكم لها خطأً محضاً؛ لأنه يجعل الحكم خاطئاً مخالفاً للواقع، علاوة على أنه يكون الحكم بالمدح والذم حسب الهوى والشهوات، لا حسب ما يجب أن يكون عليه؛ ولهذا لا يجوز للميول الفطرية أن تصدر حكمها بالمدح والذم. وما دام لا يجوز للعقل أن يصدر حكمه بالمدح والذم، ولا يجوز للميول الفطرية أن تصدر حكمها بالمدح والذم؛ فلا يجوز أن يجعل للإنسان إصدار الحكم بالمدح والذم، فيكون الذي يصدر حكمه بالمدح والذم هو الله وليس الإنسان، وهو الشرع وليس العقل.

وأيضاً، فإنه لو ترك للإنسان أن يحكم على الأفعال والأشياء بالمدح والذم، لاختلف الحكم باختلاف الأشخاص والأزمان، إذ ليس في مقدور الإنسان أن يحكم عليها حكماً ثابتاً. ومن أجل ذلك يحكم فيها الله وليس الإنسان، يحكم فيها الشرع وليس العقل، إذ لا دخل للعقل بهذا الحكم من هذه الجهة. على أن المشاهد المحسوس، أن الإنسان يحكم على أشياء أنها حسنة اليوم، ثم يحكم عليها غداً أنها قبيحة، ويحكم على أشياء أنها قبيحة أمس، ويحكم عليها نفسها اليوم أنها حسنة، وبذلك يختلف الحكم على الشيء الواحد، ولا يكون حكماً ثابتاً، فيحصل الخطأ في الحكم؛ ولذلك لا يجوز أن يجعل للعقل، ولا للإنسان، الحكم بالمدح والذم.

وعليه فلا بد أن يكون الحاكم على أفعال العباد، وعلى الأشياء المتعلقة بها، من حيث المدح والذم، هو الله تعالى وليس الإنسان، أي يكون الشرع وليس العقل.

الدليل الشرعي

هذا من حيث الدليل العقلي على الحسن والقبح، أما من حيث الدليل الشرعي، فإن الشرع التزم التحسين والتقبيح لأمره باتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وذم الهوى؛ ولذلك كان من المقطوع به شرعاً، أن الحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع، من حيث الذم والمدح.

والحكم على الأفعال والأشياء بالمدح والذم هو لتعيين موقف الإنسان منها. فهو بالنسبة للأشياء، يبين هل يجوز له أخذها أو يحرم عليه، ولا يتصور غير ذلك من حيث الواقع. وبالنسبة لأفعال الإنسان، هل يطلب منه أن يقوم بها، أو يطلب منه أن يتركها، أو يخير بين الفعل والترك. ولما كان هذا الحكم من هذه الجهة لا يكون إلا للشرع؛ لذلك يجب أن تكون أحكام أفعال الإنسان، وأحكام الأشياء المتعلقة بها، راجعة للشرع لا للعقل، فيجب أن يكون حكم الشرع وحده هو المتحكم بأفعال العباد، وبالأشياء المتعلقة بها أفعالهم.

وفوق ذلك، فإن الحكم على الأشياء من حيث الحل والحرمة، وعلى أفعال العباد من حيث كونها واجباً، أو حراماً، أو مندوباً، أو مكروهاً، أو مباحاً، وعلى الأمور والعقود من حيث كونها أسباباً، أو شروطاً، أو موانع، أو صحيحة وباطلة وفاسدة، أو عزيمة ورخصة، كل ذلك ليس من قبيل ملاءمتها للطبع أو عدم ملاءمتها، ولا هو من قبيل واقعها ما هو، وإنما من قبيل ترتب المدح والذم عليها في الدنيا، والثواب والعقاب عليها في الآخرة؛ ولذلك كان الحكم في شأنها للشرع وحده وليس للعقل؛ فيكون الحاكم حقيقة على الأفعال، وعلى الأشياء المتعلقة بها، وعلى الأمور، والعقود، إنما هو الشرع وحده، ولا حكم للعقل في ذلك مطلقاً.