طباعة
المجموعة: أصول الفقه الإسلامي

أصول الفقه الإسلامي // لا يقع التعارض بين قولين من أقوال الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم إلا في حالة واحدة وهي النسخ، وما عداها فإنه يكون إما من باب التعادل والتراجيح، وإما أنه يمكن التوفيق بينهما.

أما النسخ فسيأتي الكلام عليه في بحث النسخ، وأما التعادل والتراجيح فإن الكلام عليه في باب التعادل والتراجيح للأدلة، وأما التوفيق بين القولين المتعارضين، فإنه يكون بالتدقيق في كل قول منهما؛ لبيان ظروفه وأحواله، فيظهر حينئذ عدم التعارض.

وذلك لأن أحوال العمران مختلف بعضها عن بعض، فلا يقاس شيء من أحوالها على الآخر لمجرد الاشتباه، إذ يجوز أن يحصل الاشتباه في أمر ويكون الاختلاف واقعاً في أمور متعددة؛ ولذلك يجب استبعاد التعميم والتجريد في التشريع والسياسة؛ لأن التشريع هو علاج أفعال العباد ببيان حكمها، والسياسة رعاية شؤون الناس في مصالحهم التي تقوم عليها أفعالهم. وكل منهما متعلق بالحياة وظروفها وأحوالها، وهي متعددة ومتخالفة ومتباينة، ولكنها كثيراً ما تكون متشابهة، فيخشى أن لا يرى فيها هذا التباين أو الاختلاف أو التعدد، فيجر ذلك إلى التعميم، أي إعطاء الحكم لكل ما هو من جنسها، ويجر أيضاً إلى التجريد أي تجريد كل فعل أو كل شأن من الظروف والأحوال المتعلقة به، وهنا يقع الخطأ، ومن جراء ذلك يظهر التعارض بين علاجين لفعل واحد أو شأن واحد، أي يظهر للرائي أن القولين متعارضان.

ومن هنا جاء ظن التعارض بين بعض أقوال الرسول مع البعض الآخر، ولكن:

فيلاحظ من ربط العلاج بالحادثة نفسها، وربط الحادثة بظروفها، أن هناك فرقاً بين الحادثتين، ويتبين أنه لا تعارض بين الحديثين لاختلاف ظروف كل منهما وأحواله، أو لارتباط أحدهما بالآخر في جعلهما معاً أساس النظرة للعلاج، أو أساس النظرة للحادثة، وليس كل واحد منهما منفرداً عن الآخر.

وهذا ما يجب على الفقيه وعلى السياسي أن يقوم به بإفراد كل حادثة عن الأخرى، حتى يتبين له بدقة الفارق بينها، فيصل إلى أن معالجتها مختلفة، ويصل إلى ما هو أقرب إلى الحق والصواب في علاج الحوادث، وفي فهم التشريع أو السياسة.

وبالنسبة للتشريع، فإن النصوص التشريعية هي حكم الحوادث والوقائع، فمن طبيعتها أن تكون مختلفة، ومن طبيعتها أن يظهر بينها أنها متعارضة؛ لدقة الاختلاف بينها، ولحتمية وجود التشابه مع هذا الاختلاف. فيجب على الفقيه أن يدقق في النصوص التشريعية قبل أن يصدر حكمه عليها؛ لأنها ليست تعبيرات أدبية تدل على معان فقط، بل هي علاج لوقائع، لا بد أن يقرن معانيها التي في ذهنه بالوقائع التي يقع عليها حسه، بحيث يضع إصبعه على الواقع، حتى يتأتى له فهم التشريع، وإدراك الواقع الذي يعالجه؛ فيدرك حينئذ الفروق الدقيقة بين مدلولات النصوص، ويدرك خطر التعميم، وخطر التجريد، وعلى هذا الأسـاس يجـب أن ينظـر إلى الأحـاديث النبوية؛ فيدرك حينئذ عدم التعارض.

والناظر في الأحاديث النبوية التي يظهر فيها أنها متعارضة، يجد أنها جميعها يمكن التوفيق بينها عند التدقيق. والأمثلة على ذلك كثيرة، فمن ذلك مثلاً أحاديث يأمر الرسول فيها بأشياء، وتعارضها أحاديث أخرى يرفض الرسول قبول هذه الأشياء التي أمر بها، فيظهر حينئذ أن بينها تعارضاً، ولكن الحقيقة أنه لا تعارض، فإن أمر الرسول هو طلب فعل، فهو لا يفيد الوجوب أو الندب أو الإباحة إلا بقرينة، فكونه يأتي بعد هذا الأمر بما يدل على أنه لا يفعله، كان ذلك قرينة على أن الأمر للإباحة، فلا يكون رفضه لقبول الأشياء التي أمر بها مناقضاً لأمره بها، بل يكون قرينة على أن أمره للإباحة، وليس للوجوب، ولا للندب. ومن ذلك ما روي عن قيس بن سعد قال: «زَارَنَا رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وآله وسلم فِي مَنْزِلِنَا ...، فَأَمَرَ لَهُ سَعْدٌ بِغُسْلٍ فَوُضِعَ فَاغْتَسَلَ ثـُمَّ نَاوَلَهُ أَوْ قَالَ نَاوَلُوهُ مِلْحَفَةً مَصْبُوغَةً بِزَعْفَرَانٍ وَوَرْسٍ، فَاشْتَمَلَ بِهَا» أخرجه أحمد. فإن هذا الحديث يدل على جواز التنشيف من الغسل، ومثله الوضوء، وهذا يعارض ما روي عن ميمونة بلفظ: «.. ثـُمَّ أُتِيَ بِمِنْدِيلٍ فَلَمْ يَنْفُضْ بِهَا» أخرجه البخاري؛لأنه يدل على أن الرسول لم يفعل التنشيف. وحاول بعضهم التوفيق بين الحديثين، بأن يحمل عدم تنشيفه على الكراهة بدليل أنه حصل منه التنشيف، لكن ذلك إنما يحمل على الكراهة، لو كان الرسول نهى عن الشيء وأمر به فإنه يحمل النهي على الكراهة، ولكن هنا فعل الشيء مرة ولم يفعله مرة أخرى، فلا تعارض بين الفعلين، ولو فرض أن هناك تعارضاً فيحمل على الإباحة؛ لأن عدم فعل الرسول لشيء لا يدل على النهي؛ لأنه كثيراً ما كان يعرض عن فعل بعض المباحات.

ومن ذلك ما روي عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك: «أَنَّ عَامِرَ بْنَ مَالِكٍ مُلاَعِب الأَسِنَّةِ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ الله  صلى الله عليه وآله وسلم وَهُوَ مُشْرِكٌ، فَأَهْدَى لَهُ، فَقَالَ: إِنِّي لاَ أَقْبَلُ هَدِيَّةَ مُشْرِكٍ» أخرجه الطبراني. فهذا الحديث يعارض ما ثبت عن النبي  صلى الله عليه وآله وسلم أنه قبل الهدية من المشركين، وأمر بقبولها. عن علي t قال: «أَهْدَى كِسْرَى لِرَسُولِ اللَّهِ  صلى الله عليه وآله وسلم    فَقَبِلَ مِنْهُ، وَأَهْدَى لَهُ قَيْصَرُ فَقَبِلَ مِنْهُ، وَأَهْدَتْ لَهُ الْمُلُوكُ فَقَبِلَ مِنْهُمْ» أخرجه أحمد. وعن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: «قَدِمَتْ قُتَيْلَةُ ابْنَةُ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عَبْدِ أَسْعَدَ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ حَسَلٍ عَلَى ابْنَتِهَا أَسْمَاءَ ابْنَةِ أَبِي بَكْرٍ بِهَدَايَا: ضِبَابٍ وَأَقِطٍ وَسَمْنٍ، وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، فَأَبَتْ أَسْمَاءُ أَنْ تَقْبَلَ هَدِيَّتَهَا وَتُدْخِلَهَا بَيْتَهَا. فَسَـأَلَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ  صلى الله عليه وآله وسلم ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ( لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) إِلَى آخِرِ الآيَةِ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَقْبَلَ هَدِيَّتَهَا، وَأَنْ تُدْخِلَهَا بَيْتَهَا» أخرجه أحمد. فيظهر التعارض بين قبول الرسول الهدية من المشرك، وبين رفضه الهدية من المشرك. والجمع بينهما أن رفضه الهدية من المشرك قرينة على أن قبول الهدية مباح، وليس واجباً، ولا مندوباً؛ لأن الرسول كان يرفض كثيراً من المباحات، فقد رفض أن يأكل من الضب وقال ما يدل على أنه يعافه، ورفض أن يأكل الأرنب. ومن ذلك ما رواه البخاري عن المؤمنات المهاجرات قال: «لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ: (( إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ)) قَالَ عُرْوَةُ: فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  صلى الله عليه وآله وسلم كَانَ يَمْتَحِنُهُنَّ بِهَذِهِ الآيَةِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ إِلَى غَفُورٌ رَحِيمٌ قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنْهُنَّ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وآله وسلم : قَدْ بَايَعْتُكِ كَلاَمًا يُكَلِّمُهَا بِهِ، وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ فِي الْمُبَايَعَةِ، وَمَا بَايَعَهُنَّ إِلاَّ بِقَوْلِهِ» أخرجه البخاري. وعن أميمة بنت رقيقة قالت: «أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ  صلى الله عليه وآله وسلم فِي نِسْوَةٍ بَايَعْنَهُ عَلَى الإِسْلاَمِ، فَقُلْنَ يَا رَسُولَ اللَّهِ نُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ لاَ نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ نَسْرِقَ، وَلاَ نَزْنِيَ، وَلاَ نَقْتُلَ أَوْلاَدَنَا، وَلاَ نَأْتِيَ بِبُهْتَانٍ نَفْتَرِيهِ بَيْنَ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا، وَلاَ نَعْصِيَكَ فِي مَعْرُوفٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: فِيمَا اسْتَطَعْتُنَّ وَأَطَقْتُنَّ، قَالَتْ فَقُلْنَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَرْحَمُ بِنَا مِنْ أَنْفُسِنَا، هَلُمَّ نُبَايِعْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وآله وسلم : إِنِّي لاَ أُصَافِحُ النِّسَاءَ، إِنَّمَا قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ كَقَوْلِي لاِمْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ» أخرجه مالك. وروى البخاري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: «وَمَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ  صلى الله عليه وآله وسلم يَدَ امْرَأَةٍ إِلاَّ امْرَأَةً يَمْلِكُهَا» فإن هذه الأحاديث تعـارض ما رواه البخـاري عن أم عطـية قالت: «بَايَعْنَا النَّبِيَّ  صلى الله عليه وآله وسلم فَقَرَأَ عَلَيْنَا: ( عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا) وَنَهَانَا عَنِ النِّيَاحَةِ، فَقَبَضَتِ امْرَأَةٌ مِنَّا يَدَهَا، فَقَالَتْ: فُلاَنَةُ أَسْعَدَتْنِي، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَجْزِيَهَا. فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا» فهذا الحديث يدل على أن الرسول بايع النساء بالمصافحة بدليل قوله: «فَقَبَضَتِ امْرَأَةٌ مِنَّا يَدَهَا» فإن معناها أن النساء الأخريات اللواتي معها لم يقبضن أيديهن، وهذا يعني أنهن بايعن بأيديهن، أي بالمصافحة، وحديث أميمة يقول: «إِنِّي لاَ أُصَافِحُ النِّسَاءَ» وعائشة تقول: «مَا مَسَّتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأةٍ»، وفي هذا تعارض، فيكون حديث البيعة بالمصافحة يتعارض مع حديث أنه لم يصافح النساء، والجمع بين هذا الحديث والأحاديث التي قبله هو أن رفض الرسول أن يفعل فعلاً ليس بنهي، فلا يدل على النهي عن المصافحة، وإنما هو امتناع منه عن مباح من المباحات، وأنه قرينة على أن فعل الرسول ببيعته النساء بالمصافحة ليس واجباً، ولا مندوباً، بل هو مباح؛ لأن قول الرسول إنه لا يصافح لا يعني أنه نهى عن المصافحة، إذ هو ليس نهياً قطعاً، وإنما يحتمل أنه تجنبه كما كان يتجنب كثيراً من المباحات، كما تجنب أن يبيت في بيته درهم أو دينار، وكما تجنب سماع مزمار الراعي في حديث نافع عن ابن عمر، ولم ينكر على الراعي ولم يزجره، مما يدل على إقراره، ولكنه تجنب سماعه، وكما تجنب أكل الضب، وأكل الأرنب، وأمثال ذلك. وعليه فلا تعارض بين حديث أميمة والحديث الذي قبله. ومما ينبغي لفت النظر إليه في حديث أميمة، أن شبهة التعارض فيه إنما هي لحديث أم عطية عن البيعة بالمصافحة؛ لأنه خاص بالبيعة، وتلك الأحاديث خاصة بالبيعة، فتأتي شبهة التعارض، أما الأدلة التي تدل على جواز اللمس مثل آية: (( أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ)) وفي قراءة: (( أَوْ لمَسْتُمُ النِّسَاءَ))فإنها تدل بدلالة الإشارة على جواز لمس الرجل للمرأة، فلا توجد شبهة تعارض بين حديث أميمة وبين هذه الآية، لأن هذه الآية عامة في كل لمس، وحديث أميمة خاص بالبيعة.

وعليه فإنه إذا ورد حديث يدل على امتناع الرسول عن فعل شيء، وتصريحه بأنه لا يفعله، فليس نهياً ولا يفيد النهي، فلا يعارض فعل الرسول لذلك الشيء في وقت آخر، ولا يعارض أمره بذلك الشيء، وكل ما في الأمر يكون قرينة على أن ذلك الشيء الذي فعله الرسول أو أمر به مباح، وليس بواجب، ولا مندوب، والرسول  صلى الله عليه وآله وسلم قد تجنب كثيراً من المباحات.

ومن الأحاديث التي يبدو أنها متعارضة ولكن يمكن التوفيق بينها، أحاديث ينهى رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم فيها عن شيء ويأمر به، فمن ذلك التداوي بالنجس وبالمحرمات، فقد وردت أحاديث تنهى عن التداوي بالنجس، وعن التداوي بالمحرمات، عن وائل الحضرمي: «أَنَّ طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٍ الْجُعْفِيَّ سَأَلَ النَّبِيَّ  صلى الله عليه وآله وسلم    عَنْ الْخَمْرِ، فَنَهَاهُ، أَوْ كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا. فَقَالَ: إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ» أخرجه مسلم. وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم : «إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً، فَتَدَاوَوْا، وَلاَ تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ» أخرجه أبو داود. وعن أبي هريرة قال: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وآله وسلم عَنِ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ يَعْنِي السُّمَّ» أخرجه أحمد. فهذه الأحاديث تعارض ما ورد من أحاديث يأمر فيها الرسول بالتداوي بالنجس وبالمحرم، عن قتادة عن أنس: «أَنَّ نَاسًا مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ عَلَى النَّبِيِّ  صلى الله عليه وآله وسلم   وَتَكَلَّمُوا بِالإِسْلاَمِ فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا أَهْلَ ضَرْعٍ وَلَمْ نَكُنْ أَهْلَ رِيفٍ، وَاسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وآله وسلم    بِذَوْدٍ وَرَاعٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا فِيهِ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا» أخرجه البخاري. وعن أنس أن النبي  صلى الله عليه وآله وسلم : «رَخَّصَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ؛ لِحِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا» أخرجه أحمد. ورواه الترمذي بلفظ: «أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ شَكَيَا الْقَمْلَ إِلَى النَّبِيِّ  صلى الله عليه وآله وسلم فِي غَزَاةٍ لَهُمَا، فَرَخَّصَ لَهُمَا فِي قُمُصِ الْحَرِيرِ. قَالَ: وَرَأَيْتُهُ عَلَيْهِمَا» فهذان الحديثان يجيزان التداوي بالنجس والمحرم، فالحديث الأول يجيز التداوي بشرب البول وهو نجس، والحديث الثاني يجيز التداوي بلبس الحرير وهو حرام، والأحاديث التي قبلهما تحرم التداوي بالمحرم وبالنجس، وهنا يقع التعارض. والجمع بين هذه الأحاديث هو أن يحمل النهي عن التداوي بالنجس والمحرم على الكراهة؛ لأن النهي طلب ترك، ويحتاج إلى قرينة تدل أنه طلب جازم أو غير جازم، فكون الرسول يجيز التداوي بالنجس والمحرم، في الوقت الذي ينهى عن التداوي بهما، قرينة على أن نهيه عن التداوي بهما ليس نهياً جازماً، فيكون مكروهاً.

ومن الأحاديث التي يبدو أنها متعارضة ولكن يمكن التوفيق بينها، الأحاديث التي يتحد موضوعها ولكن تختلف ظروفها. فمن ذلك ما روي عن زيد بن خالد الجهني أن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ، الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا» أخرجه مسلم. فإنه يعارض ما روي عن ابن عمر قال: «خَطَبَنَا عُمَرُ بِالْجَابِيَةِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ  صلى الله عليه وآله وسلم فِينَا، فَقَالَ: أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي، ثـُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثـُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثـُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَلاَ يُسْتَحْلَفُ، وَيَشْهَدَ الشَّاهِدُ وَلاَ يُسْتَشْهَدُ» أخرجه الترمذي. فهذا الحديث يذم فيه الرسول الشاهد الذي يشهد ولا يستشهد، والحديث الذي قبله يمدح فيه الرسول من يأتي بشهادته قبل أن يستشهد، فيبدو أنهما متعارضان، والجمع بين هذين الحديثين، هو أن الحديث الأول الذي مدح فيه الشاهد الذي يشهد قبل أن يستشهد هو في موضوع شهادات الحسبة، التي هي شهادات بما هو حق الله تعالى، مثل العتاق، والوقف، والوصية العامة، وما شابهها. فهذا الشاهد، وهو شاهد الحسبة، هو خير الشهداء؛ لأنه لو لم يظهرها لضاع حكم من أحكام الدين، وقاعدة من قواعد الشرع، ومثل ذلك من عنده شهادة لإنسان بحق لا يعلم بها صاحبها، فيأتي إليه فيخبره بها. وأما الحديث الثاني الذي ذم فيه الرسول الشاهد الذي يشهد قبل أن يستشهد فهو في موضوع الشهادة في حقوق الآدميين، وبذلك اختلفت ظروف الحديثين وإن كان موضوعهما واحداً.

ومن الأحاديث التي يبدو أنها متعارضة ولكن يمكن التوفيق بينها الأحاديث التي يتحد موضوعها ولكن تختلف أحوالها. فمن ذلك ما روي عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي  صلى الله عليه وآله وسلم   أنها قالت: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وآله وسلم قِبَلَ بَدْرٍ، فَلَمَّا كَانَ بِحَرَّةِ الْوَبَرَةِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ، فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ  صلى الله عليه وآله وسلم حِينَ رَأَوْهُ، فَلَمَّا أَدْرَكَهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ  صلى الله عليه وآله وسلم : جِئْتُ لأِتَّبِعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ. قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ: تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: فَارْجِعْ، فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ، قَالَتْ: ثـُمَّ مَضَى حَتَّى إِذا كُنَّا بِالشَّجَرَةِ أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ  صلى الله عليه وآله وسلم كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، قَالَ: فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ، قَالَ: ثـُمَّ رَجَعَ، فَأَدْرَكَهُ بِالْبَيْدَاءِ، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ: تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وآله وسلم فَانْطَلِقْ» أخرجه مسلم. وعن خبيب عن عبد الرحمن عن أبيه عن جده قال: «أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ  صلى الله عليه وآله وسلم وَهُوَ يُرِيدُ غَزْوًا، أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ قَوْمِي وَلَمْ نُسْلِمْ، فَقُلْنَا: إِنَّا نَسْتَحْيِي أَنْ يَشْهَدَ قَوْمُنَا مَشْهَدًا لاَ نَشْهَدُهُ مَعَهُمْ، قَالَ: أَوَ أَسْلَمْتُمَا؟ قُلْنَا: لاَ، قَالَ: فَإِنَّا لاَ نَسْتَعِينُ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: فَأَسْلَمْنَا وَشَهِدْنَا مَعَهُ» أخرجه أحمد. وعن أنس قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم : «لاَ تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ، وَلاَ تَنْقُشُوا خَوَاتِيمَكُمْ عَرَبِيّاً» أخرجه أحمد. وعن أبي حميد الساعدي قال: «خَرَجَ رسولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا خَلَّفَ ثـَنِيَّةَ الوَداع، إذا كَتِيبَةٌ، قالَ: مَنْ هؤلاء؟ قالوا: بنو قَيْنُقاع، وهُمْ رَهْطُ عبدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَّم، قالَ: وأسلموا؟ قالوا: لا، بل هم على دينهم، قال: قل لهم فَلْيَرْجِعُوا، فإِنّا لا نستعينُ بالمشركين» أخرجه الحافظ أبو عبد الله وذكره صاحب نيل الأوطار. فهذه الأحاديث تعارض الأحاديث التي وردت في جواز الاستعانة بالمشركين. عن ذي مخبر قال: سمعت رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا، وَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِكُمْ» رواه أبو داود.وقد أخرج الترمذي عن الزهري «أَنَّ النَّبِيَّ  صلى الله عليه وآله وسلم أَسْهَمَ لِقَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ قَاتَلُوا مَعَهُ» وروي: «أنَّ قُزْمَانَ خَرَجَ مع أصحابِ النبيِّ  صلى الله عليه وآله وسلم يومَ أُحُدٍ وهو مُشْرِكٌ، فَقَتَلَ ثلاثةً من بني عبدِ الدّارِ حَمَلَةِ لِواءِ المشركين»نقله في نيل الأوطار عن أصحاب السير. فهذه الأحاديث تدل على جواز الاستعانة بالمشركين، والأحاديث السابقة تدل على عدم جواز الاستعانة بالمشركين، فيبدو أنها أحاديث متعارضة، والجمع بينها هو أن حديث عائشة فيه نفي الرسول عن نفسه أن يستعين بمشرك، ورفض الرسول أن يفعل فعلاً لا يدل على النهي عنه؛ لأنه يحتمل أنه يتجنبه كما كان يتجنب أي مباح، بل هو قرينة على أن الأمر بخلافه، أو فعل خلافه، ليس واجباً، ولا مندوباً، ولا مباحاً، فلا تعارض في هذا الحديث. وأما حديث أبي حميد الساعدي فإنه قال فيه: «إِنَّا لاَ نَسْتَعِينُ بِالْمُشْرِكِينَ» فهو عام له وللأمة؛ ولذلك يفيد النهي، ولكن موضوعه كان كتيبة تقاتل تحت رايتها وليس شخصاً، فيكون النهي عن الاستعانة بجيش يقاتل تحت رايته، والأحاديث التي استعان فيها الرسول قد استعان بأفراد، فيكون الحديثان قد اختلفت فيهما الحال، فالنهي عن الاستعانة إنما هو عن الاستعانة بالجيش يقاتل تحت راية نفسه، والجواز إنما هو للاستعانة بالأفراد. وأما حديث أنس، فإن النار كناية عن الكيان، فالقبيلة توقد ناراً لها إشارة لإعلانها الحرب، والاستضاءة بنارها الدخول تحت كيانها، فهذا هو المنهي عنه. وحديث الروم يعني أنهم دفعوا لنا الجزية ودخلوا تحت حمايتنا؛ لأن الصلح يقتضي ذلك، فيكونون قد قاتلوا تحت رايتنا؛ وعليه لا تعارض بين هذه الأحاديث؛ لأن النهي عن الاستعانة بالمشرك في حالة أن يستعان به بوصفه جيشاً وتحت رايته، وجواز الاستعانة بالمشرك إنما هو في حالة كونه فرداً أو جيشاً تحت راية الإسلام.

ومـن الأحـاديـث التي يـبـدو أنها متعارضة ولكن يمكن التـوفـيـق بيـنـهـا، الأحاديث التي ينهى الرسول فيها عن أمر نهياً عـامـاً، ويبيحه في حال معينة، فتكون الحال المعينة بمقام الاستثناء، أي يكـون نـقـيـض الحـال التي أباحها علة للنهي. ومن ذلك ما روي عـن أبي خـداش عـن رجـل مـن أصـحـاب النبي  صلى الله عليه وآله وسلم قال: قـال رسـول الله  صلى الله عليه وآله وسلم : «الْمُـسْـلِـمُـونَ شُرَكَاءُ فِي ثـَلاَثٍ: الْمَاءِ، وَالْكَـلإِ، وَالـنَّـارِ» أخرجه أحمد. فهذا الحديث يعارض ما ثبت عنه  صلى الله عليه وآله وسلم أنـه أبـاح للأفـراد مـلـك عـيـون الماء ملكية فردية لهم في الطـائـف والمـديـنـة. ولكـن يمـكـن الجـمـع بينهما بأن المياه التي أباح الرسول ملكيتها للأفراد لم تكن للجماعة حاجة فيها، فكانت فضلة عما تحتاج الجماعة، بدليل أن الرسول يقول في حديث آخر: «لاَ يُمْنَعُ فَضْلُ مَاءٍ بَعْدَ أَنْ يُسْتَغْنَى عَنْهُ» أخرجه أحمد. فمعناه أن الماء الذي يملك ملكية فردية هو الماء الذي ليس للجماعة فيه حاجة، فيكون نقيضه، وهو الماء الذي للجماعة حاجة فيه، هو الذي يكون الناس شركاء فيه، فتكون هذه هي علة كون الناس شركاء فيه؛ وعليه فلا تعارض بين الحديثين.

وهكذا جميع الأحاديث التي يبدو أنها متعارضة، فإنها عند التدقيق فيها يتبين أنها غير متعارضة، للاختلاف الموجود بينها، ومن هذا يتبين أنه لا تعارض بين أقوال الرسول إلا في حالة واحدة، هي حالة النسخ.