طباعة
المجموعة: فقه القضاء (أحكام البيّنات ونظام العقوبات)

 

فقه الإسلام وأنظمته / فقه نظام العقوبات في الإسلامثبوت القتل

ويثبت القتل بالاقرار والبينة . أما ثبوته بالاقرار فلما روى البخاري عن أنس بن مالك : " أن يهودياً رض رأس جارية بين حجرين ، فقيل لها من فعل بك هذا أفلان ، أم فلان ؟ حتى سُمي اليهودي ، فأومأت برأسها ، فجيء باليهودي فاعترف ، فأمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرضّ رأسه بالحجارة " . وأما البينة فلما روى البخاري عن بشير بن يسار : " زعم أن رجلاً من الأنصار يقال له سهل ابن أبي حتمة أخبره أن نفراً من قومه انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها ووجدوا أحدهم قتيلاً ، وقالوا للذي وجد فيهم : قتلتم صاحبنا ، قالوا : ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً ، فانطلقوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا : يا رسول الله انطلقنا إلى خيبر فوجدنا أحدنا قتيلاً ، فقال : الكُبْر الكُبْر . فقال لهم : تأتون بالبينة على من قتله ؟ قالوا ما لنا بينة قال فيحلفون ، قالوا : لا نرضى بأيمان اليهود ، فكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُطَلّ دمه فوداه مائة من إبل الصدقة " وعن رافع بن خديج قال : " أصبح رجل من الأنصار بخيبر مقتولاً ، فانطلق أولياؤه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكروا ذلك له فقال : لكم شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم ؟ فقالوا يا رسول الله لم يكن ثمة أحد من المسلمين ، وإنما هم يهود قد يجترئون على أعظم من هذا ، قال : فاختاروا منهم خمسين فاستحلفوهم ، فوداه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عنده " وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : " أن ابن مُخيِّصة الاصغر أصبح قتيلاً على أبواب خيبر ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته ، فقال : يا رسول الله ومن أين أصيب شاهدين ؟ وإنما أصبح قتيلاً على أبوابهم ، قال فتحلف خمسين قَسامَة ، فقال : يا رسول الله فكيف أحلف على ما لا أعلم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فاستحلف منهم خمسين قَسامة ، فقال يا رسول الله كيف تستحلفهم وهم اليهود : فقسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ديته عليهم وأعانهم بنصفها " . فهذه الأحاديث الثلاثة طلب الرسول فيها البينة على دعوى القتل شاهدين ، ففي الحديث الأول قال لهم : " تأتون بالبينة على من قتله " وفي الحديث الثاني قال : " لكم شاهدان يشهدان على من قتل صاحبكم " وفي الحديث الثالث قال : " أقم شاهدين على من قتله " وهذا صريح بأنه لاثبات القتل لا بد من البينة ، وصريح بأن البينة شاهدان اثنان ، وهذا يعني أن القتل يثبت بشاهدين ، فإن وجد شاهدان يثبت القتل وإلا فلا ، ولا خلاف في ذلك ، وإنما الخلاف في الشاهدين هل هما رجلان ، وهذه شهادة خاصّة بالحدود والعقوبات ، أم هما شاهدان كسائر الشهادات ، رجلان أو رجل وامرأتان ؟

بيّنة القتل

يقول الأوزاعي إن القصاص كالأموال ، فيكفي فيه شهادة رجلين ، أو رجل وامرأتين ، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } وعموم الأشخاص مستلزم الاحوال ، أي أنه عام فيحتاج الاستثناء منه إلى دليل ، ولا يوجد نص مخصص ، فيبقى النص منطبقاً على عموم القضايا . ومذهب الشافعية أن الشهادة في عقوبة لله تعالى ، كحد الشرب ، وقطع الطريق ، أو لآدمي كالقصاص ، رجلان . واستدلوا على ذلك بما رواه مالك عن الزهري قال : " مضت السنة أنه لا يجوز شهادة النساء في الحدود ، ولا في النكاح والطلاق " . وقيس على الثلاثة ما هو مثلها .

والحق أن شهادات القتل قد جاء النص بشاهدين " لكم شاهدان " " أقم شاهدين " فلا يجوز فيها غير ذلك ، لصراحة النص فلا بد من شاهدين اثنين . أما كون الشاهدين رجالاً فإنّه لا يوجد ما يدل عليه ، لأنّ لفظ الشاهد ورد في الأحاديث يدل على الرجل والمرأة ، وجاء في الحدود والقصاص عاماً صادقاً على الرجل والمرأة . فقال تعالى : { لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء } ولفظ الشهداء يشمل الرجل والمرأة . وقال صلى الله عليه وآله وسلم : " أربعة وإلا حد في ظهرك " وكلمة أربعة تشمل الرجل والمرأة . والذي يدل على جواز شهادة النساء في الحدود والجنايات أن الله تعالى قال : { واستشهدوا شهيدين } ثمّ قال : { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } . وروي عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في حديث الشهادة : " فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل " وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في حديث الشهادة : " أليس شهادة المرأة نصف شهادة الرجل ، قلنا بلى يا رسول الله " . فهذه الأدلة عامة في كل دعوى ، ولا يوجد ما يخصصها بغير الحدود والجنايات ، فتبقى عامة . وأما قول الرسول : " شاهدان " ، " أقم شاهدين " فإنّه مثل قوله تعالى : { واستشهدوا شهيدين } وقوله : { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } جاء تعقيباً على شاهدين ، فيعم كل شاهدين ، وفي الحديث فإنّه وإن لم يصرح به ولكنه مفهوم من الآية . وعلى ذلك تكون أدلة الشهادة شاملة للحدود والجنايات ، وعلى ذلك فبينة القتل هي شاهدان : رجلان ، أو رجل وامرأتان . إلا أن نص الرسول على شاهدين يفهم منه أنه لا يقبل فيه الا كمال الشهادة ، وهو رجلان ، أو رجل وامرأتان ، أو أربع نسوة.

نقص الشهادة

وإذا نقصت الشهادة عن الكمال كان فيها شبهة ، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال : " ادرأوا الحدود بالشبهات " فلا تقبل في الحدود ، وقول الرسول في بينة القتل : " شاهدان " نص على كمال الشهادة كذلك ، فلا تقبل في الجنايات أيضاً إلاّ كمال الشهادة . فتكون شهادة القتل الشهادة الكاملة التي جاءت في النصوص ، أي في الأحاديث.

قبول شهادة النساء في القتل

فيبقى حديث مالك عن الزهري الذي استدلوا به على أن شهادة القتل لا بد أن تكون رجلين وهو " مضت السنة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والخليفتين بعده أنه لا يجوز شهادة النساء في الحدود والنكاح والطلاق " فهذا الحديث لو صح لكان مخصصاً للأدلة العامة ولكان رأي الشافعية صحيحاً ، ولكن هذا الحديث حديث منقطع من طريق اسماعيل بن عباس وهو ضعيف فلا يحتج به . قال الشوكاني في نيل الأوطار : ( وقد أخرج قول الزهري المذكور ابن أبي شيبة بإسناد فيه الحجاج بن أرطأة ، وهو ضعيف مع كون الحديث مرسلاً لا تقوم بمثله الحجة ، فلا يصلح لتخصيص عموم القرآن ، باعتبار ما دخل تحت نصه ، فضلاً عما لم يدخل تحته ، بل أُلْحِقَ به بطريق القياس ) فهذا أيضاً يدل على ضعف الحديث بالطريق الثاني الذي روي منه . وما دام الحديث ضعيفاً فإنّه لا يصح الاستدلال به ، وعليه يسقط الاستدلال بهذا الحديث وتبقى الأدلة على عمومها فتكون شهادة النساء مقبولة في القتل .

شراكة القاتل

إنه مما لا شك فيه أن الجماعة تُقْتَلُ بالواحد ، لأنّ نص الأحاديث التي جاءت في عقوبة القاتل تشمل الواحد ، وتشمل الجماعة ، فقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : " مَنْ قُتِل له قتيل فهو بخير النظريْن ، إما أن يفتدي ، وإما أن يَقْتُل " فإنّه يشمل ما إذا كان قد قتله واحد ، أو قتله جماعة ، وقد سأل عمر علياً عن قتل الجماعة بالواحد ، فقال له أرأيت لو أن جماعة سرقت متاعاً أكنت قاطعهم جميعاً ؟ قال : بلى ، قال : فكذلك القتل . فإذا اشترك جماعة ، إثنان أو أكثر في قتل واحد عوقبوا جميعاً ، فيقتلون جميعاً ، ولو كان المقتول واحداً .

أما معنى الشراكة في القتل فإنّه يتوقف على دوره في القتل ، فإن اشترك في ضرب المقتول ، كان شريكاً في القتل قطعاً ، أما إن لم يشترك في الضرب ، فينظر فيه فإن كان مسهلاً للقتل ، كأنّ أمسك بالمقتول فضربه القاتل ، أو أحضره للقاتل ، أو ما شكل ذلك فإنّه لا يعتبر شريكاً ، بل معاوناً فلا يقتل ، وإنما يحبس . فقد أخرج الدارقطني عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : " إذا أمسك الرجل الرجل ، وقتله الآخر يقتل الذي قتل ، ويحبس الذي أمسك " فهو صريح في أن المساعد والمعين لا يقتل ، وإنما يحبس ، ولكنه يحبس مدّة طويلة حتى ثلاثين عاماً ، وعلي بن أبي طالب يقول بحبسه حتى يموت ، فقد روى الشافعي عن علي رضي الله عنه أنه قضى في رجل قتل رجلاً متعمداً ، وأمسكه آخر ، قال : " يقتل القاتل ، ويحبس الآخر في السجن حتى يموت " فكل من كان ليس بشريك يحبس ولا يقتل ، أما الشريك فيقتل قطعاً ، مهما كان دوره في الشراكة . وعليه فالشريك المباشر ، والشريك المحرض ، والشريك المدبر ، والشريك المتآمر ، كل هؤلاء يعتبرون شركاء ، لأنّهم قاموا بفعل القتل ، فيعتبرون شركاء ، سواء اشتركوا بالضرب ، أو اشتركوا في تدبير القتل ، لأنّه عمل من أعمال القتل . فكل من يعتبر عمله مشاركة بالقتل ، يقتل كالقاتل المباشر ، ولكن المسهل لا يعتبر مشاركاً ، لا بشكل مباشر ، ولا بشكل غير مباشر ، لا سيما والحديث دليل على ذلك.