فقه أنظمة دولة الخلافة على منهاج النبوة

القتل على أربعة أوجه : عمد ، وشبه العمد ، وخطأ ، وما أجري مجرى الخطأ . أما العمد فواضح من قوله تعالى : ( ومن يقتل مؤمناً متعمداً) وأما شبه العمد فواضح مما روى عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : « ألا إن دِيَةَ الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها».

وأما الخطأ فواضح من قوله تعالى : ( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ). وأما ما أجري مجرى الخطأ فإنّه قسم من الخطأ إلاّ أنه لا ينطبق عليه تعريف القتل الخطأ فواقعه غير واقع الخطأ ، إذ الخطأ تصحبه إرادة الفعل من حيث هو ، ولكنه يخطئ في الجهة التي يقع عليها الفعل ، أما ما جرى مجرى الخطأ فإنّه لا تصحبه ارادة الفعل مطلقاً ، فالفعل يقع منه على غير ارادته ، فكان واقعه غير واقع الخطأ .

القتل العمد

القتل العمد هو أن يضرب شخص شخصاً بشيء ، الغالب أن يقتل مثله ، أو يفعل شخص بشخص فعلاً ، الغالب من ذلك الفعل أن يقتل به . ويدخل تحت هذا ثلاثة أنواع :

  • أحدها : أن يضربه بما يقتل غالباً كالسيف والسكين والمسدس والقنبلة ، وما شاكل ذلك من الاشياء التي تقتل غالباً . أو أن يضربه بمثقل كبير يقتل مثله ، سواء كان من حديد كالسندان والمطرقة ، أو حجر ثقيل ، أو صخرة كبيرة ، أو خشبة ضخمة ، أو ما شاكل ذلك . فهذه يعتبر القتل فيها من نوع القتل العمد ، وتطبق عليه أحكام العمد .
  • النوع الثاني : أن يضربه بما لا يقتل غالباً ، ولكن اقتران شيء آخر به يجعله مما يقتل غالباً ، كالعصا إذا كانت فيها حديدة مثقله ، أو كانت قد دق قي رأسها الثقيل مسامير كبيرة ، أو تكرر الضرب بها تكراراً يقتل غالباً ، وكالحجر إذا كان قد حددت أطرافه بحيث غدا كالسكين ، أو تكرر الضرب به تكراراً يقتل غالباً . فهذه وأمثالها يعتبر القتل فيها من نوع القتل العمد ، فقد روي عن أنس : « أن يهودياً رض رأس جارية بين حجرين ، فقيل لها من فعل بك هذا فلان أو فلان حتى سمي اليهودي ، فأومأت برأسها ، فجيء به فاعترف ، فأمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرضّ رأسه بحجرين» أي قتله ، وفي رواية لمسلم : « فقتلها بحجر ، فجيء بها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبها رمق» .
  • النوع الثالث : أن يفعل به فعلاً الغالب من ذلك الفعل أن يتلف به ، وذلك كأنّ يربط عنقه ، بحبل ويشنقه ، أو أن يلقيه من شاهق كرأس جبل ، أو بناية عالية ، أو من قطار أو من سيارة مسرعة ، أو يلقيه في البحر القاء يغرق منه ، أو يلقيه في النار ، أو أن يجمع بينه وبين أسد أو نمر في مكان ضيق كقفص مثلاً ، أو أن يحبسه في مكان ويمنع عنه الطعام والشراب مدّة لا يبقى فيها حتى يموت ، أو يسقيه سماً ، أو يطعمه شيئاً قاتلاً ، أو أن يتسبب في قتله بما يقتل غالباً ، كأنّ يكره رجلاً على قتل آخر فيقتله ، فيكون هو القاتل مع القاتل المباشر ، وهكذا . فإن كل فعل يكون الغالب منه القتل يعتبر من القتل العمد ، لما روى أبو داود في خبر اليهودية التي أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشاة مسمومة ، فإن أبا سلمة قال فيه : « فمات بشر بن البراء فأمر بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقتلت» .

عقوبة قتل العمد

حكم القتل العمد - بجميع أنواعه - أن يُقتَل القاتل ، أي يجب في القتل العمد القود ، وهو قتل القاتل جزاء على ارتكابه القتل العمد ، إذا لم يعف أولياء المقتول . فإن عفوْا فَدِيةٌ مُسَلَّمةٌ إلى أهله ، إلاّ أن يَصَّدَّقوا . والدليل على ذلك قوله تعالى : ( ومن قُتِل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القَتْل) وقوله تعالى : ( كُتِبَ عليكم القصاصُ في القتلى) وقوله تعالى : ( ولكم في القصاص حياة) والقصاص المماثلة ، أي قتل القاتل . وروى البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : « من قُتِل له قتيل فهو بخير النظرين ، إما أن يفتدي ، وإما أن يَقتُل» وروى أبو داود عن أبي شريح الخزاعي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : « من أصيب بدم أو خَبَل - والخبل الجراح - فهو بالخيار بين إحدى ثلاث ، إما أن يقتص ، أو يأخذ العقل ، أو يعفو ، فإن أراد رابعة فخذوا على يديه» وقال صلى الله عليه وآله وسلم : « العمد قود إلاّ أن يعفو ولي المقتول» وأخرج أبو داود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : « مَنْ قَتَل عامداً فهو قَوَد» وأخرج ابن ماجة أن النبيصلى الله عليه وآله وسلم قال :» مَنْ قَتَل عامداً فهو قَود ، ومَنْ حال بينه وبينه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يُقبَل منه صَرْف ولا عدل» وروى الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : « مَنْ قَتَلَ متعمداً دُفِعَ إلى أولياء المقتول ، فإن شاءوا قتلوه ، وإن شاءوا أخذوا الدية ، وهي ثلاثون حِقَّة ، وثلاثون جَذَعَة ، واربعون خَلِفَة ، وما صولحوا عليه فهو لهم» . فهذه الأدلة صريحة الدلالة بأن حكم قاتل العمد القود ، أي أن يُقْتَل القاتل ، أو يأخذ الولي الدية ، أو يعفو .

القَوَد

القود هو قتل القاتل عمداً ، قال عليه السلام : « مَنْ قَتَلَ عامداً فهو قَوَد» فمَنْ قَتَل شخصاً عامداً متعمداً يُقتَل به ، لصريح الأحاديث . والمقتول يقاد به قاتله ، وإن كان مجدع الأطراف ، معدوم الحواس ، والقاتل صحيح سوي الخَلْق ، أو كان بالعكس ، وكذلك إن تفاوتا في العلم والشرف ، والغنى والفقر ، والصحة والمرض ، والقوة والضعف ، والكبر والصغر ، والسلطان والسوقة ، وغير ذلك ، ولا فرق بين أن يكون حراً أو عبداً ، رجلاً أو امرأة ، مسلماً أو غير مسلم . فالنفس بالنفس بغض النظر عن جميع الاعتبارات ، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث ابن مسعود المار : « والنفس بالنفس» وهو عام . وهذا كاف للدلالة لأنّه حديث صحيح ، ونص في الموضوع .

وكلمة النفس اسم جنس تشمل كل نفس ، فَيُقتَل الرجل بالرجل . والرجل بالأنثى ، والحر بالحر ، والحر بالعبد ، والمسلم بالكافر ، والكافر بالمسلم ، من غير أي فرق بين نفس ونفس . أما قتل الرجل بالمرأة فثابت بنص الحديث ، أخرج مالك من حديث عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتب في كتابه لأهل اليمن : « ان الذكر يقتل بالأنثى» وروى البخاري عن أنس « أن يهودياً رضّ رأس جارية بين حجرين ، فقيل لها من فعل بك هذا ؟ فلان أو فلان حتى سُمِّي اليهودي ، فأومأت برأسها ، فجيء به فاعترف ، فأمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرضّ رأسه بحجرين» فهذا الحديثان دليل صريح على أن الرجل يقتل بالمرأة ، ويكفي قول الرسول صلى الله عليه وآله سلم : » ان الذكر يقتل بالأنثى» وأما قتل الحر بالعبد فقد روى مسلم والبخاري عن الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : « من قَتل عبده قتلناه ، ومن جَدع عبده جدعناه» فإذا كان السيد يقتل بعبده ، فغير السيد يقتل بالعبد من باب أولى .

قتل المسلم بالكافر

وأما قَتْلُ المسلم بالكافر ، فإنّه يفرق فيه بين الكافر الحربي ، الذي لم يُعطَ أماناً ، لا عاماً مع دولته ، ولا خاصاً له ، وبين الكافر الذمي ، والكافر المستأمن . أما الكافر الحربي ، الذي لم يُعطَ أماناً فإنّه لا يُقتَل به لا مسلم ولا ذمي ، سواء أكان محارباً بالفعل ، كما كانت قريش مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، أم كان غير محارب بالفعل ، كما كانت سائر القبائل قبل إعلان الرسول الحرب عليها ، لأنّ المحارب بالفعل لا خلاف في أن المسلم يقتله حيثما وجده ، وأن دمه هدر . وأما غير المحارب بالفعل ، فإنّه إن لم يكن معاهداً ، إذا قتله المسلم لا يقتل به ، وإنما عليه فقط نصف دية المسلم . لما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : « عقل الكافر نصف عقل المسلم» لاننا لم نعلن الحرب عليه ، وحالة الحرب الفعلية غير قائمة بيننا وبينه ، فلا يقتل مسلم بكافر حربي ، غير معاهد مطلقاً ، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد صرح في حديثه بأن المسلم لا يقتل بالكافر ، والكافر المعاهد لا يقتل بالكافر ، فقد روى أحمد عن علي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : « أَلاَ لا يُقتَلُ مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده» وصح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : « لا يُقتَل مسلم بكافر ، ولا ذو عهد في عهده» ومعنى الحديث لا يقتل مؤمن بكافر حربي ، ولا يقتل كافر معاهد ، بكافر حربي ، أي لا يقتل مسلم بكافر ، ولا كافر ذو عهد بكافر ، أي حربي لأنّ المعاهد ، مستأمناً كان أو ذمياً كافر . فهذا دليل على أن المسلم والمعاهد لا يقتلان بالكافر الحربي .

الكافر غير الحربي

أما الكافر غير الحربي ، فإنّه إما أن يكون ذمياً ، أو مستأمناً ، فإن كان الكافر ذمياً ، فإنّه يعامل معاملة المسلم في صيانة دمه وماله وعرضه ، ودمه حرام على المسلمين كدم المسلم . روى البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : « مَنْ قَتَل مُعَاهَداً لم يَرِحْ رائحة الجنة ، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاماً» وروى الترمذي في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : « ألا مَنْ قَتَل نفساً معاهدة لها ذمة الله ، وذمة رسوله فقد أخفر ذمة الله ، ولا يَرِحْ رائحة الجنة ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين خريفاً» . فهذان الحديثان دَلاّ على تحريم قتل المعاهد والذمي ، واشتملا على تشديد الوعيد على قتل المعاهد والذمي ، لدلالتها على تخليده في النار ، وتحريم الجنة عليه . وأخرج البيهقي من حديث عبد الرحمن البيلماني : « أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قتل مسلماً بمعاهد وقال : أنا أكرم من وَفى بذمته» وهذا الحديث يدل على أن من قتل معاهداً قُتِلَ به ، وأن المسلم يُقتَل بالكافر الذمي . وقد أخرج الطبراني « أن علياً أتِيَ برجل من المسلمين قَتَلَ رجلاً من أهل الذمّة ، فقامت عليه البينة ، فأمر بقتله ، فجاء أخوه فقال إني قد عفوت ، قال : فلعلهم هددوك وفرقوك وقرعوك قال : لا ، ولكن قتله لا يرد عليّ أخي ، وعرضوا لي ورضيت ، قال ، أنت أعلم ، من كان له ذمتنا فدمه كدمنا ، وديته كديتنا» . وهذا الأثر وإن كان عمل صحابي وقول صحابي ، فلا يصلح دليلاً ، ولكنه يستأنس به عند الاستدلال بالحديث ، فيستأنس به بالاستدلال بحديث أن الرسول قتل مسلماً بمعاهد. وأما ما رواه الترمذي عن أبي جحيفة قال : « قلت لعلي : هل عندكم شيء من الوحي ما ليس في القرآن ؟ فقال : لا والذي فلق الحَبَّ وبرأ النَسَمَةَ إلاّ فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن ، وما في هذه الصحيفة ، قُلْتُ : وما في هذه الصحيفة ؟ قال العَقْل وفِكاك الأسير ، وأن لا يُقتَل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده» وما رواه أحمد وأبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : « لا يقتل مسلم بكافر ، ولا ذو عهد في عهده» فإنّه يحمل فيهما المطلق على المقيد ، فيكون الحديث قد ذكر في الشطر الاول منه نصاً مطلقاً هو « لا يقتل مسلم بكافر» وذكر في الشطر الثاني نصاً مقيداً ودل النص على القيد بدلالة الاقتضاء ، وهو « ولا ذو عهد في عهده» أي ولا يُقتَل كافر ذو عهد بكافر ، وحذف كلمة كافر من الشطر الثاني من قِبَل الاكتفاء ، لأنّها ذكرت في الشطر الأول ، فقوله لا يُقتَل كافر بكافر ، ووصف الكافر الأول بانه ذو عهد يقتضي أن يكون الكافر الثاني كافراً حربياً ، أي يقتضي أن يكون الكافر الثاني مقيداً بانه حربي ، وعليه فإنّه يحمل الكافر في الشطر الأول وهو المطلق على الكافر في الشطر الثاني وهو المقيد ، فيكون معنى الحديث : لا يُقتَل مسلم بكافر حربي ولا مُعَاهَد بكافر حربي ، وعليه لا يصلح هذان الحديثان دليلاً على عدم قتل المسلم بالذمي . وأما الكافر المستأمن فإنّه يعامل معاملة الذمي ، من أنه يحرم دمه ، ويُقتَلُ المسلم به ، وذلك لأنّ حديث عبد الله بن عمرو ذكر المعاهد ، وحديث البيلماني ذكر المعاهد ، والمستأمن معاهد ، فكما يطلق على الذمي معاهد ، يطلق على المستأمن معاهد ، سواء أكان أمانه له وحده ، أم أمانه مع دولته أماناً عاماً لرعاياها ، فإنّه كله يعامل معاملة الذمي ، ما دام في دارنا ، لأنّه بأخذه الأمان عصم نفسه وماله وعرضه ، فيحرم على المسلمين قتله بلا خلاف بين أهل الإسلام ، قال تعالى : ( وإنْ أَحَدٌ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثمّ أبلغه مأمنه) فإذا قتله مسلم قُتِلَ به كالذمي سواء بسواء ، ويؤيد ذلك أن قتله خطأ حكمه حكم المسلم ، كما ورد في القرآن قال تعالى : ( وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلّمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة) فدل على أن قتله عمداً كقتل المسلم العمد .

الحر يقتل بالعبد، وأن الذكر يقتل بالأنثى

وأما آية ( الحرّ بالحرّ ، والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى) فإن منطوقها يدل على أن الحر إذا قَتَل حراً يُقتَل به ، والعبد إذا قَتَل عبداً يُقتَل به ، والانثى إذا قتلت أنثى تُقتَل بها ، فلا دلالة في منطوق الآية على غير هذا ، إلاّ أن مفهوم المخالفة في الآية يدل على أن الحرّ إذا قَتَل عبداً لا يُقتَل به ، وأن الذكر إذا قَتَل أنثى لا يُقتَل بها ، ومفهوم المخالفة مفهوم صفة لا مفهوم لقب ، فيعمل به إذا لم يرد نص أخر يلغيه . أما إذا ورد نص يلغيه فيعطل المفهوم ، ولا يعمل به ، ولا يعتبر النص الذي الغى المفهوم ناسخاً للمفهوم ، لأنّ النسخ إنما يكون للمنطوق ، أما المفهوم فإن النص يعطله . فمثلاً قوله تعالى : ( ولا تُكرِهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً) يدل مفهوم المخالفة فيه على أنه إن لم يردن تحصناً يجوز اكراههن على البغاء ، ولكن هذا المفهوم قد ألغي وعُطل بنص يدل على خلافه ، وهو قوله تعالى : ( ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً) وقوله تعالى : ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) فإن هذا النص عطل مفهوم المخالفة لآية : ( ولا تكرهوا) والغاه . ومثل قوله تعالى : ( لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة) فإن مفهوم المخالفة للآية أن يؤكل الربا إذا لم أضعافاً مضاعفة ، إلاّ أن هذا المفهوم يلغى ويعطل ولا يعمل به ، لأنّ هناك نصاً يدل على خلافه ، وهو قوله تعالى : ( وأحل الله البيع وحرم الربا) وقوله تعالى : ( وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم) وآية : ( الحرّ بالحر‍ّ) من هذا القبيل ، فإن الله تعالى يقول : ( كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى) فإن مفهوم المخالفة لها أن الحرّ لا يُقتَل بالعبد ، وأن الذكر لا يُقتَل بالأنثى . إلاّ أن هذا المفهوم يلغى ويعطل ولا يعمل به ، لأنّ هناك نصاً يدل على خلافه ، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث سمرة : « مَنْ قَتَل عبده قتلناه» وقوله عليه السلام في كتابه لاهل اليمن : « ان الذكر يقتل بالأنثى» فبقي في الآية منطوقها فحسب ، وبقي الاستدلال بالأحاديث الصحيحة ، الدالة على أن الحر يقتل بالعبد ، وأن الذكر يقتل بالأنثى .

المستثنى من « النفس بالنفس»

وعلى ذلك فإن حديث ابن مسعود : « النفس بالنفس» عام فأي نفس قُتِلت فإنّه يُقتَل قَاتِلُها ، فيكون القَوَد إنساناً بانسان ، نفساً بنفس ، فمن قَتَل نفساً قُتِل بها ، ذكراً كان أو أنثى ، حراً أو عبداً ، مسلماً أو كافراً .

وهذه النصوص في قتل النفس بالنفس عامة فتنطبق على كل نفس ، إلاّ ما جاء النص مستثنياً له فيستثنى ، وبمراجعة النصوص يتبين أنه لم يرد نص يستثني قتل القاتل العمد إلاّ نص واحد يستثني الأب والأم إذا قتل أي منهما ابنه أو بنته وإن سَفَل . فلا يُقتَل الأب بولده ، ولا يُقتَل الجدّ بولد ولده ، وإن نزلت درجته ، وسواء في ذلك ولد البنين ، أو ولد البنات . وكذلك لا تُقتَل الأم بولدها ، ولا الجدة بولد ولدها ، وإن نزلت درجته ، سواء في ذلك ولد البنين ، أو ولد البنات . والدليل على ذلك ما رواه عمر بن الخطاب وابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : « لا يُقتَل والد بولده» وهذا نص صريح ويعتبر الحديث من الحديث المشهور . وأما قتل الولد بأبيه وأمه فإنّه لم يرد نص صحيح باستثنائه ، فيقتل به عملاً بعموم النصوص . فإذا قَتَل الولد أباه وإن علا فإنّه يُقتَل به ، وإذا قتل الولد أمه وإن علت فإنّه يُقتَل بها لعموم قوله : ( كتب عليكم القصاص في القتلى) ولعدم ورود نص صحيح يخصصه في غير الابن ، كما ورد نص يخصصه بغير الأب .

وأما ما رُوي عن سُراقة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : « لا يقاد الأب من ابنه ، ولا الابن من أبيه» فإن هذا الحديث لم يرد في كتب السنن المشهورة ، ويقول الفقهاء بانه لا يظن أن له أصلاً ، وما دام الحديث لم تثبت صحته ، فإنّه لا يصح الاستدلال به ، فلا يخصص به العموم ، وفوق ذلك فإنّه روي عن سراقة نفسه : « أنه صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وسلم كان يقيد الأب من ابنه ، ولا يقيد الابن من أبيه» وقد رواه الترمذي ، وهذا يعارض الحديث الأول ، ولا يعلم تاريخهما ، فلا يمكن أن يدعى النسخ ، ولا يمكن الجمع بينهما ، لانهما متعارضان تعارضاً تاماً ، فهما إذاً حديثان متدافعان ، فيجب اطراحهما ، والعمل بالنصوص الصريحة الواضحة .