طباعة
المجموعة: فقه القضاء (أحكام البيّنات ونظام العقوبات)

فقه الإسلام وأنظمته / أحكام البيات

لا يصح أن يشترط في الشاهد أن يكون مسلماً اشتراطاً مطلقاً. وكذلك لا يصح أن يطلق جواز شهادة غير المسلم إطلاقاً عاماً لأن ذلك يتعارض مع النصوص الشرعية.

فقد ورد جواز شهادة غير المسلم في الوصية في السفر كما جاء في آية: (شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) وورد جواز شهادة غير المسلم في القتل كما يفهم من حديث بشير بن يسار في قتيل خيبر. وقد ورد اشتراط أن يكون الشاهد مسلماً في الأمور المالية كما جاء في آية: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ) وورد اشتراط أن يكون الشاهد مسلماً في الطلاق والرجعة كما في آية: (فَأَمْسِكُوهنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ) وعليه لا يصح أن تجوز شهادة غير المسلم بشكل مطلق في جميع الحوادث. وعلى ذلك لا بد من التفصيل في شهادة غير المسلم والتقيد بالنصوص من الكتاب والسنة من غير أي تأويل.

 

* عموم خطاب التكليف

وعند التدقيق في هذا الموضوع نجد أن الشهادة عمل من الأعمال التي جاء بها خطاب الشارع، وهي تكليف من التكاليف الشرعية، والكافر مخاطب بخطاب الشارع كالمسلم سواء بسواء، لأن الإسلام جاء لجميع الناس: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ) وكما أن الكافر مكلف بالأصول، أي بالعقيدة الإسلامية فكذلك هو مكلف بالفروع أي بالأحكام الشرعية بدليل مخاطبة الله لهم بالفروع في آيات متعددة: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ) ، (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) ، (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ؛ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) ، (فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى) إلى غير ذلك. وبما أن الشهادة من الفروع ومما جاء في خطاب الشارع فيكون المسلم والكافر مكلفين بها ولا كلام.

* التكليف المشروط

أما أداء الكافر للفروع فإن ما جاء منها مشترطاً فيه الإسلام كالصلاة والزكاة والحج وما شاكل ذلك فلا تصح من الكافر وهو كافر، لأن الإسلام شرط في صحة أدائها، وما لم يشترط فيه الإسلام كالجهاد والبيع والإجارة وما شاكل ذلك فإنها تصح من الكافر وهو كافر ولذلك قاتل قزمان وهو كافر مع الرسول، وعامل الرسول اليهود فرهن درعه عند يهودي. وعلى ذلك فإن أي عمل أو أي عقد أو أي تصرف، أي أي شيء جاء خطاب الشارع به يصح أداؤه من الكافر ما لم يأت نص يشترط فيه الإسلام، وهذا عام يشمل الشهادة وغيرها من سائر الفروع. فعلى هذا يبحث في الشهادة هل اشترط فيها الإسلام كالصلاة والزكاة أم لم يشترط فيها الإسلام كالجهاد والبيع؟ فإن اشترط فيها الإسلام لم تصح من الكافر، وإن لم يشترط ذلك صحت.

وبتتبع النصوص في الكتاب والسنة لا نجد أن هناك نصاً يشترط الإسلام في الشهادة اشتراطاً مطلقاً كما هي الحال في الصلاة والحج مما اشترط فيه الإسلام. وأما الآيات التي جاء فيها اشتراط أن يكون الشاهد مسلماً فإنها آيات خاصة في مواضيع معينة وليس فيها أية آية عامة، فهي خاصة في الموضوع الذي جاءت به وليست عامة. فيكون اشتراط أن يكون الشاهد مسلماً خاصاً في ذلك الموضوع الذي جاءت به فلا تصلح دليلاً على اشتراط الإسلام في الشهادة بل تكون دليلاً على ما جاءت به كآية الرجعة والطلاق.

وعلى ذلك فإن الحكم الشرعي جواز شهادة الكافر في كل شيء إلا ما جاء النص باشتراط الإسلام فيه، فما جاءت النصوص مشترطة الإسلام في الشاهد لا تصح فيه شهادة الكافر، وما لم يأت نص باشتراط الإسلام فيه صحت فيه شهادة الكافر كما يصح منه الجهاد والبيع والرهن والإجارة وغير ذلك من التكاليف.

* شرط الإسلام في شاهد الحقوق المالية

أما الدليل على أن الإسلام اشترط في مواضيع معينة فقط ولم يشترط اشتراطاً عاماً فهو الآيات التي جاءت تنص على شرط الإسلام في الشهادة، فإنها جاءت خاصة في مواضيع معينة، قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ) الآية. فهذه الآية موضوعها الدّين والأمور المالية والتجارية: (تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ)، (وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ)، (فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا)، (إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً) فالآية تبحث في الحقوق المالية، فهي خاصة في موضوع الحقوق المالية، فكل ما فيها من أحكام خاص بالحقوق المالية ولا يتعداها إلى غيرها. لأنه إذا جاء النص في موضوع فإن النص يكون معلقاً بذلك الموضوع، فالنص الذي يقال في حادثة معينة، والنص الذي هو جواب سؤال يجب تخصيصه في موضوع الحادثة أو السؤال ولا يصح أن يكون عاماً في كل شيء، لأن السؤال معاد في الجواب، ولأن الكلام في موضوع معين، فيجب أن يقتصر الحكم على ذلك الموضوع، لأن لفظ النص الذي يبين فيه حكم الحادثة أو حكم السؤال معلق بالحادثة وحدها أو السؤال وحده وليس معلقاً بغيرها مطلقاً، فيكون الحكم معلقاً بموضوع الحادثة أو موضوع السؤال، أي بالذي يجري الحديث عنه أو بالأمر المسؤول عنه وليس معلقاً بغيره، فلا يعم غير الموضوع بل يكون خاصاً به. وما جاء في الآية هو الحقوق المالية، والحديث جرى عن الحقوق المالية، فيكون الحكم معلقاً بالحقوق المالية فلا يعم غير الحقوق المالية بل يكون خاصاً بها لا يتعداها إلى غيرها. ومن هذا يتبين أن اشتراط الإسلام في الشاهد الوارد في قوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ) خاص بالحقوق المالية لأن موضوع الآية الحقوق المالية فلا يكون شرطاً عاماً للشاهد بل يكون شرطاً للشهادة في الحقوق المالية.

وبناء على هذه الآية يشترط أن يكون الشاهد مسلماً في جميع الحقوق المالية، في الدين والتجارة وسائر الحقوق المالية كاستحقاق ثمن المبيع وأجرة الدار وبدل المتلف والمغصوب وما شاكل ذلك من الحقوق المالية التي كالدّين والتجارة. لأن اشتراط الإسلام في الشاهد صريح في الآية: (مِنْ رِجَالِكُمْ) أي من المسلمين، وكون موضوع الآية هو الحقوق المالية واضح كل الوضوح، فلا كلام باشتراط أن يكون الشاهد مسلماً في الحقوق المالية.

* الحقوق المالية غير العقود وغير التصرفات

إلا أنه ينبغي أن يعلم أن الحقوق المالية غير العقود، وغير التصرفات، ولذلك لا تعني الآية اشتراط الإسلام في الشهادة في البيع والإجارة والوكالة والرهن وغير ذلك من العقود، ولا في التصرفات كالهبة ونحوها، فإن هذه ليست من الحقوق المالية بل هي عقود وتصرفات فتجوز شهادة غير المسلم فيها إن لم يرد نص خاص في الموضوع.

والدليل على أن العقود والتصرفات لا تدخل في الحقوق المالية أن الآية قد حددت الحق بقولها: (الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) وبقولها: (تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ) وبقولها: (إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا) فالمسألة تتعلق بأثمان التجارة والديون أي بالنقد، يعني بالمال بمعنى النقد لا بالمال بمعنى المتمول، ولذلك سميت الآية آية الدين. والعقود والتصرفات ليست حقوقاً مالية بل معاملات. إلا أن استحقاق الأثمان والأجور من الأمور المالية، فعقد البيع لا يدخل في الحقوق المالية ولكن استحقاق ثمن المبيع يدخل في الحقوق المالية، وعلى هذا المنوال تجري سائر العقود والتصرفات. فيكون اشتراط أن يكون الشاهد مسلماً إنما هو في مثل استحقاق ثمن البيع، وما عداه كعقد البيع مثلاً فلا يشترط في الشاهد فيه أن يكون مسلماً. وبذلك يظهر أن الآية خاصة في موضوع معين، وأن ما فيها من أحكام خاص في هذا الموضوع.

* شاهد الوصية مسلم باستثناء السفر

وآية الوصية جاء فيها اشتراط أن يكون الشاهد مسلماً، قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) فهذه الآية موضوعها الوصية، فهي تبحث في الوصية، وعلى ذلك فهي خاصة في موضوع الوصية، فكل ما فيها خاص بالوصية ولا يتعداها إلى غيرها. ذلك أن شهادة غير المسلم في العقود كالبيع وفي التصرفات كالهبة جائزة، والوصية من التصرفات، فلو لم يأت النص لكانت شهادة غير المسلم فيها جائزة ولكن جاء النص واشتراط في الشهادة في الوصية أن يكون الشاهد مسلماً حيث قال: (شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) فكان شرط الشاهد في الوصية أن يكون الشاهد مسلماً. فإن معنى الآية هو: إذا نزلت بأحدكم أسباب الموت ومقدماته وأراد حينئذ أن يوصي، فالشهادة المشروعة بينكم أي بين المسلمين في ذلك هي شهادة اثنين من رجالكم ذوي عدل، وذلك بأن يشهدهما الموصي على وصيته، أي أن الشهادة المشروعة بين المسلمين في الوصية هي شاهدان ذوا عدل من المسلمين. ويظهر أن هذا الاشتراط لأنها من خصوصيات المسلمين ولذلك قال: (شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ) والبين أمر اعتباري يفيد صلة أحد الشيئين بالآخر أو الأشياء من زمان أو مكان أو حال أو عمل، وقالوا انه يطلق على الوصل والفرقة، ومن دلالته على الفرقة قولهم "ذات اليمين" للعداوة والبغضاء، قال تعالى: (وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) أي ما بينكم من عداوة أو فساد، وهو أمر معنوي متصل بين الأفراد، فيكون قوله: (شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ) أي الشهادة فيما بينكم أو حكم ما يقع بينكم من الشهادة، أي بين المسلمين، فهذا الوضع يدل على أنها من خصوصيات المسلمين فاشترط فيها أن يكون الشاهد مسلماً.

وقد استثنى الشارع من الوصية حالة السفر فقط فأجاز في هذه الحالة شهادة غير المسلم في الوصية فقال تعالى: (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) أي إذا ضربتم في الأرض أي سافرتم ونزلت بكم أسباب الموت ومقدماته فآخران من غيركم. فالآية قد اشترطت في الوصية شاهدين مسلمين وعطفت على ذلك حالة خاصة من حالات الوصية فأجازت فيها شهادة غير المسلمين ألا وهي حالة السفر، فكأنها استثنت حالة السفر من حالات الوصية. لأن (إن) شرطية وهي تفيد الاشتراط، وهي متعلقة بقوله: (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) والمعنى هو: الشهادة المشروعة بينكم حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم، وإن أنتم ضربتم في الأرض فآخران من غيركم. والدليل على أن هذا هو معنى الآية، أن شهادة المسلم في الوصية جائزة في السفر وفي غير السفر فلا معنى لتعلق قوله: (إِنْ أَنْتُمْ) بقول: (اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) إذ لا محل لذلك ولا لزوم لذكر حالة السفر بالنسبة لشهادة المسلمين، فيكون إذن قوله: (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ) متعلقاً فقط بقوله: (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) وليس بقوله: (اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) ويكون وضع الآية هكذا: (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ) وبهذا يظهر أن قوله: (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) دليل على جواز شهادة غير المسلم في الوصية في حال السفر، فهو دليل على حالة واحدة من حالات موضوع معين، وليس دليلاً على جواز شهادة غير المسلم مطلقاً. ولا يقال أنها دليل على جواز شهادة غير المسلم في الأمور المالية، لأن مثل هذا القول يخالف نص الآية ومدلولها، فنص الآية حالة خاصة في موضوع خاص، هو الوصية في حالة السفر، ومدلولها وهو الوصية في السفر تصرف من التصرفات وليس حقاً من الحقوق المالية، فهو ليس كالدّين وإنما هو كالهبة ولذلك لا ينطبق على الحقوق المالية.

ومن هذا كله يظهر بوضوح أن الآية خاصة في موضوع معين وأن ما فيها من أحكام وهو اشتراط أن يكون الشاهد مسلماً خاص في هذا الموضوع، وقد استثنى منه حالة واحدة هي حالة السفر فأجيز شهادة غير المسلم في الوصية إذا كانت في حالة السفر: (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ).

* شاهد الزواج مسلم

وآية الرجعة والطلاق قد جاء فيها اشتراط أن يكون الشاهد مسلماً، قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) إلى أن قال: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ) فهذه الآية موضوعها الرجعة والطلاق: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) فهي تبحث في الرجعة والطلاق، فهي إذن خاصة في موضوع الرجعة والطلاق، فكل ما فيها خاص بالرجعة والطلاق ولا يتعداهما إلى غيرهما، فيكون قوله: (وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ) في هذه الآية خاصاً بالرجعة والطلاق، فهو دليل على أنه يشترط في الشهادة على الرجعة والطلاق أن يكون الشاهد مسلماً ولا يدل على اشتراط أن يكون الشاهد مسلماً في غير الرجعة والطلاق فيكون دليلاً خاصاً لموضوع خاص ولا يكون عاماً. وأما اشتراط أن يكون الشاهد في الزواج مسلماً فإنه أخذ من الآية من قبيل دلالة الفحوى، أي إذا كانت الرجعة يشترط فيها أن يكون الشاهدان مسلمين فالزواج من باب أولى يشترط فيه أن يكون الشاهدان مسلمين. على أن الرجعة نفسها زواج لمطلقته فهي زواج فتكون الآية دلت على الزواج، وعلى ذلك فالآية خاصة في موضوع معين، وما جاء فيها من اشتراط أن يكون الشاهد مسلماً هو خاص في الموضوع الذي جاءت به وهو الرجعة والطلاق، ويدخل في الرجعة الزواج.

* شاهد رؤية الهلال مسلم

وحديث رؤية الهلال جاء فيه اشتراط أن يكون الشاهد مسلماً، عن ابن عباس قال: «جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال إني رأيت الهلال يعني رمضان، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله، قال: نعم، قال: أتشهد أن محمداً رسول الله، قال: نعم، قال: يا بلال قم فأذن في الناس فليصوموا غداً» فهذا الحديث موضوعه رؤية الهلال، فهو يبحث في رؤية الهلال، فما صدر من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من سؤاله الشاهد بأنه مسلم لا يعم كل شاهد بل خاص بشاهد رؤية الهلال، فهو دليل على أنه يشترط في رؤية الهلال أن يكون الشاهد مسلماً. ولا يدل على اشتراط أن يكون الشاهد مسلماً في غير رؤية الهلال، فهو دليل على اشتراط الإسلام في شاهد رؤية الهلال وليس دليلاً على اشتراط الإسلام في الشاهد.

فمن هذا كله يتبين أن الأصل جواز شهادة غير المسلم في كل شيء لأنه مخاطب بالتكاليف، وهي تصح منه إن لم يأت نص في اشتراط الإسلام فيها، والشهادة من التكاليف لأنها خطاب الشارع وهو موجه لجميع الناس، ولم يأت نص في اشتراط الإسلام فيها، فتصح من غير المسلم كالجهاد. ويتبين أيضاً أن هناك حوادث لا تصح فيها شهادة غير المسلم، بل يشترط فيها أن يكون الشاهد مسلماً وهي الحوادث التي جاءت النصوص مشترطة فيها أن يكون الشاهد مسلماً، وهي الحقوق المالية، والوصية ما عدا حالة السفر فتجوز فيها وحدها شهادة غير المسلم، والرجعة والطلاق ومن الرجعة الزواج. وما عدا هذه الحوادث التي جاء النص مشترطاً فيها أن يكون الشاهد مسلماً، فإن شهادة غير المسلم جائزة. فيجوز لغير المسلم أن يكون شاهداً في الحدود، فيجوز أن يكون شاهداً في الزنا. وأما قوله: (يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) فإنه لم يشترط فيهم الإسلام، بل أطلق وقال شهداء أي شهداء، ويجوز أن يكون شاهداً في السرقة والقذف وشرب الخمر وغير ذلك من الحدود. ويجوز أن يكون شاهداً في الجنايات، وقد تأيد جواز شهادة غير المسلم في الجنايات علاوة على الدليل العام ما جاء في حديث بشير بن يسار، فقد روى البخاري: «عن بشير بن يسار زعم أن رجلاً من الأنصار يقال له سهل بن أبي حتمة أخبره أن نفراً من قومه انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها، ووجدوا أحدهم قتيلاً، وقالوا للذي وجد فيهم قتلتم صاحبنا، قالوا ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً، فانطلقوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا يا رسول الله انطلقنا إلى خيبر فوجدنا أحدنا قتيلاً، فقال: الكبر الكبر، فقال لهم تأتون بالبينة على قتله، قالوا ما لنا بينة، قال فيحلفون. قالوا لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يطل دمه فواده مائة من ابل الصدقة» فهذا الحديث يدل على أن الرسول طلب منهم بينة على قتل قتيل قتل عند اليهود، إذ قالوا له "انطلقنا إلى خيبر فوجدنا أحدنا قتيلاً" ومع معرفته أن الحادثة في خيبر عند اليهود وفي قبيلتهم قد أطلق البينة ولم يعينها بأن تكون من المسلمين، والقرينة أن الحادث عند اليهود، مما يدل على أنه لو جاءت بينة من اليهود لقبلها ويؤيد هذا أنه عرض على المدعين أن يحلف اليهود اليمين، فقد جاء في رواية سهل بن أبي حتمة: «فتبرئكم يهود بخمسين يميناً، فقالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار» واليمين من البينات. فهذا يدل على أن بينة الجنايات يقبل فيها الشاهد غير المسلم ويقبل فيها يمينه.

وكذلك تجوز شهادة غير المسلم في المعاملات ما عدا الحقوق المالية، وفي العقود والتصرفات ما عدا الوصية، وما عدا الرجعة والطلاق والزواج. ولا تجوز في رؤية الهلال لورود النص، وتجوز في الأمور الفنية كالطب ونحوه، ولا فرق في ذلك بين الذمي والمستأمن. وأما الكافر الحربي فينظر فيه فإن كان بيننا وبينهم أي قومه حالة حرب فعلية فإنه لا تجوز شهادته للعداوة التي بيننا وبينهم، وإن لم تكن بيننا وبينهم حالة حرب فعلية فإن شهادة الكافر الحربي جائزة لأنه داخل في عموم خطاب التكليف، ولا يقال أن بيننا وبينه عداوة، لأن هذه العداوة عداوة دين، وعداوة الدين لا تمنع من قبول الشهادة بل الذي يمنع هو عداوة الدنيا، والكافر الذي بيننا وبينه حال حرب فعلية بيننا وبينه عداوة دنيا وهي الحرب.

* شهادة الكافر للكافر

هذا بالنسبة لشهادة غير المسلمين للمسلمين، وأما شهادتهم لغير المسلمين أي شهادة الكفار للكفار فإنها جائزة، فيجوز للكفار أن يشهد بعضهم لبعض في كل شيء، لما روى ابن ماجة عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أجاز شهادة أهل الذمة بعضهم لبعض» ومثل الذمي المستأمن.