فقه أنظمة دولة الخلافة على منهاج النبوة

المرتد هو الراجع عن دين الإسلام . ومن ارتد عن الإسلام من الرجال والنساء وكان بالغاً عاقلاً دعي إلى الإسلام ثلاث مرات ، وضُيّق عليه ، فإن رجع وإلا قُتِل، قال الله تعالى : ( ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة واولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) وروى البخاري عن عكرمة قال : أٌتيَ أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بزنادقة فاحرقهم ، فبلغ ذلك ابن عباس فقال : لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : " لا تعذبوا بعذاب الله ، ولقتلتهم، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : مَنْ بدل دينه فاقتلوه ".

 

أما قتل الرجال فظاهر من الحديث ، وأما قتل النساء فلعموم الحديث لأنّه قال : " مَنْ بدل " ومَنْ ، مِنْ الفاظ العموم ، وأيضاً فقد أخرج الدارقطني والبيهقي عن جابر : " أن أم مروان ارتدت فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يعرض عليها الإسلام فإن تابت وإلا قتلت ".

 

ردة غير المكلف

وأما عدم صحة الردة من الصبي والمجنون فلأنهما غير مكلفين ، فلا يحدّان حدّ المرتد ، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : " رفع القلم عن ثلاث : عن الصبي حتى يبلغ ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن المجنون حتى يفيق ".

 

الاستتابة ثلاثا على الأقل

وأما كونه يستتاب ثلاثاً فلحديث أم مروان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أن تستتاب . وذلك ما سار عليه عمر ، عن محمد بن عبد الله بن عبد القارئ قال : " قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبي موسى ، فسأله هل من مغربة خبر ؟ قال : نعم ، كفر رجل بعد اسلامه ، قال فما فعلتم به ؟ قال : قربناه فضربنا عنقه ، فقال عمر : هلا حبستموه ثلاثاً ، وأطعمتموه كل يوم رغيف ، واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله ؟ اللهم اني لم أحضر ولم أرض إذ بلغني " وسار على ذلك من قبل عمر أبو بكر . أخرج الدارقطني والبيهقي " أن أبا بكر استتاب امرأة يقال لها أم قرفة كفرت بعد إسلامها فلم تتب فقتلها "، وبذلك ثبت أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم استتاب المرتد ، وكذلك استتابه من بعده أبو بكر وعمر ، وعليه يستتاب المرتد قبل قتله.

وأما استتابته ثلاثاً ، فالثلاث ليس قيداً ، وإنما هي أقل ما يحصل فيه الاعذار عادة ، وإلا يجوز أن يستتاب أكثر ، لأنّ المقصود أن يعرض عليه الإسلام ليرجع إليه، ويعطى المدة الكافية للرجوع ، ويروى أن أبا موسى استتاب المرتد الذي طلب منه معاذ قتله وقتله ، استتابه شهرين قبل قدوم معاذ ، وروي عن عمر أن مدّة الاستتابة ثلاثة أيام ، فإن تاب قبلت توبته ولم يُقتَل.

 

الاستتابة لمن لم تتكرر ردته فقط

غير أن التوبة تُقبَل من المرتد إذا لم تتكرر ردته ، أما من تكررت ردته فلا تقبل توبته ، بل يقتل سواء تاب أو لم يتب ، لقول الله تعالى : ( إن الذين آمنوا ثمّ كفروا ، ثمّ آمنوا ثمّ كفروا ثمّ إزدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً ) . فقول الله : ( لم يكن الله ليغفر لهم ) معناه لا يقبل الله توبتهم ، وكذلك الدولة لا تقبل توبتهم. روى الاشرم عن ظبيانا بن عمارة : " أن رجلاً من بني سعد مَرّ على مسجد بني حنيفة فإذا هم يقرأون برجز مسيلمة ، فرجع إلى ابن مسعود فذكر ذلك له ، فبعث إليهم فأُتي بهم ، فاستتابهم فتابوا ، فخلى سبيلهم إلاّ رجلاً منهم يقال له ابن النواحة قال : قد أتيت بك مرة ، فزعمت أنك قد تبت ، وأراك قد عدت فقتله ".

 

الدولة هي التي تنفذ الحد

والذي ينفذ حد الردة وكل الحدود هي الدولة، فالذي يَقْتُل المرتدَ هو الدولة بحكم حاكم ، فإن قتله أحد من المسلمين عمداً فعليه القصاص ، كقتل أي كافر من رعايا الدولة .

الردة بأربع: الاعتقاد أو الشك أو القول أو الفعل

والمرتد هو من كفر بعد إسلامه ، فكل من كفر بعد إسلامه يكون مرتداً . ويكفر المسلم بأربع : بالاعتقاد ، والشك ، والقول ، والفعل . وبيان ذلك التالي:

  1. الاعتقاد: أما الاعتقاد فإن فيه ناحيتين : إحداهما التصديق الجازم بما جاء النهي الجازم عنه ، أو الأمر الجازم بخلافه ، كالاعتقاد بأن لله شريكاً ، أو الاعتقاد بأن القرآن ليس كلام الله. والناحية الثانية إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة ، كإنكار الجهاد ، وإنكار تحريم شرب الخمر ، وإنكار قطع يد السارق ، وما شاكل ذلك .
  2. وأما الشك فإنّه الشك في العقائد ، وكل ما كان دليله قطعياً ، فمن شك بأن الله واحد ، أو شك بأن محمداً رسول ، أو شك بجلد الزاني ، أو ما شابه ذلك فقد كفر ،
  3. وأما القول فإن المراد به القول الذي لا يحتمل أي تأويل ، فمن قال إن المسيح ابن الله ، ومن قال إن الإسلام جاء به محمد من عنده ، أو ما شاكل ذلك ، فإنّه يكفر بكل تأكيد ، وأما القول الذي يحتمل التأويل فلا يكفر قائله ، ولو كان القول يحتمل الكفر تسعة وتسعين في المائة ، ويحتمل الإيمان واحداً في المائة فإنّه يرجح جانب الواحد على التسعة والتسعين لأنّه جانب الإيمان ، إذ بوجود هذا الواحد وجد احتمال التأويل فلا يكفر ، إذ لا يعد كافراً إلاّ إذا كان القول كفراً بشكل جازم ،
  4. وأما الفعل فالمراد به الفعل الذي لا يحتمل أي تأويل بانه كفر ، فمن سجد للصنم ، وصلى بالكنيسة صلاة النصارى ، فإنّه يكفر ويرتد عن الإسلام ، لأنّ صلاة النصارى كفر لا يحتمل التأويل ، فمن فعلها فقد فعل كفراً لا يحتمل التأويل . وأما الفعل الذي يحتمل التأويل فإنّه لا يكفر فاعله ، فمن دخل الكنيسة لا يكفر ، لأنّه يحتمل أن يكون دخلها للفرجة ، ويحتمل أن يكون دخلها للصلاة ، ومن قرأ في الإنجيل لا يكفر ، لأنّه يحتمل أن يكون قرأه ليطلع عليه للرد عليه، ويحتمل أن يكون قرأه معتقداً به وهكذا. فكل فعل يحتمل التأويل لا يكفر فاعله ، ولا يكون مرتداً إذا فعله.

بينة الردة

وتثبت الردة بما تثبت به الحدود غير الزنا ، وهي شهادة رجلين عدلين ، أو رجل وامرأتين ، أي البينة الشرعية ، لأنّه لم يرد نص خاص بها .

 

أموال المرتد

المرتد قبل استتابته يملك ماله ، ويملك ما يكسبه ، فإذا عُرِض عليه الإسلام وأبى وقتل ، أو مات بعد الردة من غير قتل فإنّه يبدأ بقضاء دينه ، وأرْشِ جنايته ، ونفقة زوجته ومن تجب عليه نفقتهم ، لأنّ هذه الحقوق لا يجوز تعطيلها ، فإن وفى ماله بها ، ولم يبق شيء من ماله ، فقد انتهى الأمر ، وإن بقي من ماله شيء فهو فيء ، يجعل في بيت المال مع أموال الدولة ، كأموال الفيء سواء بسواء ، وكذلك الحال إن لحق بدار الحرب ، بأن فرّ لدولة من الدول الكافرة . إلاّ أنه إن فرّ لدولة كافرة توضع أمواله تحت يد أمين ( تجمد بقرار من الدولة ) ، وتجري محاولة لاستتابته ، فإن لم تفد المحاولة ، وأصر على الردة يعتبر مستحقاً للقتل ، فيعامل معاملة المقتول ، ويكون ماله فيئاً . والدليل على ذلك ما فعله أبو بكر بالمرتدين فإنّه قاتلهم ، وقتلهم واستباح دماءهم وأموالهم على ارتدادهم ، وكانت أموالهم غنائم ، ووافقه على ذلك سائر الصحابة . ولهذا لو أن أهل بلد ارتدوا ، وطبقوا أحكامهم صاروا دار حرب ، في اغتنام أموالهم ، واخذ اسراهم ، وسبي ذراريهم ونسائهم ، فعلى الإمام قتالهم ، عملاً بما فعله أبو بكر رضي الله عنه ، لأنّه قد أجمع عليه الصحابة .