فقه أنظمة دولة الخلافة على منهاج النبوة

أهل البغي هم الذين خرجوا على الدولة الإسلامية ،  ولهم شوكة ومنعة ،  أي هم الذين شقوا عصا الطاعة على الدولة ،  وشهروا في وجهها السلاح ،  وأعلنوا حرباً عليها ،  ولا فرق في ذلك بين أن يخرجوا على خليفة عادل ،  أو خليفة ظالم ،  وسواء خرجوا على تأويل في الدين ،  أو أرادوا لأنفسهم دنيا ،  فانهم كلهم بغاة ما داموا شهروا السيف في وجه سلطان الإسلام .

   وهؤلاء على الخليفة ،  أو من ينيبه عنه في الولاية أن يراسلهم ،  فيسألهم ما ينقمون من السلطان ،  فإن ذكروا مَظْلِمَةً أزالها ،  وإن ادّعوا شبهة كشفها ،  وإن البِسَ عليهم فاعتقدوا أن ما فعله مخالف للحق وهو ليس كذلك ،  عليه أن يبين لهم دليله ،  ويظهر لهم وجه الحق .  لأنّ الاسلام أمر المسلمين أن يشهروا السيف في وجه الحاكم إذا رأوا كفراً بواحاً عندهم فيه من الله برهان ،  أو لم يطبق أحكام الإسلام .  فقد يجوز انهم خرجوا لشيء من ذلك إجابة لطلب الشرع ،  فيجب عليه أن يبين لهم وجه ما يشتبهون فيه ،  فإن رجعوا عن البغي تركهم ،  ولا يجوز بقاؤهم على خروجهم ،  وإن لم يرجعوا قاتلهم وجوباً ،  ولكن لا قتال حرب ،  بل قتال تأديب ،  ولذلك:

  1. يحرم قِتَالُهم بما يعم إتلافهم إلاّ لضرورة .  فلا يصح أن يُضرَبوا بالطائرات ،  ولا بالقنابل المحرقة ،  ولا بالمدافع الثقيلة ،  إلاّ إذا كانت هناك ضرورة قصوى تقتضيها الاساليب التأديبية ،  لا الأساليب الحربية .
  2. ويحرم قَتْل ذُريتهم أو قتل الهارب منهم . 
  3. ومَنْ تَرَك القتال منهم تُرِك ، 
  4. وإذا قَتَلوا احداً لا يُقْتَلون به ، 
  5. وإذا أُسِر منهم أحد حُبِس وعُومِل معاملة المذنب ،  لا معاملة الأسير ،  لأنّه ليس بأسير ، 
  6. وأموالهم لهم لا يحل أخذ شيء منها ،  لأنّهم رعية اقتضى تأديبهم اتّباع أسلوب القتال معهم ،  ولذلك لا يعتبر قِتالُهم حرباً ولا جِهاداً .

والأصل في حدّ البغاة قول الله سبحانه وتعالى :  { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ،  فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ،  فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} .  فهذه الآية قد اعتبرت هؤلاء البغاة مؤمنين ،  فلم يخرجوا بالبغي عن الإيمان ،  وهي صريحة بوجوب قتالهم ،  وفي إسقاط قتالهم إذا فاءوا إلى أمر الله ،  وفي أنهم قد أسقط عنهم التبعة فيما أتلفوه في قتالهم ،  سواء أكان مالاً أم نفساً .  وهي تدل في قوله :  { فاصلحوا بينهما } على وجوب مراسلتهم قبل قتالهم .  فهذه الآية تثبت الحدّ على البغاة ،  وتبينه ما هو ،  وهو قتالهم حتى يرجعوا ،  ولكن بعد مراسلتهم ،  ومحاولة إزالة ما دفعهم إلى الخروج ،  من مظلمة أو شبهة أو خطأ فهم ،  أو ما شاكل ذلك .

وإذا تمركز أهل البغي في جزء من البلاد الإسلامية ،  ونصبوا قضاة لهم يقضون بين النّاس ،  وأقاموا حكاماً يحكمون النّاس ،  مطبقين أحكام الإسلام ،  فإن حكم قضاتهم نافذ كحكم أهل العدل ،  وتصرفات حكامهم كتصرفات أهل العدل ،  ما دامت سائرة حسب أحكام الشرع .  فإذا قدر الخليفة عليهم ،  أو رجعوا إلى حظيرة الدولة ،  كانت جميع أحكامهم نافذة ،  لأنّها أحكام إسلامية من حكام نصبوا بناء على شبهة الخروج .  وما دام القرآن اعتبرهم مؤمنين ،  وما داموا لا يصح أن يتعرض لهم ،  إلاّ بما لا بد منه لتأديبهم فقط ،  فتصرفاتهم كلها كتصرفات أي مسلم ،  ممن هم في طاعة الخليفة ،  وتحت سلطان الدولة ،  وقتالهم إنما هو حدّ من حدود الله كحدّ السرقة ،  ولا يؤثر اعتبارهم واعتبار أحكامهم ،  ما داموا مسلمين ويطبقون الإسلام .

 استعانة البغاة بالكفار

يحرم على أهل البغي - كما يحرم على سائر المسلمين - الاستعانة بالكفار على قتال المسلمين ،  سواء أكانوا أفراداً أم دولة .  لأنّه إذا كان يحرم قتال المسلم للمسلم ،  فإن حرمة استعانة المسلم بالكافر لقتال المسلم أشد .  وإذا كان الله اعتبر قتال المسلم للمسلم كالكفر في عظم الذنب ،  فقال صلى الله عليه وآله وسلم :  "  سباب المسلم فسوق وقتاله كفر "  فإن الاستعانة بالكافر على المسلم أشد .

إلاّ أنه مع حرمة ذلك لا يخرج أهل البغي عن كونهم مؤمنين ،  ولا يغير حكم الله في حقهم ،  فيبقون يعتبرون بغاة ،  ويعاملون معاملة البغاة ،  ولو استعانوا بالكفار .

أما الكفّار الذين استعانوا بهم فإن حكمهم يختلف باختلاف أحوالهم:

  1. فإن استعان أهل البغي بالكفار أهل الحرب وأمنوهم ،  أو عقدوا لهم ذمة ،  فانهم يظلون كفاراً محاربين في نظر الإسلام ،  ولا يعتبر تأمين البغاة ،  ولا عقدهم للذمة ،  لأنّها خاصّة بالخليفة المبايع بيعة شرعية ،  وهم لا يملكون ذلك .  ولهذا يُقاتِل المسلمون البغاة قتال تأديب ،  أما الكفّار المحاربون الذين معهم فانهم يُقاتَلون قتال حرب ،  ويجاهدون جهاداً شرعياً ،  ويحاربون حرباً لا هوادة فيها ،  وتطبق في حقهم حالة الحرب ،  فيؤخذ أسيرهم أسيراً ،  ويعامل معاملة الأسرى ،  وتؤخذ أموالهم غنائم ،  وتطبق في حقهم جميع أحكام الجهاد ،  وكل ما ينطبق على أهل الحرب .  وكذلك الحال إذا كان هؤلاء الكفّار مستأمنين ،  لأنّهم إذا أعانوا البغاة فقد نقضوا عهدهم ،  وصاروا كأهل الحرب .  إلاّ أن هذا يطبق عليهم إذا فعلوا ذلك مختارين طائعين ،  أي إذا أعانوا البغاة مختارين ،  أما إذا أعانوهم مكرهين خوفاً من أذاهم وبطشهم ،  فانهم حينئذ يعاملون معاملة البغاة ،  لا معاملة المحاربين .
  2. أما إن كان الكفّار الذين استعان بهم البغاة من أهل الذمّة ،  فإن إعانتهم لهم لا تخرجهم عن كونهم من أهل الذمّة ،  سواء أعانوهم مختارين أو مكرهين ،  لأنّهم رعية من رعايا الدولة الإسلامية ،  فيطبق في حقهم حكم البغاة ،  ويقاتلون قتال تأديب لا قتال حرب .  ولا يقال إنهم في إعانتهم على الدولة الإسلامية نقضوا عهدهم ،  فإن محل ذلك لو أعانوا كفاراً ،  أو دولة كافرة على الدولة الإسلامية ،  فانهم يكونون قد نقضوا عهدهم ،  أما إعانتهم مسلمين على الدولة الإسلامية ،  أي إعانتهم البغاة فانهم لا يكونون قد نقضوا عهدهم ،  لأنّ عهدهم هو عقد ذمة لهم في أعناق المسلمين ،  فلهم في ذمة المسلمين عهد ،  ومنهم البغاة فلا يكونون بإعانتهم مسلمين على الدولة الإسلامية قد نقضوا عهدهم ،  ولأنّ عهدهم ليس عهداً مؤقتاً كالمستأمنين ،  بل هو عهد مؤبد ،  ولا يجوز نقضه لخوف الخيانة منهم ،  فلا يجوز نقضه لإعانتهم مسلمين على مسلمين .
  3. أما إذا خرج أهل الذمّة وحدهم على الدولة وحاربوها ،  بأن كانوا هم الخارجين ،  وقادة الخروج ،  فانهم حينئذ يكونون قد نقضوا عهدهم المؤبد ،  وصاروا أهل حرب ،  فيقاتلون قتال حرب ،  وتطبق في حقهم جميع أحكام الحرب ،  وإذا جرى التغلب عليهم وسحقهم ،  فانهم يعاملون معاملة الكفّار المحاربين ،  فأموالهم غنائم ،  واسراهم أسرى حرب ،  وللإمام أن يفعل بهم ما يفعله بأهل الحرب .وإنما اختلف الحكم مع الذميين باختلاف الواقع الذي يكونون فيه ،  فإن لكل واقع حكماً ينطبق عليه حكم الكفّار في الحالات التي جاء بها الإسلام .