الشهادة في أحكام البينان من القضاء في دولة الخلافة على منهاج النبوة

يشترط في الشاهد ما يشترط في سائر التكاليف من أنه لا بد أن يكون بالغاً عاقلاً لحديث رفع القلم عن ثلاث ومنها الصبي حتى يبلغ والمجنون حتى يفيق، ولأن الله يقول: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ}، {مِنْ رِجَالِكُمْ} فذكرت الرجال فقط مما يدل على أن شرط الشاهد أن يكون رجلاً أي بالغاً. ويشترط فيه فوق ذلك أن يكون عدلاً. فلا يجوز أن يقبل في شيء من الشهادات من الرجال والنساء إلا العدل، وذلك لأن وصف العدل قد قرنه الله بالشاهد في أكثر من آية مما يدل على أنه وصف لازم وهذا يدل على أنه شرط من شروط الشهادة. قال تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} وقال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ} فالعدالة شرط في الشهادة.

 العدالة والاستقامة

والعدل هو من لا يظهر عليه الفسق، فمن كان فاسقاً ظاهر الفسق لا تقبل شهادته، ومن لم يكن ظاهر الفسق تقبل شهادته. وقد اختلف في تعريف العدل فقيل ان العدل هو من لم تعرف له كبيرة ولا مجاهرة بصغيرة، وهذا غامض لأن تعريف الكبائر غير متفق عليه، بل إنه غير متفق على أن هناك كبائر وصغائر، فإنه ليس في الذنوب صغيرة، فمخالفة أمر الله كبيرة سواء أكانت كذباً أم كانت شهادة زور، وما جاء من النص على ذنوب بأنها كبيرة المراد منه التشديد على النهي عنها وإلا فإن هناك ذنوباً أكبر مما نص عليه ولم ينص على أنها كبيرة، فقد نص على شهادة الزور بأنها كبيرة ولم ينص على قطّاع الطرق بأنهم مرتكبوا كبيرة. وشهادة الزور نوع من الكذب فهي كبيرة، والكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يأت في الكبائر، فلا يوجد حد للكبائر ولا حد للصغائر حتى يقال من لم تعرف له كبيرة ولا مجاهرة بصغيرة، وعليه كان التعريف غامضاً.

والأولى أن يقال أن العدل هو من كان منزجراً عما يعتبره الناس خروجاً عن  الاستقامة. وذلك أن كلمة عدل بالنسبة للشهود وردت في القرآن في آيتين اثنتين: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}، {وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ} فهي من ألفاظ القرآن، وعلى ذلك لا تفسر تفسيراً اصطلاحياً ولا تفسيراً كيفياً وإنما تفسر كما تفسر سائر ألفاظ القرآن وجمله، فتفسر بمعناها اللغوي إن لم يكن لها معنى شرعي آخر ورد في الكتاب والسنة، فإن كان لها معنى شرعي فتفسر بالمعنى الشرعي. وبالاستقراء لم يوجد لكلمة عدل بالنسبة للشاهد معنى خاص جاء به الشرع غير معناها اللغوي وعلى ذلك يجب تفسيرها بالمعنى اللغوي،

وكلمة العدل بالنسبة للشاهد معناها في اللغة من عرف عند الناس بشكل عام أنه مستقيم، قال في القاموس المحيط "العدل ضد الجور، وما قام في النفوس أنه مستقيم كالعدالة والعدول والمعدلة، عدل يعدل فهو عادل من عدول، وعدل بلفظ الواحد وهذا اسم للجمع، رجل عدل وامرأة عدل وعدلة، وعدل الحكم تعديلاً أقامه، وفلاناً زكاه، والميزان سواه، والعدلة محركة كهمزة المزكون" فهذا النص لمعنى العدل بالنسبة للشاهد يدل على أن العدالة هي الاستقامة، غير أن تعريف العدالة بأنها الاستقامة، وتعريف العدل بأنه ما قام في النفوس أنه مستقيم كلام غامض لأنه ليس لهذه الاستقامة حد يوقف على معرفته، لأن أحوال الناس تتفاوت، ولأن البيئات تتفاوت في نظرتها للاستقامة، والاستقامة وإن كانت هي السير في الطريق المستقيم ولكن ذلك الطريق المستقيم شيء اصطلاحي وليس لغوياً ولا شرعياً فكان لا بد من إعادة تفسير لفظ الاستقامة إلى نظرة الناس بحسب بيئاتهم ومجتمعاتهم وهذا ما سارت عليه القواميس اللغوية التي تخصصت في تفسير الكلمات اللغوية الواردة بشأن الأحكام الشرعية، قال في المصباح المنير "وعدلت الشاهد نسبته إلى العدالة ووصفته بها، وعدل هو بالضم عدالة وعدولة فهو عادل أي مرضي يقنع به، ويطلق العدل على الواحد وغيره بلفظ واحد، وجاز أن يطابق في التثنية والجمع فيجمع على عدول، قال ابن الانباري وأنشدنا أبو العباس:

وتعاقدا العقد الوثيق واشهدا.

 

من كل قوم مسلمين عدولاً.

وربما طابق في التأنيث وقيل امرأة عدلة، قال بعض العلماء، والعدالة صفة توجب مراعاتها الاحتراز عما يخل بالمروءة عادة ظاهراً، فالمرة الواحدة من صغائر الهفوات وتحريف الكلام لا تخل بالمروءة ظاهراً لاحتمال الغلط والنسيان والتأويل، بخلاف ما إذا عرف ذلك وتكرر، فيكون الظاهر الإخلال، ويعتبر عرف كل شخص وما يعتاده من لبسه وتعاطيه للبيع والشراء وحمل الأمتعة وغير ذلك، فإذا فعل ما لا يليق به لغير ضرورة قَدَحَ وإلا فلا" فهذا النص يدل على أن العدالة تختلف باختلاف البيئات، وهذا كله راجع لأن كلمة الاستقامة غامضة فكان هذا التفاوت باعتبارها، ولكن يمكن أن يرجع لتفسير اللغة لكلمة عدل وتؤخذ دلالة التفسير، فقولهم "ما قام في النفوس أنه مستقيم" يعني من لم يعرف عنه المجاهرة بالخروج عما يعتبره الناس غير لائق، ولذلك فإن الأولى أن يقال العدل هو من كان منزجراً عما يراه الناس خروجاً عن الاستقامة، سواء أكان مسلماً أم كافراً، ذلك أن العدالة اشترطت في شهادة المسلم واشترطت في شهادة الكافر بلفظ واحد من غير تمييز قال تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} يعني من غير المسلمين. فقال ذوي عدل من المسلمين أو ذوي عدل من غير المسلمين. فكيف يتأتى تعريف العدالة بأنها ارتكاب كبيرة والإصرار على صغيرة بالنسبة لغير المسلم. ثم كيف نرفض من عق والدية مرة ونقبل من كان جاسوساً مرة لأن الجاسوسية ليست من الكبائر؟!! لذلك كان  الحق هو ما ذكر من أن العدل هو من كان منزجراً عما يراه الناس خروجاً عن الاستقامة. فمن كانت هذه حاله كان عدلاً لأنه ممن قام في النفوس أنه مستقيم، ومن عرف بالجرأة على الحرام أو المجاهرة بالمعصية أو كان غير مبال بها، أو معروفاً بعدم الاستقامة، كان فاسقاً. فالعدل يقابله الفاسق والعدالة يقابلها الفسق. والفاسق هو من كان غير منزجر عن الحرام أو من كان معروفاً بعدم الاستقامة، والعدل هو من كان منزجراً عن الحرام أو من لم يعرف عنه عدم الاستقامة.

ويؤيد كون العدالة شرطاً في الشهادة قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} فإن مفهوم عدم قبول خبر الفاسق قبول خبر العدل، أي إن جاءكم غير فاسق، أي عدل، فلا تتبينوا بل اقبلوا. ورفض خبر الفاسق دليل على أن كونه غير فاسق أي عدلاً شرط في قبول شهادته.

السؤال عن عدالة الشاهد

والأصل في المسلم أن يكون عدلاً حتى يثبت عليه الفسق، لأن اعتناق الإسلام يجعل الأصل في معتنقه أن يكون عدلاً، كتب عمر إلى أبي موسى "المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجرباً عليه شهادة زور أو مجلوداً في حد أو ضنيتاً في ولاء أو قرابة" أي أن الأصل في المسلم العدالة وما جاء على الأصل لا يطلب البينة عليه بل البينة إنما شرعت لإثبات خلاف الأصل، وعليه لا يسأل عن الشاهد المسلم هل هو عدل أم لا؟ لأن الأصل في المسلم أن يكون عدلاً، فإذا طعن به الخصم فإن على الخصم أن يثبت دعوى عدم عدالته أي دعوى أنه فاسق، فإن أثبت ذلك بأن أثبت أنه قد حد الحد الشرعي فحينئذ ترد شهادته. أما إذا لم يثبت الخصم طعنه في الشاهد فإنه لا يلتفت إلى قوله ويصار إلى الأصل بأنه عدل.

أما الكافر فإنه إن كان معروفاً بانزجاره عما يراه الناس خروجاً عن الاستقامة فإن الأصل فيه العدالة فلا يسأل عنه لأن من كان معروفاً بهذا فهو عدل، فإذا طعن بشهادته فعلى الذي يطعن بها أن يثبت طعنه، وأما إن كان معروفاً بأنه ممن لا ينزجر عما يراه الناس خروجاً عن الاستقامة فإن القاضي يسأل الخصم عنه فإن لم يطعن به قبل شهادته لأن عدم طعنه قبول لشهادته، وإن طعن به كان على القاضي أن يسأل عنه وليس له أن يكلف الطاعن بإثبات طعنه، لأن العدالة ليست الأصل هنا، فعلى القاضي أن يسأل عن شهادة الشاهد، لأن حكم من لا ينزجر عما يراه الناس خروجاً عن الاستقامة حكم الفاسق فعلى القاضي أن يسأل عنه. وأما إن كان الكافر مجهولاً ولكنه معروف بأنه متدين بدين فإن الأصل فيه الانزجار عما يعتقده حراماً في دينه لأن الأصل في الإنسان أن يسير بحسب عقيدته فهو منزجر عما يراه الناس خروجاً عن الاستقامة.

فسؤال القاضي عن الشاهد إنما هو في حالة واحدة هي حالة الكافر المعروف بأنه لا ينزجر عما يراه الناس خروجاً عن الاستقامة، وما عدا ذلك فلا يسأل القاضي عن الشاهد، فإذا ثبت الطعن به رد شهادته من غير سؤال وإذا لم يثبت لا يردها، وفي حالة السؤال عن الشاهد يتحرى القاضي بنفسه بشكل شفوي عن الشاهد بأي أسلوب يراه ليقنع هو بصدق الشهادة أو كذبها. وأما ما يسمى بالتزكية السرية والعلنية فإنه عمل لا أصل له في الشرع وهو فوق كونه لا يوصل إلى معرفة الشاهد فيه إمكانية جعل الفاسق تقبل شهادته، ولذلك لا يصح أن يتبع أسلوب التزكية مطلقاً.

وكما تشترط العدالة في الشهادة يشترط فيها الضبط، ومعنى الضبط هو حسن السماع والفهم والحفظ إلى وقت الأداء، أي يشترط فيها ما يشترط في الخبر لأنها إخبار بلفظ الشهادة فلا بد أن يتوفر فيها الضبط.

إن وجدت خيرا فانشره، فالدال على الخير كفاعله، دولة الخلافة، - نصر نت - nusr.net