الشهادة في أحكام البينان من القضاء في دولة الخلافة على منهاج النبوة

الشهادة هي إخبار صدق، لإثبات حق، بلفظ الشهادة، في مجلس القاضي. هذا هو تعريف الشهادة. والشهادة مشتقة من المشاهدة وهي المعاينة، وقد سمي الأداء شهادة لأن المعاينة كانت سبباً له.

الشهادة إخبار صدق وإثبات حق

فالشهادة إنما تكون إذا كانت هناك معاينة، أو ما هو من نوعها مثلها كالسماع والحس وغير ذلك مما هو مثل المعاينة. فمن حيث أن السبب المطلق للأداء المعاينة، سمي الأداء شهادة، وإليه أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله للشاهد: «إذا رأيت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع». وهذا دليل على أنه لا يصح لأحد أن يشهد إلا بناء على علم، أي بناء على يقين مقطوع به.فلا تصح الشهادة بناء على الظن. فما جاء عن طريق المعاينة أو ما هو من قبيلها مثل أن يأتي عن طريق إحدى الحواس وكان ذلك عن علم أي عن يقين فيجوز للإنسان أن يشهد به، وما لم يأت عن هذا الطريق لا تجوز الشهادة به، لأنها لا تكون إلا عن يقين.

وعلى ذلك لا تجوز الشهادة بالسماع، أي لا يجوز أن يشهد الشاهد بقوله سمعت من الناس، أو سمعت الناس يقولون أو ما شاكل ذلك. إلا أنه قد استثني من شهادة السماع تسعة مواضع تجوز فيها الشهادة بالسماع وهي: النكاح، والنسب، والموت، والقضاء، وهذه الأربعة لا خلاف في قبول الشهادة فيها بالسماع. والمهر، والدخول بزوجته، والعتق، والولاء، والوقف، وهذه فيها خلاف. غير أن الراجح أن هذه المواضع التسعة تجوز فيها الشهادة بالسماع، وهذا ليس من قبيل الشهادة على الشهادة أي شهد بناء على شهادة غيره، بل هو من قبيل الشهادة بما يعلم، فسماعه من الناس أن فلاناً مات سماعاً جعل عنده اليقين بموته، وأن فلاناً هو القاضي، أو ما شاكل ذلك، فإنه شهادة عن يقين، إذ لتكرار ذلك واستفاضته صار حقيقة يقينية عنده فتكون شهادته عن علم. ولكن لا يقول للقاضي أنه شهد بناء على السماع إذ لو قال ذلك لا تقبل شهادته، بل يشهد بالأمر كما لو شاهده. إذ لا يجوز للقاضي أن يقبل الشهادة بناء على السماع. فإن السماع في هذه المواضع التسعة إنما هو لجواز أن يشهد الشاهد فقط، يعني أن من طرق العلم بما يشهد عليه السماع في هذه الأمور التسعة فقط، وما عداها لا يصح، لأن واقع هذه الأمور التسعة لا يحصل التسامع بها إلا إذا كانت يقينية ومشتهرة وما عداها لا ينطبق عليه هذا الواقع.

ومن ذلك كله يتبين معنى كون الشهادة إخبار صدق، ويتبين أنها حقيقة إخبار صدق، فهي إخبار صادق صدقاً يقينياً.

وأما أنها لإثبات حق فلأن البينة إنما شرعت لإظهار الحق، وبناء عليه لا تقبل الشهادة بالنفي الصرف. فشهادة النفي غير مقبولة، لمناقضتها لتعريف الشهادة. إلا أن النفي المؤول بإثبات فإنها تجوز الشهادة به لأنها حينئذ لا تكون شهادة بالنفي بل شهادة في الإثبات، ولهذا قالوا بعدم جواز الشهادة بالنفي الصرف ولم يقولوا بالنفي فقط، لأن النفي المؤول بإثبات تجوز الشهادة به.

لفظ الشهادة

والشهادة لا بد أن تكون بلفظ أشهد بصيغة المضارع، فإذا لم يقل الشاهد أشهد بل قال أنا أعرف الخصوص الفلاني هكذا، أو أخبر بهذا أو ما شاكل ذلك فإنه لا يكون قد أدى الشهادة، لأنها لا تكون حينئذ قد انطبق عليها تعريف الشهادة فلا تكون شهادة، ولأن النصوص ناطقة بلفظ الشهادة فلا يقوم غيره مقامه، على أن الشهادة تتضمن اليمين بل هي من ألفاظ اليمين فيكون معنى اليمين ملاحظاً فيها. أما اشتراط لفظ المضارع فلكي يفيد أنه يشهد للحال، إذ لو قال شهدت لا يجوز لاحتمال الإخبار عما مضى فلا يكون شاهداً للحال. غير أنه لو شهد بغير لفظ الشهادة وسأله الحاكم أتشهد هكذا وأجاب بقوله نعم هكذا أشهد يكون قد أدى الشهادة.

مجلس الشهادة

ثم ان الشهادة حتى تعتبر لا بد أن تكون في مجلس المحاكمة، لأن شرط الشهادة مجلس القضاء، وتعريف الشهادة ينص على أنها إخبار صدق في مجلس القاضي، فلو أخبر الشاهد في غير مجلس القاضي ولو بلفظ أشهد حتى ولو أمام الشخص الذي هو القاضي ولكن لم تكن الجلسة جلسة محاكمة فإنه لا يعتبر شهادة لأن مجلس القاضي شرط أساسي في اعتبارها. ويستثنى من ذلك المحكم فإنه تجوز الشهادة أمامه في غير مجلس المحاكمة، فلو شهد أمام المحكم في أي مكان اعتبرت شهادته، لأن المحكم لا يتقيد حكمه بمجلس بل أي مجلس حكم فيه كان مجلس حكمه، بخلاف القاضي فإنه يتقيد بمجلس حكمه المعين من الإمام وبمحل ولايته، فالمجلس شرط من شروط حكم القاضي، وهو معين بالمجلس الذي عينه له الإمام ولذلك لا تصح الشهادة أمامه إلا في مجلس قضاء.

الشهادة والدعوى

والشهادة إنما هي لإثبات الدعوى على المدعى عليه، ولذلك إنما تكون في دعوى أمام القاضي، غير أن ذلك لا يعني أن من شروط الشهادة سبق الدعوى، بل ذلك يفصل فيه بين حق الآدمي وحق الله.

فإن كان الحق حقاً لآدمي معين، كالحقوق المالية، والنكاح والبيع وغير ذلك من العقود والتصرفات، وكالقصاص من العقوبات، وكالوقف على آدمي معين، وما شاكل ذلك فإن سبق الدعوى شرط من شروط الشهادة، لأنه يشترط سبق الدعوى في الشهادة بحقوق الناس، فلا تسمع الشهادة في ذلك إلا بعد الدعوى، لأن الشهادة فيه حق لآدمي فلا تستوفى إلا بعد مطالبته، وإذنه، ولأنها حجة على الدعوى ودليل لها فلا يجوز تقدمها عليها.

أما إن كانت الشهادة حقاً لآدمي غير معين كالوقف على الفقراء والمساكين، أو الوصية للفقراء والمساكين، وكطريق للناس، أو كانت حقاً من حقوق الله تعالى كالحدود، والزكاة ونحو ذلك، فلا تفتقر الشهادة به إلى تقدم الدعوى، لأن ذلك ليس له مستحق معين من الآدميين يدعيه ويطالب به. ولذلك شهد أبو بكرة وأصحابه على المغيرة وشهد الجارود وأبو هريرة على قدامة بن مظعون بشرب الخمر، وشهد الذين شهدوا على الوليد بن عقبة بشرب الخمر أيضاً، من غير تقدم دعوى، فأجيزت شهادتهم.

وعليه فإنه ما دام مجلس القاضي شرطاً من شروط الشهادة فلا بد فيها من سبق الدعوى في حقوق الناس، ولا يشترط سبق الدعوى في غير حقوق الناس، ولكنها حتى تكون شهادة وحتى تكون إثباتاً لا بد أن تكون في مجلس المحاكمة.

 

إن وجدت خيرا فانشره، فالدال على الخير كفاعله، دولة الخلافة، - نصر نت - nusr.net