طباعة
المجموعة: فقه القضاء (أحكام البيّنات ونظام العقوبات)

حد الخمر من نظام العقوبات في دولة الخلافة على منهاج النبوةحُرِّمت الخمرة بآية المائدة وهي قوله تعالى :  { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ،  إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون } .  فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :  "  حُرِّمت الخمر "  .  وفي حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :  "  إن الله حرّم الخمر فمن أدركته هذه الآية وعنده شيء فلا يشرب ولا يبع ،  قال :  فاستقبل النّاس بما كان عندهم منها طرق المدينة فسفكوها ".

 والمراد بالخمر الوارد في الآية كل شراب مسكر ،  وليست الخمر خاصّة بما يتخذ من العنب فقط ،  بل هو وما يتخذ من غير العنب من الأشربة المسكرة ،

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال :  خطب عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال :  "  إنه قد نزل تحريم الخمر وهي من خمسة أشياء :  العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل ،  والخمر ما خامر العقل "  وقد أراد عمر بذلك التنبيه على أن المراد بالخمر في هذه الآية أي آية المائدة ليس خاصاً بالمتخذ من العنب ،  بل يتناول المتخذ من غيرها .  ويوافقه حديث أنس ،  فقد روى البخاري قال :  حدثنا مسدد حدثنا معتمر عن أبيه قال :  "  سمعت أنساً قال :  كنت قائماً على الحي أَسقيهم عمومتي - وأنا أصغرهم - الفضيخ ،  فقيل حرمت الخمر ،  فقال اكفئها فكفأتها ،  قلت لأنس ما شرابهم ؟ قال :  رطب وبسر ،  فقال أبو بكر بن أنس ،  وكانت خمرهم فلم ينكر أنس

فهذا يدل على أن الصحابة فهموا أن تحريم الخمر تحريم كل مسكر ،  ويؤيد ذلك ما أخبره أبو سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة رضي الله عنها قالت :  سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن البِتْعِ ،  وهو شراب العسل ،  وكان أهل اليمن يشربونه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "  كل شراب أسكر فهو حرام "  .

وهناك أحاديث كثيرة أن الشراب الذي يتخذ من أي شيء إذا أَسكر فهو خمر .  عن النعمان بن بشير قال :  قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "  إن من الحنطة خمراً ،  ومن الشعير خمراً ،  ومن الزبيب خمراً ،  ومن التمر خمراً ،  ومن العسل خمراً "  .  وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :  "  كل مسكر خمر ،  وكل مسكر حرام " .

فثبت من ذلك أن الخمر ما خامر العقل أي ستره ،  وأن كل مسكر خمر .وعلى هذا فكل شراب أسكر وغطى العقل يعتبر خمراً سواء أكان متخذاً من العنب أم متخذاً من الذرة أم التمر أم الشعير أم القهوة أم غير ذلك .  فكل مسكر يقال له خمر .  وفي الحبشة يتخذون من القهوة خمراً وهي خمر خاصّة بامبراطور الحبشة .  وعليه فالسبيرتو والكلونيا وشراب الجن وما أشبه ذلك خمر لأنّها مسكرة والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول "  كل مسكر خمر "  .

وعلى هذا فإن الخمر لها معنى شرعي غير معناها اللغوي ،  وهذا المعنى الشرعي هو الذي نطق به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وجاء في الأحاديث .  فالحرمة للخمر الوارد في الآية هي حرمة كل شراب مسكر سواء اتخذ من العنب أم من غيره ،  لأنّه كله خمر .

وتحريم الخمر لم يكن لعلة من العلل وإنما حرمت لأنّها خمرة تماماً كتحريم الميتة ،  فالله تعالى قال :  { حُرمتْ عليكم الميتة } ولم يعلل فتكون حراماً لأنّها ميتة ،  وكذلك فإن الله تعالى قال :  { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس } إلى قوله { فهل أنتم منتهون } لم يعلل النهي عنها بل أمر باجتنابها أي حرمها من غير تعليل فتكون حراماً لأنّها خمر ،  لا لعلة من العلل ،  لا سيما وقد ورد ما يدل على أنّها حرمت لأنّها خمر ،  فقد روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :  "  حرمت الخمرة لعينها والمسكر من كل شراب "  أي حرمت لأنّها خمر ،  وحرم المسكر من كل شراب لأنّه مسكر ،  فلا علة في تحريم الخمر ولذلك لا تعلل .

 

مقدار عقوبة شارب الخمر

عقوبة شارب الخمر من الحدود ،  فيجب الحد على من شرب الخمر ،  أي على من شرب أي شراب مسكر ،  لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :  "  من شرب الخمر فاجلدوه "  وقد ثبت أن كل مسكر خمر فيتناول الحديث قليله وكثيره .  وقد انعقد إجماع الصحابة على أن للشراب حدّاً ،  وعلى جلد شارب الخمر ،  وقد اتفقوا على ثبوت حد الشارب ،  وأجمعوا على أنه لا ينقص عن أربعين .

والناظر في الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موضوع جلد شارب الخمر يجد أنّها تدل على أن شارب الخمر يجلد أربعين ،  وأنه يجوز أن تزيد على أربعين.

فقد أخرج مسلم في حديث حُضَين بن المنذر في جلد الوليد أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال :  "  جلد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعين ،  وأبو بكر أربعين ،  وعمر ثمانين ،  وكلٌّ سُنّة "  وأخرج الترمذي عن أبي سعيد :  "  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضرب في الخمر بنعلين أربعين "  وعن أبي سعيد قال :  "  جلد على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الخمر بنعلين أربعين " ،  وعن أبي سعيد قال "  جلد على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الخمر بنعلين أربعين ،  فلما كان زمن عمر جعل بدل كل نعل سوطاً "  .  فهذه الأحاديث صريحة في الدلالة على أن شارب الخمر يجلد أربعين ،  فانها كلها تدل على الأربعين نصاً ،  ويكفي فيها حديث علي وهو قوله:  "  جلد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعين

ويؤيدها في ذلك الأحاديث الدالة على أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم جلد نحواً من أربعين ،  فقد أخرج مسلم عن أنس قال :  "  أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُتِيَ برجل قد شرب الخمر فَجُلِدَ بجريدتين نحو أربعين "  وأخرج النسائي :  "  أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضربه ( أي شارب الخمر ) بالنعال نحواً من أربعين "  وأخرج أحمد والبيهقي :  "  فأمر نحواً من عشرين رجلاً فجلده كل واحد جلدتين بالجريد والنعال "  أي أن الرسول أمر نحواً من عشرين رجلا .

فهذه الأحاديث لم تعين الاربعين  تحديداً بل قالت نحواً من أربعين فيجوز أن تكون أكثر ،  ويجوز أن تكون أقل ،  غير أن أحاديث التحديد بالأربعين قد منعت أن تكون أقل من أربعين ،  لأنّها نصت على الأربعين ،  ولا يوجد أحاديث أخرى قد نصت على أقل من أربعين ،  فينفى احتمال أن يكون أقل من أربعين ويبقى احتمال أن يكون أكثر من أربعين ،  لأنّ إقتران قوله ( أربعين ) بقوله نحواً من أربعين ينفي النقصان عن الأربعين ،  وبذلك تكون هذه الأحاديث مؤيدة القول بأن الحدّ اربعون ،  ولكنها تعطي معنى آخر وهو جواز الزيادة على الأربعين.

غير أن هناك أحاديث لم تبين عدداً معيناً للحدّ ،  بل جاءت تقول إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أمر أن يضرب الشارب ،  ولم تبين مقدار ما يضرب .  فعن أنس :  "  أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال ،  وجلد أبو بكر أربعين "  .  عن عقبة بن الحارث قال :  "  جِئَ بالنعمان أو ابن النعمان شارباً فأمر رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم مَنْ كان في البيت أن يضربوه فكنت فيمن ضربه ،  فضربناه بالنعال والجريد "  ،  وعن السائب بن يزيد قال :  "  كنا نُؤْتى بالشارب في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي إمْرَةِ أبي بكر وصدراً من إِمْرَة عمر فنقوم إليه نضربه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا ،  حتى كان صدراً من إِمْرَة عمر فجلد فيها أربعين ،  حتى إذا عتوا فيها وفسقوا جلد ثمانين "  .  وعن الزهري :  "  أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يفرض في الخمر حدّاً ،  وإنما كان يأمر من حضره أن يضربوه بأيديهم ونعالهم حتى يقول ارفعوا "  وأخرج أبو داود بسند قوي عن ابن عباس :  "  أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يوقت في الخمر حداً "  ،  وأخرج النسائي عن ابن عباس :  "  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يَقِتْ في الخمر حدّاً "  ،  وكلمة يقت من التوقيت أي لم يقدره بقدر ،  ولم يحدّه بحدّ .

فهذه الأحاديث لم تذكر حدّاً معيناً لشارب الخمر ،  بل إن بعضها صرح بأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يفرض في الخمر حداً .  وهذا يعني أن تحديد الجلد بعدد معين أي باربعين لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ،  فهو يعارض تحديد الحد بأربعين .  بل إن الأحاديث تنفي صراحة تحديد الحدّ بـعدد معين ،  فيكون ذلك معارضاً لتحديد الحدّ بأربعين وتكون هذه الأحاديث معارضة للأحاديث التي حددت الحدَّ باربعين .  والجواب على ذلك بالنسبة للأحاديث التي لم تذكر عدداً معيناً تعتبر من قبيل المطلق ،  أي كأنها تقول إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أمر بضرب شارب الخمر ،  ولم تذكر مقدار ما أمر أن يضربه من الحدّ .  فحديث أنس يقول :  "  جلد في الخمر بالجريد والنعال "  فهو مطلق ،  وحديث عقبة يقول :  "  فأمر رسول الله من كان في البيت أن يضربوه "  فهو مطلق ،  فهذان الحديثان واضح فيهما أنهما من قبيل المطلق ،  وإذا ورد نص مطلق من قيد عدد أو صفة ،  وورد نص مقيد بعدد أو صفة فإنّه يحمل المطلق على المقيد ويسري القيد على الجميع ،  وهنا ورد نص مطلق من غير أن يقيد بعدد ،  وورد نص مقيد بعدد معين ،  فإنّه من غير شك يحمل المطلق على المقيد ،  فتحمل الأحاديث التي لم تذكر العدد على الأحاديث التي ذكرت العدد .  وأما حديث السائب فإنّه يدل على أنهم كانوا يضربونه من غير التقيد بعدد معين فهو ليس من قبيل المطلق بل من قبيل الإخبار بانه لم يكن لحدّ الخمر مقدار معين فهو مثل الأحاديث التي بعده أي مثل حديث الزهري وابن عباس .  وهذه الأحاديث التي تنص على أن الرسول لم يحد حداً للخمر هي نفي وليس اثباتاً ،  فتحمل على أنه حسب علمهم لم يعرفوا أنه قد حدّ حدّاً معيناً ،  بدليل أن غيرهم قد روى أن الرسول قد حدّ حدّاً معيناً .  مثل حديث أبي سعيد :  "  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضرب في الخمر بنعلين أربعين "  ومثل ما رواه أبو داود من حديث عبد الرحمن بن أزهر :  "  أنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر بجلد الشارب أربعين "  فيكون من نفى تحديد الحدّ نفى بحسب علمه ،  فلا يعارض الحديث الصحيح الذي أثبت العدد .  على أن هذه الأحاديث نفي وأحاديث الاربعين إثبات ،  والقاعدة الأصولية إذا تعارض النفي والإثبات قدم الإثبات على النفي ،  فتقدم الأحاديث التي تثبت حدّاً معيناً ،  على الأحاديث التي تنفي وجود حدّ معين .  على أن إعمال الدليلين أولى ولذلك يحمل النفي على أنه حسب علمهم ،  وهذا لا ينفي أن غيرهم يعلم غير هذا ،  أي يعلم أن لحدّ الشرب حداً معيناً عينه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .

ومن ذلك كله يتبين أن شارب الخمر يجلد أربعين جلدة عملاً بالأحاديث التي نصت على الأربعين ،  والتي نصت على أنه حول الأربعين .  فيكون لحدّ الشرب حدّ معين هو الأربعون .

  فهو الأحاديث التي نصت على نحو الأربعين وهي حديث أنس :  "  فجلد بجريدتين نحو أربعين "  وحديث النسائي :  "  ضربه بالنعال نحواً من أربعين "  وحديث البيهقي :  "  فأمر نحواً من عشرين رجلاً فجلده كل واحد جلدتين "  فإنها كلها تدل على أنه يجوز أن يكون قد جلد أقل من أربعين أو أكثر من أربعين ،  غير أنه لما كان قول الرسول "  أربعين "  قد ثبت في أحاديث متعددة فإن النص على الأربعين ينفي أن يكون أقل من أربعين فيمنع احتمال تفسير كلمة "  نحو أربعين "  بأقل من أربعين ويبقى معناها أربعين أو أكثر من أربعين ،  وهذا إشارة إلى جواز الزيادة على الأربعين ،  ويؤيده حديث الزهري بانه عليه السلام "  كان يأمر من حضر أن يضربوا بأيديهم ونعالهم حتى يقول لهم ارفعوا "  فإنّه إذا قرن بالأحاديث التي تنص على "  الأربعين "  يفهم منه أنه لم يقل لهم ارفعوا قبل الاربعين ولكن يجوز أن يكون قد قال لهم ارفعوا بعد الاربعين ،  وعلى ذلك فإنّه تصح الزيادة على الأربعين .  ولعل هذا هو الذي اختلف فيه الصحابة أي اختلفوا بمقداره ،  فإنا نجد عمر رضي الله عنه يستشير في حد شارب الخمر فعن أنس :  "  أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتي برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين ،  قال :  وفعله أبو بكر ،  فلما كان عهد عمر استشار النّاس ،  فقال عبد الرحمن أخف الحدود ثمانين فأمر به عمر "  وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي قال :  "  شرب نفر من أهل الشام الخمر وتأولوا الآية الكريمة ،  فاستشار فيهم ( يعني عمر ) فقلت :  أرى أن تستتيبهم ،  فإن تابوا ضربتهم ثمانين ،  وإلا ضربت أعناقهم لأنّهم استحلوا ما حرم ،  فاستتابهم فتابوا ،  فضربهم ثمانين ثمانين "  فهذان الحديثان يدلان على أن عمر استشار الصحابة في مقدار حد الخمر ،  وإذا كان يمكن أن يقال إن عمر لم يستشر الصحابة في جلد هؤلاء الشاربين من النفر من أهل الشام حد الخمر ،  وإنما استشارهم فيما فعلوه من شرب الخمر ومن تأولهم الآية الكريمة ،  فالاستشارة قد وقعت في الشرب على أساس التأول وليس في حد الشارب ،  ولذلك أشار عليه علي بأن يستتيبهم لأنّهم أحلوا الحرام فإن لم يتوبوا قتلهم وإن تابوا جلدهم ثمانين .  فيمكن أن يقال هذا عن استشارة عمر في حديث النفر من أهل الشام ،  ولكن حديث أنس صريح في أن الاستشارة في مقدار حد الشرب ،  ويدل عليه قول عبد الرحمن له "  أخف الحدود ثمانين "  فهو نص في أن الاستشارة في مقدار الحد .  فكيف يستشير عمر في مقدار الحدّ ،  وأحاديث ضرب الشارب أربعين ونحو أربعين ثابتة ويعرفها عمر ،  فالاستشارة في مقدار الحد إذا قرنت بأحاديث الأربعين وأحاديث نحو الأربعين تدل على أنه كان يستشير فيما زاد على الأربعين ،  أي كان يستشير في ضرب الشارب فوق أربعين فأشار عليه عبد الرحمن بأن أخف الحدود ثمانين ،  وبذلك يظهر أمران :  أحدهما أن الصحابة قد فهموا أنه يجوز زيادة الحدّ على أربعين ،  والثاني أن اختلاف الصحابة في مقدار حدّ الخمر إنما هو فيما زاد على الأربعين لا في الأربعين .

وأيضاً فقد روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال :  "  ما كنت لأقيم حداً على أحد فيموت ،  وأجد في نفسي منه شيئاً إلا صاحب الخمر ،  فإنّه لو مات وديته ،  وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يَسُنّه "  وقد قال فيه أبو داود وابن ماجة :  لم يسن فيه شيئاً إنما قلناه نحن .  ومعنى لم يسنه يعني لم يقدره ولم يوقته بلفظه ونطقه .  فهذا الحديث يقول فيه علي أن الرسول لم يقدر لحدّ الخمر مقداراً معيناً ،  في حين أن علياً نفسه يقول :  "  جلد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعين ،  وأبو بكر أربعين ،  وعمر ثمانين ،  وكلٌ سُنّة "  فكيف يتأتى أن يقول :  "  وذلك أن رسول الله لم يَسُنّه "  مع أنه يقول :  "  جلد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعين "  إلاّ أن يكون قد قصد في قوله "  لم يَسُنّه "  أي لم يقدّر له حدّاً فيما زاد على الأربعين ،  فكأن البحث إنما هو فيما زاد على الأربعين ،  إذ مسألة الأربعين مبتوت فيها بالأحاديث التي جاءت نصاً صريحاً بها .

ومن ذلك يتبين أن اختلاف الصحابة في مقدار الحدّ إنما هو اختلاف فيما زاد على الأربعين ،  لا في الأربعين ،  وأن قول علي بأن الرسول لم يقدر حداً معيناً في الخمر ،  وما ورد من أحاديث "  أن الرسول لم يفرض في الخمر حداً "  إنما هو فيما زاد على الأربعين ،  بدليل قول علي بأن الرسول جلد أربعين وبدليل الأحاديث التي تنص على الأربعين .  ويتبين أن النص على الأربعين إذا قرن بأن الرسول لم يحدد حدّاً وبقول الرسول نحو أربعين يكون دليلاً على أنه تجوز الزيادة على الأربعين .  إلاّ أن هذه الزيادة لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها حد معين ،  فلم يثبت أنّها ثمانون ،  ولا أقل ولا أكثر ،  وإنما ثبت مطلق الزيادة ليس غير .

غير أن الصحابة رضوان الله عليهم ،  وإن كان اجتهادهم لا يعتبر من الأدلة الشرعية ،  ولكنه حكم شرعي توصلوا إليه باجتهاد صحيح ،  فهو فوق كونه يصح أخذه لأنّه حكم شرعي رآه مجتهد ،  فإنّه يؤتنس بقولهم ،  ويؤنس برأيهم ،  ولذلك يعين ما زاد على الأربعين بحدّ معين هو ثمانون جلدة ،  فيكون الحدّ أربعين ،  ويجوز أن يأمر الخليفة بجلده ثمانين .  فإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم جلد أربعين ،  والصحابة رضوان الله عليهم جلدوا أربعين ،  وجلدوا ثمانين ،  فيكون الحدّ أربعين وثمانين .  أما الدليل على أن الصحابة قد ضربوا أربعين ،  وضربوا ثماني فأحاديث كثيرة تدل على ذلك :  روى أحمد ومسلم عن أنس :  "  أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُتِيَ برجل قد شرب الخمر فَجُلِدَ بجريدتين نحو أربعين ،  قال :  وفعله أبو بكر ،  فلما كان عهد عمر استشار النّاس فقال عبد الرحمن :  أخف الحدود ثمانين فأمر به عمر "  وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي قال :  "  شرب نفر من أهل الشام الخمر وتأولوا الآية الكريمة ،  فاستشار فيهم ( يعني عمر ) فقلت :  أرى أن تستتيبهم  فإن تابوا ضربتهم ثمانين ،  وإلا ضربت أعناقهم لأنّهم استحلوا ما حرم ،  فاستتابهم فتابوا ،  فضربهم ثمانين ثمانين "  وعن حضين بن المنذر قال :  "  شهدت عثمان بن عفان أُتِيَ بالوليد قد صلى الصبح ركعتين ،  ثمّ قال :  أزيدكم ،  فشهد عليه رجلان أحدهما حُمران أنه شرب الخمر ،  وشهد آخر أنه رآه يتقيؤها ،  فقال عثمان :  إنه لم يتقيأها حتى شربها ،  فقال :  يا علي قم فاجلده ،  فقال علي :  قم يا حسن فاجلده ،  فقال الحسن :  ولِّ حارّها من تولى قارّها ،  فكأنه وجد عليه ،  فقال :  يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده ،  فجلده وعلي يعد حتى بلغ أربعين ،  فقال :  أمسك ،  ثمّ قال :  جلد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعين ،  وأبو بكر أربعين ،  وعمر ثمانين ،  وكلٌّ سُنّة ،  وهذا أحب إلي "  وعن أمير المؤمنين علي  رضي الله عنه في شرب الخمر قال :  "  إنه إذا شرب سكر ،  وإذا سكر هذى ،  وإذا هذى افترى ،  وعلى المفتري ثمانون جلدة "  فهذه الأحاديث والآثار صريحة في أن ما عليه الصحابة هو أنهم كانوا يجلدون شارب الخمر أربعين ،  ويجلدونه ثمانين ،  وأن عملهم استقر على هذين الحدين ،  أما الأربعون فثابتة بنص الحديث فهم قد جلدوا أربعين عملاً بنص الحديث لا باجتهادهم بدليل قول علي :  "  جلد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعين "  وأما الثمانون فقد جلدوها الشارب باجتهادهم ،  لما فهموه من جواز الزيادة على الأربعين ،  ولأنهم رأوا أن أخف الحدود ثمانون ،  أو لأنّ الشارب إذا سكر هذى وإذ هذى افترى فجعلوا عليه حد المفتري أي حد القذف وهو ثمانون .  هذا هو ما سار عليه الصحابة ،  وما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ،  فجلد الأربعين ثابت بالسنة ،  وجلد الثمانين ثابت عن كبار صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيكون حد شارب الخمر أربعين وثمانين .

هذان الحدان هما حدّ شارب الخمر ،  ولا يجوز غير هذين الحدّين مطلقاً ،  لأنّه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا عن الصحابة رضوان الله عليهم أنه جلد غير الأربعين والثمانين ،  فلا يجوز أن يكون خمسين ولا تسعين ولا غير ذلك لأنّه حد وليس تعزيراً ،  ولأنه ثبت فيه مقداران عن الرسول وعن الصحابة فيقتصر على أخذ المقدارين ليس غير .  إلاّ أنه يجوز للخليفة أن يوجب أحدهما ،  أي يجوز له أن يأمر باحدهما الزاماً ويجعله واجباً ،  لأنّه إن أوجب الثمانين فقد دخلت فيها الأربعون الثابتة بالسنة والزيادة الجائزة بالتقدير الذي اتفق عليه الصحابة وهو الثمانون ،  وإن أوجب الأربعين فانها ثابتة بالسنة ،  وما زاد عليها جائز للإمام ،  وليس واجبا عليه ،  فيكون لا شيء عليه بإيجاب الأربعين فقط .

وإنما يضرب من شرب الخمر الحدّ إذا كان عالماً أن كثيره يسكر ،  فأما غيره فلا حد عليه لأنّه غير عالم بتحريمها ،  ولا يجب الحدّ حتى يثبت شرعاً بأحد شيئين :  الاقرار أو البينة ،  ويكفي أن يشهد أحد الشاهدين على شرب الخمر والآخر على القيء ،  لما جاء في حديث حُضّيْن :  "  فشهد رجلان :  أحدهما حُمْران أنه شرب الخمر وشهد آخر أنه رآه يتقيؤها "  .