الأصل في البينات هو الشهادات. وقد جاء الكتاب والسنة بأحكام الشهادات صريحة مفصلة:  أما الكتاب فقال الله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} وقال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ}وقال عز وجل: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ

وأما السنّة: فروى الترمذي عن وائل بن حجر قال: «جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال الحضرمي يا رسول الله هذا غلبني على أرض لي، فقال الكندي: هي أرضي وفي يدي فليس له فيها حق، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحضرمي: ألك بينة؟ قال: لا، قال: فلك يمينه، قال يا رسول الله الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه وليس يتورع من شيء، قال: ليس لك منه إلا ذلك. فانطلق الرجل ليحلف له فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أدبر: لئن حلف على ماله ليأكله ظلماً ليلقين الله تعالى وهو عنه معرض» وروى أبو داود عن رافع بن خديج قال: «أصبح رجل من الأنصار بخيبر مقتولاً فانطلق أولياؤه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكروا ذلك له فقال: لكم شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم؟ فقالوا يا رسول الله لم يكن ثم أحد من المسلمين وإنما هم يهود يجترؤون على أعظم من هذا، قال: فاختاروا منهم خمسين فاستحلفوهم، فوداه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عنده» فهذه النصوص تدل على الشهادات وعلى البينة وعلى أن الشهادات من البينات.

وتحمّل الشهادة وأداؤها فرض على الكفاية، لأن طلبها جاء طلباً جازماً، قال الله تعالى: {وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} وقال تعالى: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} وعلى ذلك فإن دعي إلى تحمل شهادة من نكاح أو دين أو غيره لزمته الإجابة إن لم يكن هناك من يقوم بها. وإن كانت عنده شهادة فدعي إلى أدائها لزمه ذلك، فإن قام بالتحمل أو الأداء اثنان سقط عن الجميع، وإن امتنع الكل أثموا. إلا أن الممتنع إنما يأثم إذا لم يكن عليه ضرر، فإن كان عليه ضرر لم يلزمه لقول الله تعالى: {وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} ولقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا ضرر ولا ضرار».

وهذا كله إذا دعي للشهادة. أما إذا لم يدع للشهادة فإنه ينظر، فإن كانت الشهادة حقاً لله تعالى فإنه يندب له أن يؤدي الشهادة دون أن يدعى لما رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ألا أنبئكم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها».

أما إذا كانت عنده شهادة لآدمي لم يحل له أداؤها حتى يسأله، لما رواه البخاري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يأتي قوم ينذرون ولا يوفون، ويشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون» وعن ابن عمر قال: «خطبنا عمر بالجابية فقال: أيها الناس، إني قمت فيكم كقيام رسول الله فينا، قال: أوصيكم بأصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشوا الكذب حتى يحلف الرجل ولا يستحلف ويشهد الشاهد ولا يستشهد» الحديث. فهذا دليل على أن الشاهد لا يتقدم بشهادته قبل أن تطلب منه.