الحكم الشرعي الذي تدل عليه الأدلة الشرعية ، أي الكتاب والسنة هو أن عقوبة الزنا جلد غير المحصن مائة جلدة عملاً بكتاب الله ، وتغريب عام عملاً بسنة رسول الله . إلاّ أن التغريب جائز ، وليس بواجب ، وهو متروك للإمام ، إن شاء جلده ونفاه سنه ، وإن شاء جلده ولم ينفه . ولكن لا يجوز أن ينفيه ولا يجلده ، لأنّ عقوبته هي الجلد ، وأما عقوبة المحصن فهي رجمه حتى يموت ، عملاً بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي جاءت مخصصة لكتاب الله . ويجوز في المحصن أن يجمع عليه الجلد والرجم ، فيجلد أولاً ثمّ يرجم ، ويجوز أن تفرد عليه عقوبة الرجم فلا يجلد ، ولكن لا يجوز أن تفرد عليه عقوبة الجلد لأنّ عقوبته الواجبة هي الرجم .
أما دليل عقوبة غير المحصن فآية الجلد ، وهي قوله تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } وأما دليل تغريب سنة فأحاديث كثيرة منها : عن أبي هريرة " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام ، وإقامة الحد عليه " وعن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " خذوا عني ، حذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلاً ، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة " وقد سار الصحابة على ذلك فجلدوا غير المحصن وغرّبوه سنة . إلاّ أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه جلد ولم يغرب . فعن أبي داود عن سهل بن سعد " أن رجلاً من بكر بن ليث أقر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه زنى بامرأة ، وكان بكراً ، فجلده النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائة ، وسأله البينة على المرأة إذ كذبته فلم يأت بشيء ، فجلده النبي حدّ الفرية ثمانين جلدة " ففي هذا الحديث جلد الرسول الزاني ولم يغربه ، وجاء حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : " إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها " مما يدل على أن التغريب جائز ، وليس بواجب ، فللإمام أن يجلد ويغرب ، وله أن يجلد ولا يغرب ، لأنّ الرسول جلد وغرب ، وجلد ولم يغرب .
وإنما جعل من حدّ غير المحصن التغريب سنة مع الجلد مع أن الأحاديث في ذلك متعارضة ، فأكثرها أن الرسول جمع الجلد مع التغريب ، وفيها أن الرسول جلد ولم يغرب ، إنّما جعل ذلك هو الحد جمعاً بين الأحاديث ، فلا يقال في حديث " إذا زنت أمة أحدكم " ، وفي حديث سهل بن سعد ، أن ذلك كان قبل مشروعية التغريب ، لأنه لم يثبت تقدم أحاديث التغريب على أحاديث عدم التغريب ، فيبقى التاريخ مجهولاً ، وبذلك لا يعلم أي الأحاديث كانت قبل الأخرى فانتفى النسخ ، ولا يوجد مرجح لأحدهما على الآخر فيعمل بهما . غير أن ترك الرسول للتغريب مرة ، وفعله مرة قرينة على أنه جائز ، وليس بواجب ، فيكون الحديث الذي ذكر الزيادة قد أتى بزيادة ، فتكون الزيادة التي فيه جائزة ، وليست بواجبة ، والواجب هو الذي ذكر في جميع الأحاديث ، سواء التي فيها زيادة ، والتي ليس فيها زيادة ، أي الذي فعله الرسول في جميع الحالات ، ولم يتركه مطلقاً وهو الجلد . والجائز للإمام أن يفعله وأن لا يفعله هو ما ذكر في بعض الأحاديث ، ولم يذكر في بعضها ، أي ما فعله الرسول ، وما تركه وهو التغريب . وقد حصل التغريب مع الجلد من الصحابة ، الذين هم أعرف بمقاصد الشرع ، فقد غرب عمر من المدينة إلى الشام ، وغرب عثمان إلى مصر ، وغرّب ابن عمر أمته إلى فدك . والتغريب المذكور في الأحاديث شرعاً هو إخراج الزاني عن موضع إقامته بحيث يعدّ غريباً ، وهذا المعنى هو المعروف عند الصحابة للتغريب .
وأما دليل عقوبة المحصن فأحاديث كثيرة ، فعن أبي هريرة وزيد بن خالد أنهما قالا إن رجلاً من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : " يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله ، وقال الخصم الآخر وهو أفقه منه : نعم ، فاقض بيننا بكتاب الله ، وائذن لي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قل ، قال : إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته ، وإني أُخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة ، فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام ، وأن على امرأة هذا الرجم . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ، الوليدة والغنم ردّ ، وعلى ابنك جلد مائة ، وتغريب عام ، وأغدُ يا أنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ، قال : فغدا عليها فاعترفت فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرجمت " والعسيف الأجير . فالرسول أمر برجم المحصن ولم يجلده . وعن الشعبي " أن علياً رضي الله عنه حين رجم المرأة ضربها يوم الخميس ، ورجمها يوم الجمعة ، وقال : جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " وعن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " فالرسول يقول إن عقوبة المحصن الجلد والرجم ، وعلي يجلد المحصن ويرجمها . وعن جابر بن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجم ماعز بن مالك ، ولم يذكر جلداً ، وفي البخاري عن سليمان بن بريدة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجم الغامدية ، ولم يذكر جلداً ، وفي مسلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أمر بامرأة من جهينة فشدت عليها ثيابها ثمّ أمر بها فرجمت ، ولم يذكر جلداً . فدل ذلك على أن الرسول رجم المحصن ولم يجلده ، وأنه قال : " الثيب بالثيب جلد مائة والرجم " فدل على أن الرجم واجب ، وأما الجلد فهو جائز ، ويترك لرأي الخليفة . وإنما جعل من حد المحصن الجلد مع الرجم جمعاً بين الأحاديث . ولا يقال إن حديث سمرة في أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يجلد ماعزاً ، بل اقتصر على رجمه ، هو ناسخ لحديث عبادة بن الصامت الذي يقول : " الثيب بالثيب جلد مائة والرجم " لا يقال ذلك لأنّه لم يثبت ما يدل على تأخر حديث ماعز عن حديث عبادة ، ومع عدم ثبوت تأخره لا يكون ترك ذكر الجلد موجباً لإبطاله ، وناسخاً لحكمه ، فعدم ثبوت المتقدم من المتأخر من الحديثين ينفي النسخ ، ولا يوجد مرجح لأحدهما على الآخر ، وما جاء في الحديث من زيادة على الرجم يعتبر أمراً جائزاً لا واجباً ، إذ الواجب هو الرجم ، وما زاد على ذلك فالإمام مخير فيه للجمع بين الأحاديث . والمحصن هو الذي قد وطئ في نكاح صحيح ، وهو حر بالغ عاقل ، هذا هو تعريف المحصن في باب الزنا . وما عداه فغير محصن ، ويشترط في الجلد والرجم أن تنفى الشبهة : بأن يكون حراماً محضاً ، وأن يكون الفاعل مختارا ، بأن لا يكون مكرهاً على الزنا الاكراه الملجيء ، وأن يكون بالغاً عاقلاً ، فلا حد على صبي ، ولا مجنون ، ولا سكران ، من غير إرادة منه . وأن يثبت الزنا عليه ببينة الزنا الواردة في الأدلة الشرعية ، لما روي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعاً " وعن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم ، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله ، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة " . وعن علي مرفوعاً : " ادرأوا الحدود بالشبهات " . ولأنّ المكره إكراهاً ملجئاً لا يعاقب على فعله . لقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " ، ولأنّ الرسول لم يوقع العقوبة على الزاني إلاّ بعد أن ثبت الزنا عليه .
ومتى ثبت الزنا وجبت المبادرة بالحدّ ، ولا يصح تعطيله ، ولا الشفاعة فيه ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : " حدّ يعمل به في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحاً " وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : " من حالت شفاعته دون حدّ من حدود الله فهو مضاد الله في أمره " .
غير أنه إذا كان من عليه الحدّ مريضاً فيؤخر حتى يبرأ من مرضه ، إذا كان يرجى برؤه ، فإن كان المرض لا يرجى برؤه ضرب ضرباً خفيفاً يحتمله ، عن أبي أمامة بن سهل عن سعيد بن سعد بن عبادة قال : " كان بين أبياتنا رويجل ضعيف مخدج فلم يَرُعِ الحيَّ إلاّ وهو على أمة من إمائهم يخبث بها ، فذكر ذلك سعد بن عبادة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان ذلك الرجل مسلماً ، فقال : إضربوه حدّه ، قالوا يا رسول الله إنه أضعف مما تحسب ، لو ضربناه مائة قتلناه ، فقال : خذوا له عثكالاً فيه مائة شمراخ ، ثمّ اضربوه به ضربة واحدة ، قال : ففعلوا " فهذا الحديث يدل على أن الضعيف الذي لا يحتمل الحدّ سواء أكان ضعيفاً من مرض لا يرجى برؤه ، أو ضعيف البنية يضرب ضرباً خفيفاً ، فقد ورد في رواية أخرى للحديث : " ولو حملناه إليك لتفسخت عظامه ما هو إلاّ جلد على عظم " فالضعف مطلقاً يحدّ حداً خفيفاً والمرض ضعف ، ومفهوم الحديث أنه إن كان يقوى بعد الضعف ، ويبرأ بعد المرض ينتظر حتى يحدّ الحد كما ورد .
وكذلك ينتظر على الحامل حتى تضع حملها ، وعلى المرضع حتى تفطم وليدها . عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : " جاءت الغامدية فقالت يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني ، وأنه ردها ، فلما كان الغد قالت يا رسول الله لم تُرَدّدني ، لعلك تردّدني كما ردّدت ماعزاً ، فوا لله إني لحبلى ، قال : إمّا لا فاذهبي حتى تلدي : فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة ، قالت : هذا قد ولدته ، قال : اذهبي فارضعيه حتى تفطميه ، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز ، فقالت : هذا يا نبي الله قد فطمته ، وقد أكل الطعام ، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها ، وأمر الناس فرجموها " فهذا الحديث صريح في الدلالة على أن الحامل ينتظر عليها حتى تلد ، وعلى أن المرضع ينتظر عليها حتى تفطم وليدها .
بيّنة الزنا
يثبت الزنا بأحد ثلاثة أمور :
- أحدها : الإقرار : وهو إقرار الزاني أربع مرات إقراراً صريحاً ، وأن لا يرجع عن إقراره حتى يتم عليه الحدّ ، فان رجع عن إقراره ، أو هرب كف عنه . والدليل على ذلك ما روي عن أبي هريرة قال : " أتى رجلٌ من الاسلميين رسولَ الله وهو في المسجد فناداه ، فقال يا رسول الله ، إني زنيت ، فأعرض عنه حتى ردد عليه أربع مرات ، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أبك جنون ؟ قال : لا ، قال : فهل أحصنت ؟ قال : نعم ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : اذهبوا به فارجموه " . وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : " يا رسول الله إني زنيت وإني أريد أن تطهرني، فرده فلما كان الغد أتاه فقال يا رسول الله إني قد زنيت ، فرده الثانية ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى قومه هل تعلمون بعقله بأساً تنكرون منه شيئا ؟ قالوا ما نعلمه إلا وَفيَّ العقلِ من صالحينا فيما نرى ، فأتاه الثالثة فأرسل إليهم أيضاً فسأل عنه ، فأخبره أنه لا بأس به ولا بعقله . فلما كان الرابعة حفر له حفرة ثم أمر به فرجم " . وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : " جاءت الغامدية فقالت : يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني ، وإنه ردها ، فلما كان الغد قالت : يا رسول الله لم تردّدُني ؟ لعلك تُرَدّدُني كما ردّدت ماعزاَ ، فوا لله إني لحبلى ، قال : إما لا ، فاذهبي حتى تلدي ، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة ، قالت : هذا قد ولدته ، قال : اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه ، فلما فطمته أتته بالصبي وفي يده كسرة خبز ، فقالت : هذا يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام ، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ، ثم أمر بها ، فحفر لها إلى صدرها ، وأمر الناس فرجموها " وقوله في هذا الحديث " إما لا فاذهبي " معناه إذا أبيت أن تشتري نفسك وتتوبي عن قولك فاذهبي حتى تلدي فترجمين بعد ذلك . وإما هي بكسر الهمزة وتشديد الميم . فهذا دليل على أن الرجم يثبت بالإقرار أربع مرات ، إلا أنه إذا رجع المقر عن إقراره وهرب أثناء الرجم كف عنه . فعن أبي هريرة أن ماعزاً لما وجد مس الحجارة فَرَّ يشتد حتى مر برجل معه لحي جمل فضربه به وضرب الناس حتى مات ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه فَرَّ حين وجد مس الحجارة ومس الموت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " هلا تركتموه " وكذلك ثبت الجلد بالإقرار . فعن سهل بن سعد أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : " إنه قد زنى بامرأة سماها ، فأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المرأة فدعاها فسألها عما قال : فأنكرت ، فحدّه وتركها " فهذا الحديث يدل على أن الجلد يثبت بالإقرار .والإقرار بالزنا يكفي فيه مرة واحدة ، ولا يحتاج لأربع مرات ، والدليل على ذلك ما جاء في حديث عبد الله بن بريدة المار ، فانه يدل على أن الرسول رجمها قبل أن تقر أربعاً ، وفي حديث جابر " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقر عنده رجل أنه زنى بامرأة ، فأمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجلد الحدّ ، ثم أخبر أنه محصن فرجم " وحديث سهل بن سعد المار فإن الرجل أقرّ مرة واحدة فحدّه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فهذه الأحاديث دليل على أن الإقرار مرة واحدة كاف لإثبات الزنا . وأما ما ورد في الأحاديث الأخرى من تكرار الإقرار أربعاً ، ومن قول الرسول " شهدت على نفسك أربع مرات " ، وغير ذلك من الأحاديث فإنها لا تدل على أن شرط الإقرار أن يكون أربعاً وإنما تدل على التثبت من الإقرار ، وعلى جواز تأخير الحدّ بعد الإقرار ، ولا تدل على أن شرط الإقرار أن يكون أربعاً ، لا سيما وقد ثبت أن الرسول أقام الحد بالإقرار مرة واحدة . ويؤيد ذلك ما ورد في حديث الغامدية المار ، إذ قالت " يا رسول الله لم تُردِّدُني ؟ لعلك ترددني كما ردّدت ماعزاً " ولم ينكر عليها الرسول ذلك ، فلو كان تربيع الإقرار شرطاً لقال لها إنما رددته لكونه لم يقر أربعاً . فهذا كله يدل على أن تربيع الإقرار ليس شرطاً ، بل يكفي الإقرار مرة واحدة .
- ثانيها : أن يشهد عليه في مجلس واحد بزنا واحد أربعة رجالٍ من المسلمين ، أحرار عدولٍ ، يصفونه بالزنا وصفاً صريحاً ، واشتراط الأربعة لا خلاف فيه لقول الله تعالى : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } وقال تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } وقال تعالى : { لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون } وقال سعد بن عبادة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أرأيت لو وجدتُ مع امرأتي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة شهداء ؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : نعم " فهذه الأدلة قطعية الدلالة على أن إثبات الزنا لا بد له من أربعة رجال ، يشهدون شهادة صريحة واضحة ، واصفين عملية الزنا وصفاً تاماً ، فإذا لم يكمل النصاب أربعاً لا يثبت الزنا ، وإذا أخل واحد منهم بالوصف ، أو وصف وصفاً غير صريح لا يثبت الزنا ، لأن بينته جاءت نصاً صريحاً ، فلا بد من التقيد بالنص .
- ثالثها : الحبل : أي ظهور الحبل عليها ، وإذا حبلت المرأة ، ولا زوج لها ، عليها الحدّ ، لقول عمر : " والرجم واجب على كل من زنى من الرجال والنساء إذا كان محصناً ، إذا قامت بينة ، أو كان الحبل والاعتراف " . وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : " يا أيها النّاس إن الزنا زناءان : زنا سر ، وزنا علانية ، فزنا السر أن يشهد الشهود ، فيكون الشهود أول من يرمي ، وزنا العلانية أن يظهر الحبل ، أو الاعتراف ، فيكون الإمام أول من يرمي " وهذا قول سادة الصحابة ، ولم يظهر لهم في عصرهم مخالف ، وهذا الأمر مما ينكر ، ولم يوجد منكر فكان إجماعاً . إلاّ أنه في حالة الحبل يدرأ الحدّ عن المرأة إذا بينت سبباً للحبل ، لأنّه يكون حينئذ شبهة ، والحدود تدرأ بالشبهات ، فإذا قالت المرأة إنها حبلت من إدخال ماء رجل في فرجها دون زنا ، سواء بفعلها أو بفعل غيرها ، أو قالت إني أكرهت على الزنا اكراهاً ملجئاً ، أو قالت غير ذلك من أسباب الحبل التي تكون شبهة يُدرأ الحد عنها ولا يقام عليها ، فقد روى سعيد : حدثنا خلف بن خليفة حدثنا هاشم " أن امرأة رُفعت إلى عمر بن الخطاب ليس لها زوج وقد حملت ، فسألها عمر فقالت : إني امرأة ثقيلة الرأس ، وقع علي رجل وأنا نائمة ، فما استيقظت حتى فرغ ، فدرأ عنها الحدّ " . وروى البراء بن صبرة عن عمر " أنه اُتي بامرأة حامل ، فادعت أنها أكرهت ، فقال : خلّ سبيلها ، وكتب إلى أمراء الأجناد ( أن لا يقتل أحد إلا بإذنه ) " . وفعل عمر وإن كان ليس دليلاً شرعياً ولكنه حكم شرعي ، فيجوز تقليد عمر بهذا أي يجوز للخليفة أن يأمر بعدم الحكم بالقتل بعد استكمال أسباب الحكم إلاّ بإذنه .
هذه هي بينة الزنا ، ولا يثبت الزنا بغيرها مطلقاً ، فهي ليست داخلة تحت نصوص الشهادات ، ولا تحت نصوص البينات ، بل هي بينة خاصّة لأمر خاص ، وتعتبر جزءاً لا يتجزأ من أحكام حدّ الزاني ، فهي نص ويجب التقيد بهذا النص . وعليه لا يثبت الزنا بشهادة طبيب على بكر بانها ثيب ، أو بأنها زنت ، أو بأنها قد وُطِئت ، أو ما شاكل ذلك ، وكذلك لا يثبت بشهادة قابلة ، ولا يثبت بأي شيء سوى واحد من هذه الثلاثة ، حتى لو تحقق القاضي من الزنا ، لأنّ المقصود ليس إقامة بينة على الزنا ، بل إقامة بينة معينة عينها الشرع ، وليس المقصود إقامة الأمارات ، والأمور التي تثبت للقاضي وقوع الزنا ، أو تجعل القناعة تحصل عند القاضي ، بأن الزنا قد وقع ، بل المقصود هو ثبوت الزنا بهذه البينة المخصوصة ، وليس ثبوت الزنا فقط ، بل ثبوته ببينة معينة . ولهذا نجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يظهر قناعته بأن امرأة معروفة زانية ومع ذلك لم يحدّها لعدم وجود البينة ، فعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " لو كنت راجماً أحداً بغير بينة لرجمت فلانة ، فقد ظهر منها الريبة في منطقها ، وهيئتها ، ومن يدخل عليها " وعن ابن عباس " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لاعَنَ بين العجلاني وامرأته ، فقال شداد بن الهادي هي المرأة التي قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لو كنت راجماً أحداً بغير بينة لرجمتها ؟ قال : لا تلك امرأة كانت قد أعلنت في الإسلام " وفي لفظ البخاري " كانت تظهر في الإسلام السوء " أي كانت تعلن بالفاحشة ولكن لم يثبت عليها ذلك ببينة الزنا ولا اعتراف ، وأيضاً فقد جاء في حديث ابن عباس عن قذف هلال بن أمية لامرأته بشريك بن سمحاء ونزول آية اللعان ، فانصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فارسل إليهما فجاء هلال فشهدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول " إن الله يعلم أن أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب " ثمّ قامت فشهدت ، فلما كان عند الخامسة وقفوها ، فقالوا إنها موجبة ، فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ، ثمّ قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : " أنظروها ، فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الاليتين ، خدلج الساقين فهو لشريك بن سمحاء " فجاءت به كذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : " لو لا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن " وفي رواية البخاري " من حكم الله " ففي هذه الحادثة ظهرت الامارات بشكل واضح أنها زانية ، وأظهر الرسول قناعته بأنها زانية ومع ذلك لم يحدّها لأنّ الزنا لم يثبت بالبينة الشرعية التي جاء بها القرآن ، وهو يؤيد أنه لا يحدّ الشخص إلاّ إذا ثبت الزنا بالبينة الخاصة بالزنا ، أي الإقرار ، أو أربعة شهود ، أو الحبل .