فقه الإسلام وأنظمته / أحكام البيات // إن المتتبع للنصوص الشرعية من الكتاب والسنة يجد أن الشارع قد بين الشاهدين ببيانات مختلفة، فبين أنهما رجلان فقال تعالى: ((وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ)) وبين أنهما رجل وامرأتان فقال تعالى: ((فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ)) وبين أنهما أربع نسوة وأن كل امرأتين بمثابة رجل واحد، عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل واحد» وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في حديث: «أليس شهادة المرأة نصف شهادة الرجل قلنا: بلى يا رسول الله» وبين أنهما شاهد ويمين المدعى، عن ابن عباس: «أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى بيمين وشاهد» وعن جابر: «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى باليمين والشاهد» وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى بشهادة شاهد واحد ويمين صاحب الحق وقضى به أمير المؤمنين علي بالعراق» وعن ربيعة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: «قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باليمين مع الشاهد الواحد» وعن سرُّق: «أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجاز شهادة الرجل ويمين الطالب» وعن الزبيب بن ثعلبه قصة ذكرها وفيها أنه قال له صلى الله عليه وآله وسلم: «هل لك بينة على أنكم أسلمتم قبل أن تؤخذوا في هذه الأيام؟ قلت: نعم، قال: من بيّنتك؟ قلت: سمرة رجل من بني العنبر ورجل آخر سماه له، فشهد الرجل وأبى سمرة أن يشهد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قد أبى أن يشهد لك فتحلف مع شاهدك الآخر، قلت: نعم، فاستحلفني فحلفت بالله لقد أسلمنا يوم كذا وكذا» ثم ذكر تمام القصة وفيها: «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمل بالشاهد واليمين» قال أبو عمر النمري عن هذا الحديث "أنه حديث حسن".

 

فهذه النصوص كلها تبين أن الشارع لم يقتصر في نصوصه على ذكر الشاهدين فقط، بل فصّل الشاهدين بأنهما رجلين، ورجل وامرأتان، ونساء بمقدار الرجلين كل امرأتين بمقدار رجل واحد، وشاهد واحد ويمين المدعي. فهذا التفصيل يعتبر بياناً للشاهدين، لأن لفظ الشاهدين لفظ مجمل مثل لفظ الزكاة والصلاة والحج وما شابهها، فجاءت النصوص وبيّنت الشاهدين بأنهما رجلان، أو رجل وامرأتان، أو أربع نسوة، أو شاهد واحد ويمين المدعي. فيكون ذلك بياناً للشاهدين أي بياناً للنصاب، وعليه يكون نصاب الشهادة هو هكذا شاهدين، ويكون أحد الشاهدين اليمين لأنها شهادة، ويكون امرأتين لأنهما بنص الحديث بمقابل شاهد. أما كون اليمين شاهداً فلأن ذلك ثابت بنص القرآن. فإن القرآن سمى أيمان الزوجين شهادة فقال: ((فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ)). وعلى ذلك فإن اليمين تكون شهادة فتقوم مقام شاهد، فيكون اليمين مع الشاهد الواحد شاهدين اثنين، وأما كون المرأتين بمثابة الشاهد الواحد، فإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل واحد» فتكون الأربع النسوة شاهدين. وبذلك يظهر أن الشاهدين مهما اختلفت أنواعهما هما شاهدان، وأن ما جاء في شأن الشاهد الثاني هو بيان لنوع هذا الشاهد وليس نصاباً آخر. وعليه فإن أنواع الشاهدين أربعة أنواع هي: رجلان، ورجل وامرأتان، وأربع نسوة، وشاهد واحد ويمين المدعي.

 

وقد يقال أن الله قد ذكر نصاب الشهادة بأنه رجلان أو رجل وامرأتان بنص صريح قال تعالى: ((وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ)) فمنطوقه ومفهومه يدل على أن هذا هو نصاب الشهادة، فقبول الحديث الذي يقول بالشاهد الواحد ويمين المدعي يعني أن الحديث نسخ الآية، لأن الآية جاءت بحكم وجاء الحديث بحكم آخر غيره فيكون قد نسخه، والحديث لا ينسخ القرآن خاصة وأن الحديث المذكور خبر آحاد فيكف يصح أن يكون نصاب الشهادة شاهداً واحداً ويمين المدعي؟ والجواب على ذلك من وجهين: أحدهما أن الآية خاصة في موضوع خاص، فلا تشمل غير هذا الموضوع، فلا تكون عامة، فلو فرضنا أن الآية بيّنت النصاب فإنه يكون بياناً للنصاب في هذا الموضوع فقط وهو الحقوق المالية، وتكون النصوص الأخرى جاءت مبينة النصاب في غير الحقوق المالية. ثانيهما أن أحاديث الشاهد الواحد ويمين المدعي ليست مبطلة لما جاء في الآية من أن نصاب الشهادة شاهدان، بل هي مبينة بياناً زائداً على بيان الآية، فالآية بينت الشاهدين بأنهما رجلان أو رجل وامرأتان، والحديث بين انهما كذلك شاهد ويمين المدعي، فيكون بياناً ثانياً. فيكون الحديث قد جاء بزيادة على الآية ولم يأت بحكم جديد غير الحكم الأول بل جاء بالحكم الأول وزاد عليه حكماً آخر، والحديث إذا جاء متضمناً لزيادة على ما في القرآن فإنه لا يكون نسخاً بل زيادة مستقلة بحكم مستقل، فإذا ثبت سنده وجب القول به. فإن النسخ رفع حكم والزيادة لا رفع فيها، والزيادة إنما هي كالتخصيص، فكما أن تخصيص الكتاب بالسنة جائز وكذلك الزيادة عليه جائزة. والشواهد على ذلك كثيرة جداً، فالله تعالى حين ذكر المحرمات قال: ((وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ)) وجاءت السنة بتحريم نكاح العمة مع بنت أخيها، والله تعالى يقول: ((وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا)) وجاءت السنة بترك قطع ما يسرع إليه الفساد، وهكذا كثير مثل ذلك،وعليه يكون العمل بأحاديث قبول شهادة الشاهد الواحد ويمين المدعي واجباً مع العمل بالآية، فتكون الآية والأحاديث مبنية لأنواع الشاهدين.

 

هذا هو نصاب الشهادة وهو شاهدان، وهذه هي أنواع الشاهدين: رجلان، أو رجل وامرأتان، أو أربع نسوة، أو شاهد ويمين المدعي، بجعل يمين المدعي شاهداً لأن الله سماه شهادة، وجعل المرأتين تعدلان رجلاً للحديث الصحيح. وهذا النصاب بأنواع الشاهدين هو نصاب الشهادة في جميع الدعاوى لا فرق بين المعاملات والعقوبات، فهو نصاب الشهادة في السرقة والقتل وشرب الخمر وغير ذلك من الحدود، وهو نصاب الشهادة في القتل وجدع الأنف وشج الرأس وغير ذلك من الجنايات، وهو نصاب الشهادة في البيع والإجارة والكفالة وغيرها من العقود، وهو نصاب الشهادة في الوقف والهبة وغيرهما من التصرفات. أما كونه نصاب الشهادة في المعاملات فإنه قد جاء به النص في العقود والتصرفات فيشمل جميع المعاملات، وأما كونه نصاب الشهادة في العقوبات فلأن الله لم يبين للعقوبات نصاباً خاصاً سوى جريمة الزنا، فلو كان لغير الزنا من العقوبات نصاب خاص لبينه كما بين الزنا، ولكنه لم يبينه فدل على أن نصاب الشهادة في المعاملات هو نصاب الشهادة في العقوبات، لا سيما وأن أحاديث قبول الشهادة ويمين المدعي جاءت عامة إذ نصها: «قضى بيمين وشاهد»، «قضى باليمين والشاهد»، «قضى بشاهد واحد ويمين صاحب الحق»، «قضى باليمين مع الشاهد الواحد»، «أجاز شهادة الرجل ويمين الطالب» فيشمل العقوبات لأنه عام، ومثله باقي أنواع الشاهدين.

 

ومن ذلك يتبين أنه لا يوجد نصاب أكمل ونصاب غير أكمل، ولا يوجد نصاب عند الضرورة ونصاب عند غير الضرورة، بل نصاب الشهادة هو هذا في جميع الحوادث إلا ما جاء النص الشرعي مستثنياً له من هذا النصاب فحينئذ يتبع النص الشرعي الذي بين لحادثة معينة نصاباً غير هذا النصاب.