طباعة
المجموعة: فقه القضاء (أحكام البيّنات ونظام العقوبات)

 

فقه الإسلام وأنظمته / فقه نظام العقوبات في الإسلام

التعزير عقوبة جعل للحاكم حق تقديرها، ولكنه لم يجعل له أن يعاقب بما يشاء، فهناك عقوبات جاء النص صريحاً في النهي عن العقاب بها فلا يجوز أن يعاقب بها، ثمّ إن نصوص الشرع من الكتاب والسنة جاءت بعقوبات معينة محددة، وجاء الأمر بإيقاع العقاب بها، فكون اجتهاد الحاكم في التعزير إنما هو في مقداره لا بأية عقوبة يرى، وكون الشارع جاء بعقوبات معينة فإن ذلك يدل على أن إيقاع العقوبات في التعزير محصور بما جاء الشارع بالعقاب به ولا يصح بغيره.

أما العقوبات التي جاء النهي الصريح عن العقوبة بها فهي الحرق بالنار، فالعقوبة بالحرق بالنار لا تجوز، فقد روى البخاري من حديث أبي هريرة : «وإن النار لا يعذب بها إلاّ الله» وعن عكرمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : «لا تعذبوا بعذاب الله» يعني الحرق بالنار. وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : «وأنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلاّ رب النار». فهذا كله صريح في تحريم العقوبة بالحرق بالنار، ويلحق بها ما هو من جنسها، مما فيه خاصية الاحراق كالكهرباء، وأما ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث العُرَنِيين من أنه صلى الله عليه وآله وسلم «أمر بمسامير فاحميت فكحلهم» فإن ذلك هو الكي بالنار، ولم يرد نهي عنه، واستعمال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم له بايقاع العقوبة به دليل على جوازه، والمنهي عنه إنما هو الحرق بالنار.

وأما العقوبات التي جاء الشارع بالعقاب بها فانها العقوبات التالية :

1 - عقوبة القتل : يجوز للخليفة أن يبلغ في التعزير حد القتل، وأنه وإن كان القتل حدّاً من الحدود وهو حدّ الزاني المحصن، وحدّ اللواط، والحديث ينهى عن أن يُبْلَغَ الحدُّ في غير الحدِّ، ولكنه أي القتل ليس كالجلد حداً يمكن أن ينقص عن حدّه، بل هو حدّ واحد، ولذلك لا ينطبق عليه حديث : «من بلغ حدّاً في غير حدّ» على أن ذلك الحديث المراد به حدّ الجلد، لأنّه هو الذي يتصور فيه بلوغ الحدّ، وعدم بلوغ الحدّ، أما القتل فلا يتصور فيه ذلك، وكذلك قطع الأيدي والأرجل، وعلى هذا فإنّه يجوز أن يبلغ التعزير درجة قاسية، حتى يصل إلى القتل. والدليل على ذلك حديث العُرَنيين، فإنّه وإن أتى به في حدّ قطاع الطرق كدليل عليه، ولكن واقعه أنه خيانة وقتل وارتداد، وليس واقع قطاع الطرق. عن قتادة عن أنس : «أن أناساً من عُكْلٍ وعُرَينَة قَدِموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتكلموا بالإسلام، فاستوخموا المدينة، فأمر لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بِذَوْدٍ وراع، وأمرهم أن يخرجوا، فليشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرّة كفروا بعد اسلامهم، وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واستاقوا الذود فبلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فبعث الطلب في آثارهم، فأمر بهم فسمَّروا أعينهم، وقطعوا أيديهم، وتُركوا في ناحية الحرَّة حتى ماتوا» فهذا هو واقع حادث العرنيين، وهو وإن كان خيانة وقتلاً وارتداداً، ولكنه في حقيقته إخلال بالامن جمع الثلاث، ولذلك لم يعاقبهم الرسول عقوبات الخيانة والقتل والارتداد، بل نكّل بهم، فهو لم يقتلهم، وإنما تركهم في الحرة حتى ماتوا، وقبل أن يتركهم في الحرة كوى أعينهم بالنار وقطع أيديهم، وهذا يدل على أن الحادثة إخلال بالأمن فظيع، ومنها يستنبط أن الإمام يجوز أن يبلغ في التعزير حد القتل.

على أن عِلَّة العقوبة الزجر، فإن قوله تعالى : ((ولكم في القصاص حياة)) واضح فيه أنّ كون القصاص فيه حياة هو عِلّة القصاص، والزجر علّة لايقاع العقوبة، والعقوبات المنصوص عليها لا يصح أن يتعداها المسلم، لأنّ الله يعلم أنّها تزجر، وشرعها وهو يعلم ذلك، ولكن الجرائم التي لم يعين الشارع عقوبة لها، وترك تقديرها للامام فإن على الإمام أن يضع العقوبة الزاجرة، فإن وضع عقوبة، ورأى أنها غير زاجرة، كان عليه أن يضع عقوبة أشدّ منها حتى يتحقق الزجر. وهناك جرائم كثيرة لم يعين الشارع عقوبة معينة لها، ولا يحصل الزجر فيها إلا بالقتل، فهذه للامام أن يجعل عقوبتها القتل. فمثلاً نص الشرع على أنه إذا بويع لامامين فاقتلوا الآخر منهما، ولكنه لم ينص على من حرّض النّاس وجمعهم لبيعة إمام ثانٍ بعد انعقاد بيعة الإمام، فهذا لم يبايع اماماً على النّاس، فلا ينطبق عليه الحديث، ولكن جرمه ربما يكون افظع من جرم من بويع، ولذلك فإنّه يجوز أن يجعل الإمام عقوبته القتل، ومثلاً من دعا إلى القومية، سواء أكانت قومية عربية أم تركية أم فارسية أم بربرية أم غير ذلك، وجمع النّاس على القومية، فهذا لم يرد من الشارع نص على عقوبة مقدرة له، ومعلوم ما ينتج عن الدعوة القومية من تمزيق الدولة الإسلامية، بل تمزيق المسلمين، فحامل هذه الدعوة يجوز للامام أن يجعل عقوبته القتل، وكذلك من حمل الدعوة إلى انفصال اقليم عن جسم الدولة الإسلامية، فإنّه وإن كان يفهم من قوله صلى الله عليه وآله وسلم : «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه» ولكنه ليس من الحدود، وإنما هو من التعزير متروك للامام أن يقتله، أو يعاقبه عقوبة دون القتل، فهذا كذلك صريح النص فيه أنه يجوز للامام أن يبلغ بعقوبته حد القتل، وهكذا.. وعليه فإنّه يجوز للخليفة أن يبلغ في التعزير حد القتل.

2 - الجلد : وهو الضرب بالسوط وما يشبهه، وقد جاءت عقوبة الضرب بالقرآن، قال تعالى : ((واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن)) وجاءت عقوبة الجلد بالقرآن قال تعالى : ((الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة)) وجاء الجلد بالسوط وبغيره، عن زيد بن أسلم : «أن رجلاً اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدعا رسول الله فاتي بسوط مكسور، فقال : فوق هذا، فأُتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته ( أي طرفه ) فقال : بين هذين، فأُتي بسوط قد لأنّ ورُكِبَ به ( أي ضرب به حتى لأنّ ) فأمر به فجلد». فهذا دليل على العقوبة بالسوط. وروى أحمد عن أبي أمامة بن سهل عن سعيد بن سعد بن عبادة قال : «كان بين أبياتنا رويجل ضعيف مخدج، فلم يُرَع الحي إلاّ وهو على أمة من إمائهم يخبث بها، فذكر ذلك سعد بن عبادة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان ذلك الرجل مسلماً فقال : اضربوه حدّه، قالوا يا رسول الله انه أضعف مما تحسب، لو ضربناه مائة قتلناه، فقال خذوا له عِثْكالاً فيه مائة شِمْراخ، ثمّ اضربوه به ضربه واحدة، قال : ففعلوا». فهذا دليل على العقوبة بغير السوط، والعُثْكول العنقود من النخل يكون فيه اغصان كثيرة، وكل واحد من هذه الأغصان يسمى شِمْراخاً، وعلى هذا فإن الضرب بغير السوط والجلد بالسوط عقوبة من العقوبات المشروعة، فيجوز للامام أن يعاقب بالضرب بالقضيب وبالعصا، وأن يعاقب بالجلد بالسوط.

غير أن التعزير بالضرب والجلد لا يجوز أن يزيد عن عشر ضربات، أو عشر جلدات، وقد جاء ذلك صريحاً في نصوص الحديث، فقد روى البخاري عن عبد الرحمن بن جابر عمن سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : «لا عقوبة في عشر ضربات إلاّ في حد من حدود الله» وروى البخاري عن أبي بردة رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : «لا يجلد فوق عشر جلدات إلاّ في حد من حدود الله» وفي رواية للبخاري قال : سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : «لا تجلدوا فوق عشرة أسواط إلاّ في حد من حدود الله». وأخرج أحمد عن أبي بردة بن نيار أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : «لا يجلد فوق عشرة أسواط إلاّ في حد من حدود الله» فهذا يدل على أن الضرب فوق عشر ضربات، والجلد فوق عشر جلدات لا يجوز أن يزيد على عشرة أسواط أو عشر ضربات، كما هو صريح الحديث، وليس الخليفة أو القاضي حراً فيها، بل هو مقيد بما ورد في نص الحديث. ويؤيد ذلك ما رواه الشالنجي باسناده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : «من بلغ حدّاً في غير حدّ فهو من المعتدين» فإنّه يحمل على نوع من أنواع الحدّ وهو الجلد، لأنّه هو الذي يتصور فيه أقل من نهاية الحدّ ولا يتصور في القتل ولا القطع، فيكون هذا الحديث مؤيداً لحديث عشرة أسواط. فالرسول نهى عن أن تبلغ العقوبة في التعزير مقدار الحد، وهذا لا يتصور إلاّ في الجلد، ولكنه غير محدد بعدد معين، وعين ذلك بقوله : «فوق عشرة أسواط» فيكون حديث : «من بلغ حداً» مطلقاً شائعاً في أي عدد دون الحدّ، وحديث : «فوق عشرة أسواط» مقيّداً بعدد مخصوص، فيحمل المطلق على المقيد ويجمع بين الحديثين، ويخصص حديث، «من بلغ حدّاً» بحدّ الجلد لأنّه هو الذي يتصور فيه معنى الحديث. وعليه فإنّه لا يجوز للامام أن يزيد عقوبة الجلد والضرب في التعزير على عشرة أسواط أو عشر ضربات.

3 - الحبس : الحبس الشرعي هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه، سواء أكان ذلك في بلد، أم في بيت، أم في مسجد، أم في سجن معد للعقوبة أم غير ذلك، والدليل على أن الحبس عقوبة من عقوبات الشرع ما روي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده : «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حبس رجلاً في تهمة ثمّ خلى عنه» وعن أبي هريرة : «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حبس في تهمة يوماً وليلة». وكان الحبس على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيت، أو في مسجد، وكذلك الحال كانت على أيام أبي بكر، فلم يكن هناك حبس معد للخصوم، فلما كانت أيام عمر اشترى داراً لصفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم، وجعلها حبساً، وقد حبس عمر الحطيئة على الهجو، وحبس صبيغاً على سؤاله عن الذاريات والمرسلات والنازعات وشبههن، وروي عن عثمان بن عفان أنه سجن ضابئ بن الحارس، وكان من لصوص بني تميم وفتّاكهم حتى مات في السجن، وروي عن علي بن أبي طالب أنه بنى سجناً من قصب وسماه نافعاً، فنقبته اللصوص، ثمّ بنى سجناً من مدر وسماه مخيساً.

والسجن عقوبة من العقوبات كالجلد والقطع، فلا بد أن يكون مؤلماً للمسجون ألماً موجعاً، وأن يكون عقوبة تزجر، ولهذا فإنّه من الخطأ أن يقال يجب أن نجعل السجون مدارس للتهذيب، فالمدرسة غير السجن، المدرسة للتعليم والتهذيب، ولكن السجن لايقاع العقوبة بالمجرم، فلا بد أن يكون على حال تكون عقاباً زاجراً وأن يكون بناؤه وغرفه وممراته على غير بناء وغرف وممرات المدارس والمنازل والفنادق وما أشبه ذلك، فيكون على شكل يثير الكمد والحزن، وأن تكون غرفه شبه مظلمة بأن تكون انارتها نهاراً أو ليلاً وأن لا يسمح فيه بفراش وأثاث، بل يجعل للمسجون وطاء خشن من ليف ونحوه، وغطاء خشن من خرق أو خيش ونحو ذلك. وأن يكون طعامه خشناً وغير كثير، ولكنه لا بد أن يكون كافياً لتغذيته وبقائه متمتعاً بالعافية، ولا يمكّن أحد من الدخول عليه إلاّ أقاربه وجيرانه، ولا يمكثون عنده كثيراً، إلاّ أنه يجوز أن يسمح لزوجته أن تبيت عنده إذا رأى مدير السجن أن حال المسجون تقتضي ذلك، أو أن أخلاق المسجون وسلوكه في السجن حسنة، ويمنع من الخروج من السجن إلا لحاجة يقدرها مدير السجن، ولا يضرب ولا يغل ولا يقيد ولا يهان إلاّ إذا كان قرار القاضي قد نص على ذلك، ومن أظهر التعنت في السجن وضع في غرفة ضيقة منفرداً ( حاشرة ) وأقفل عليه الباب وترك له ما يقضي به حاجته، ويلقى إليه الماء والطعام من ثقبة الباب، ولكن نقل المحبوس إلى هذه الحاشرة لا يكون برأي مدير السجن، أو السجان، بل لا بد أن يكون بقرار من القاضي، لأنّها عقوبة تزيد عن العقوبة المحكوم بها، فتحتاج إلى قرار القاضي، وإذا احتاج الآمر لأنّ يشدد عليه الحبس، أو يخفف لا بد أن يرفع الأمر إلى القاضي، وهو الذي يعطي قراره حسب ما يراه، ولا يسجن المجرم إلاّ في بلده، لأنّ سجنه في غير بلده يعتبر تغريباً فيحتاج إلى قرار من القاضي، غير قرار سجنه، وهو عقوبة ثانية.

وتكون السجون أنواعاً حسب الجرائم المرتكبة، ويعين نوع السجن بقرار القاضي. ولا توجد جرائم سياسية وغير سياسية، ولا تمييز للصحفيين أو المحامين أو ما شاكلهم على غيرهم، بل ينظر لكل فعل قبيح بأنه جريمة. وصغر الجريمة وكبرها راجع لتقدير الإمام، لأنّه هو الذي يقدرها، فمن قدح بشخص أو ذمه يعاقب على ذلك، بغض النظر عن كونه صحفياً أو غير صحفي، ومن طعن بالحكم في غير أمر حق يعاقب على ذلك، بغض النظر عن كونه سياسياً أو غير سياسي، ولكن تقدير نوع العقوبة يجوز للقاضي أن يفاضل فيه بين الأشخاص، فيعاقب شخصاً بالسجن سنة، ويعاقب آخر من نفس الجريمة بالسجن أسبوعاً أو يعاقب شخصاً بوضعه في السجن الشديد القسوة، ويعاقب آخر بوضعه في سجن أخف، لما لديه من معلومات عنهما من كونه معروفاً بأنه مجرم، أو معروفاً بأنه من الأتقياء، وأن هذه هفوة اوقعه بها الشيطان، أو ما شاكل ذلك.

والمسجون إما أن يكون محكوماً، وإما أن يكون موقوفاً، فإن كان محكوماً فلا كلام فيه، وأما إن كان موقوفاً فلا بد أن يوضع في أخف السجون، لأنّه مسجون بتهمة لا بجرم، ولا بد أن تحدد مدّة توقيفه بأقصر مدّة ممكنة، وإن لزم تجديد توقيفه يحتاج إلى قرار من القاضي، وإلى سبب يقنع به القاضي، وإن لم يصدر قرار بتجديد توقيفه يخلي سبيله عند انتهاء مدّة التوقيف من غير حاجة إلى أمر إفراج، وإذا نُقِل القاضي أو عُزِل أو عُيِّن بدله آخر وجب على القاضي الجديد أن يبدأ عمله بالنظر في حال الموقوفين، فمن تثبت عليه التهمة حكم عليه، ومن برأه أُخلي سبيله فوراً، ولا يحبس أي انسان ولا يوقف إلاّ بقرار من القاضي.

وليس لعقوبة السجن حد حدده الشرع لا يجوز أن يتجاوزه أحد، كما هي الحال في الجلد، إذ لم يرد من الشرع نص على حدّ معين، ولا مدّة معينة، فترك تقديرها للخليفة، إلاّ أنه لما كانت العقوبات زواجر فإنّه يراعى في تقدير مدّة الحبس للجريمة أن تكون زاجرة للمذنب وغيره. فمن وجب عليه التعزير يعزر بما يردعه، ولا يوجد حدّ أعلى للسجن مطلقاً. فقد روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم حكم بالسجن، ولم يُروَ عنه أنه التزم مدّة معينة، أو عيَّن مدّة معينة، فيبقى الحكم في شأن السجن مطلقاً لأنّه ورد مطلقاً. وأما ما يقوله بعض الفقهاء من أن الحد الأقصى للسجن سنة، وأنه لا يجوز أن يزيد على السنة، قياساً على التغريب فإنّه قول خاطيء، لأنّ الحبس لا يقاس على النفي، لاختلاف واقع كل منهما عن الآخر، ولا توجد عِلّة جامعة لهما تصلح للقياس، ولا يقال إن تعريف الحبس ينطبق على النفي، لأنّ الحبس هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه، وهذا ينطبق على النفي، لأنّه كذلك تعويق للشخص، ومنعه من التصرف بنفسه فيكون فرداً من أفراده، لا يقال ذلك لأنّ النفي ليس منعاً للشخص من التصرف بنفسه مطلقاً، بل منعه من التصرف بنفسه في غير المكان المعين، فالمنفي لا يحشر في مكان معين بل يحشر في بلد معين أو ولاية معينة، فهو على خلاف السجن، ثمّ إن النفي يزيد من ناحية ثانية على السجن إذ هو تغريب للشخص عن وطنه، أو المكان الذي هو فيه إلى مكان آخر، فهو تغريب فلا ينطبق على تعريف الحبس، ولذلك لا تقدر مدّة الحبس بسنة، بل يجوز للخليفة أن يعين للجريمة المدة التي يراها من السجن رادعة للمذنب وغيره، ويجوز للقاضي أن يحكم من هذه المدة التي عينها الخليفة المدة التي يراها رادعة للمذنب.

وأما ما ورد من أن المدين الموسر يحبس في المال القليل نصف شهر، وفي الكثير شهرين أو أربعة، تبعاً لقدر المال المحبوس فيه، فذلك ليس بتقدير حتمي، لأنّه حصل في ظروف معينة وعلى أشخاص معينين، فلا يصح أن يؤخذ قاعدة، ولا أن يطبق على وقائع أخرى. وعليه يطلق أمر تقدير أعلى مدّة يحكم فيها بالحبس، ويجوز للخليفة أن يجعل للجريمة المعنية أعلى مدّة وأقل مدّة، ويجوز أن يحدد أعلى مدّة فقط، إذا تبنى في التعزير تقديراً معيناً. وإن لم يتبن تقديراً معيناً كان الأمر للقاضي، يعين المدة حين ينطق بالحكم.

ولا يجب على الخليفة أن يحدد مدّة السجن لكل جريمة، لأنّ هذا من قبيل التبني، والتبني جائز للخليفة، وليس بواجب عليه، ولكن القاضي يجب أن يحدد المدة التي يحكم بها بالسجن على شخص معين تحديداً واضحاً بأجل واحد، بحيث تكون معلومة لا مجهولة، وبحيث يكون الحكم مبتوتاً لا متردداً. فيحددها بمدة معينة مثل كذا سنة أو كذا شهر، أو إلى حصول أمر معروف، كانتهاء رمضان أو إلى يوم عيد الفطر، أو ما شاكل ذلك. وهذا التحديد للمدة التي يحكم فيها على المذنب بالحبس واجب، حتى تكون العقوبة التي أوقعها القاضي عقوبة معلومة، لا عقوبة مجهولة، وذلك لأنّ شرط أن يكون العمل معلوماً ثابت في الشرع بالعقود اللازمة والأعمال اللازمة، ففي العقود اللازمة يشترط في البيع والاجارة أن تكون معلومة، وفي الأعمال اللازمة يشترط في الصلاة والنذر أن تكون معلومة. وإيقاع العقوبة من القاضي عمل من الأعمال، فلا بد أن يكون معلوماً. على أن الحكم بعقوبة السجن حكم قاض، وحكم القاضي لا بد أن يكون معلوماً، ولا يكون معلوماً إذا كانت العقوبة التي اوقعها مجهولة، ولذلك لا بد من ذكر المدة التي يحكم بها بالحبس، وتحديدها بمدة معينة، سواء أكان الحكم بجرم أم تهمة.

وعلى هذا فإنّه لا يجوز أن يحبس في التهمة إلى أن يستطيع إيجاد البيِّنة، لأنّ ذلك غير معروف، بل يجب أن تحدد له مدّة ليجمع خلالها البينات. وهذه المدة تقدر بقدر ما يحتاج الحصول على البينة فيما هو ظاهر ومعلوم، لا فيما هو محتمل وموهوم، فإذا قال حتى أحضر شاهدي، أو شهودي من بلدة كذا، أو من المكان الفلاني، قدرت المدة التي يحتاجها، وعينت في أمر الحبس، على أن لا تكون بينته خارج سلطان الدولة، لأنّه إن كانت خارج سلطان الدولة كان احضارها غير مقطوع به فيرجع الأمر للقاضي، فإن رأى إن هناك امكانية باحضارها عين المدة التي يراها هو، وإن رأى أن هناك شكاً في ذلك عَيَّن أقل مدّة ممكنة يمكن فيها إحضار البينة عادة.

وكذلك لا يجوز أن يحكم على أحد بالحبس حتى التوبة، أو بالحبس حتى الموت، لأنّه حكم مجهول فلا يصح، إذ هو حكم بعقوبة مجهولة، فلا يعلم متى يتوب، ولا يعلم متى يموت. ولا يقال أن التحديد بالموت معلوم، وليس بمجهول، إذ هو أمر محقق لا بد من حصوله فهو تحديد معلوم، لا يقال ذلك لأنّ المدة التي يقضيها المذنب في هذا الحكم غير معلومة، والحكم ليس بالموت وإنما بمدة انتهاؤها يكون بالموت، فتكون المدة غير معلومة، وبالتالي يكون الحكم بها غير معلوم. ولا يقال ان الله حدد الحبس بالموت في قوله تعالى : ((فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت)) لأنّ هذه الآية منسوخة بآية النور : ((الزانية والزاني فاجلدوا)) الآية، ولذلك لا تصلح دليلاً، وأيضاً فإن منع الزوج زوجته من أن تخرج من بيته لا يعتبر حبساً شرعاً، فله أن يمنعها من الخروج من بيته في أي وقت يشاء، ولا يعتبر ذلك حبساً لها، إذ لو اعتبر حبساً لعوقب على ذلك، لأنّ إيقاع العقوبة بالناس خاص بالحاكم، فلا يجوز لغيره أن يعاقب، ولأن الله حين جعل للزوج تأديب زوجته حدد أنواع التأديب، وهي الوعظ والهجران والضرب غير المبرح ((فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن)) والحبس ليس واحداً منها، فلا يجوز له أن يحبسها، وعلى ذلك لا دلالة في الآية على جواز العقوبة بالحبس حتى الموت. وأما ما روي من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : «اقتلوا القاتل واصبروا الصابر» فإن معناه من قتل يُقتل، ومن قَتَل شخصاً بحبسه حبساً يميته من أجل أن يميته فإنّه يُقتَل بالصفة التي قَتَل بها، أي بحبسه حبساً يميته من أجل أن يميته، لا أن يُحبس حتى الموت، فهو نوع من قتل القاتل، وهو جناية وليس تعزيراً، فلا دلالة فيه على جواز الحبس حتى الموت، وعلى ذلك فالحكم بالسجن المؤبد لا يجوز شرعاً، بل لا بد من تحديد المدة التي يحكم بها بالسجن على شخص معين.

والحبس هو اعتقال، وليس تشغيلاً، فالتشغيل شيء آخر غير الحبس، ولذلك فإنّه إذا حكم الشخص بالحبس لا يجوز أن يشغل، لأنّ كلمة الحبس لا تشمل التشغيل، ولكن هل يجوز الحكم بالحبس والتشغيل، أو يقتصر على الحكم بالحبس ؟ والجواب على ذلك أنه لم يرد نص شرعي بجعل العقوبة تشغيلاً، لا أشغالاً شاقة ولا غير شاقة، ولكن ذكر الفقهاء أن المدين الموسر إذا حكم بالحبس فإنّه يُشغَّل بأعمال بأجر لسداد دينه، ولكن هذا القول حكم عقلي، وليس حكماً شرعياً، فلا قيمة له، وبما أن نوع العقوبة التي يحكم بها القاضي مقيد بما ورد به الشرع، ولم ترد عقوبة بالأشغال الشاقة، فلذلك لا يعاقب بها، وإنما يقتصر على الحبس بمعنى الاعتقال.

4 - النفي : هو التغريب أو الإبعاد، وقد جاءت عقوبة النفي في القرآن، قال تعالى : ((أو يُنفوا من الأرض)) وجاءت عقوبة النفي في الحديث، اخرج أحمد عن أبي هريرة : «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى فيمن يزني ولم يحصن بنفي عام وإقامة الحدّ عليه» وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : «لعن النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء وقال : أخرجوهم، وأخرج فلاناً، وأخرج عمر فلاناً»، فهذه الأدلة تثبت أن النفي نوع من العقوبات التي ورد بها الشرع، كما أنها تثبت أنه قد جرت العقوبة فيها بالتعزير، وقد سار على ذلك الصحابة رضوان الله عليهم، فنفى عمر صبيغاً للبصرة بعد جلده، ونفى عمر كذلك نصر بن حجاج خشية أن تفتن به النساء، ونفى عثمان أبا ذر الغفاري. والنفي يكون تغريباً، لا توطيناً فلا يصح أن تطول مدته، ولم يرد نص بتحديد حد أقصى لعقوبة النفي، ولكن الشرع حين أوقع عقوبة النفي في الزاني غير المحصن جعلها سنة، وهي وإن لم تكن حداً لازماً بل يجوز للامام أن يضيف النفي إلى الجلد، ولكن الشرع لم يجعلها أكثر من سنة، وهذا وإن كان لا يدل على تحديد حد أقصى للنفي، ولكن يستأنس به أن تكون سنة، غير أنه لا يوجد ما يمنع زيادتها عن ذلك، ولكن على شرط أن لا يكون مدّة تعتبر الإقامة فيها توطيناً، لأنّه يذهب عنها معنى النفي، وهو التغريب.

والنفي إنما يكون داخل حدود الدولة الإسلامية، ولا يصح النفي إلى خارج حدودها، لأنّه إخراج من دار الإسلام إلى دار الكفر. ويستحسن أن تتخذ الدولة أمكنة معينة منافي. قالوا : أبو الزناد كان منفى النّاس إلى باضع من أرض الحبشة وذلك أقصى تهامة اليمن، لأنّ النفي عقوبة، والمناسب لها أن تكون عقوبة التغريب موجعة، بحيث يحصل فيها الزجر، وروي عن الحسن والزهري في نفي قُطَّاع الطرق أن نفيهم هو تشريدهم عن الامصار والبلدان، فلا يتركون يأوون بلداً، يعني أنه لا يجعلهم يستقرون في بلد فينقلهم من بلد إلى بلد، ولكن هذا الرأي يجعلهم كالمسافرين، والاقرب للنفي الذي هو عقوبة أن تكون هناك منافي موحشة بحيث يؤلم النفي لها حتى تكون عقوبة تزجر.

5 - الهجر : وهو أن يأمر الحاكم النّاس أن لا يكلموا الشخص مدّة معينة. ودليله ما حصل مع الثلاثة الذين خلفوا عندما منع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين من كلامهم، فإن ذلك كان عقوبة لهم، وقد فعل عمر مثل ذلك فإنّه لما عاقب صبيغاً بجلده ونفيه أمر النّاس أن لا يكلموه، غير أن هذه العقوبة تستعمل إذا كانت تزجر، أي مع النّاس الذين لديهم احساس، ويقدرون معنى هجر النّاس لهم، أما الذين ضعف لديهم الاحساس فإن مثل هذه العقوبة لا تؤلمهم، ولذلك لا تستعمل معهم.

6 - الصلب : وهو يحصل في حالة واحدة إذا كانت عقوبة المجرم القتل فيجوز أن يحكم عليه بالصلب أيضاً، لقوله تعالى : ((أَن يُقتَّلوا أو يُصَلَّبوا)) وأو بمعنى الواو، أي أن يقتلوا ويصلبوا، أو يقتلوا من غير تصليب، ولكن أن يكون الصلب عقوبة وحده لا يصح، لأنّه تعذيب، وقد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن تعذيب الحيوان، فالنهي عن تعذيب الإنسان من باب أولى. وأما قولهم إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلب الحيّ تعزيراً فانهم لم يوردوا سنده، وآية الصلب جعلته بعد القتل، والحكم الشرعي أن يجمع مع القتل، أو أن يكون القتل بغيره، وفي عقوبة قطاع الطرق لم يقل أحد بالصلب وحده. لذلك فإن الصلب للأحياء لا يكون عقوبة من العقوبات، وإنما الصلب لمن يَقْتُل فيحكم عليه بالقتل والصلب، فالصلب يصاحب القتل، على هذا الوجه تكون عقوبة الصلب.

7 - الغرامة : وهي الحكم على المذنب بدفع مال عقوبة على ذنبه، وهي ثابتة بالسنة، فقد روى النسائي في حديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ومنه : «قال : يا رسول الله والثمار وما أُخذ منها في أكمامها ؟ قال : من أخذ منه بفيه ولم يتخذ خُبْنةً فليس عليه شيء، ومن احتمل ففيه غرامة مثليه وجلدات نكال» وزاد النسائي في آخر الحديث : «وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثليه وجلدات نكال» وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : «وكاتم الضالة عليه غرامتها ومثلها معها» وكذلك تعزير مانع الزكاة بأخذ شطر من ماله. فهذا كله يدل على أن الرسول أمر بعقوبة الغرامة في التعزير، وما لم يرد حد معين لها، فتترك لتقدير الخليفة، أو للقاضي إذا لم يتبن الخليفة فيها مقداراً معيناً. وإذا عجز المذنب عن دفع الغرامة هل يحبس بمقدارها أم يعفى منها ؟ والجواب على ذلك هو أنه إذا حكم بعقوبة معينة فلا يصح أن يعاقب عقوبة غيرها، لأنّ حكم القاضي يجب أن ينفذ كما نطق به، ولذلك لا يحبس عوضاً عن الغرامة، وكذلك لا يعفى منها، لأنّ العفو الغاء لحكم القاضي، وإذا حكم القاضي بشيء فلا يصح الغاء حكمه، والأولى في مثل هذه الحالة أي حالة عجز المذنب عن دفع الغرامة أن تؤخذ من ظاهر ماله إن وجد، وإن لم يوجد ينتظر عليه حتى يوجد معه مال فتحصل من قبل الدولة.

8 - إتلاف المال : وذلك باهلاك المال اهلاكاً تاماً بحيث لا ينتفع به، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالاصنام المعلقة في الكعبة، فانه أمر بها فحطمت وأُتلفت، وما فعله المسلمون حين نزلت آية تحريم الخمر، فقد أراقوا ما كان لديهم من جرار الخمر وكسروا جرارها وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بإراقة الخمر وكسر الدنان، وقد سار الصحابة على ذلك، فقد روي أن عمر أراق اللبن المغشوش.

9 - التغيير في عين المال : وذلك بتغيير شكله أو صفته، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم «أنه نهى عن كسر العملة الجائزة بين المسلمين كالدراهم والدنانير إلاّ إذا كان بها بأس، فإذا كانت كذلك كسرت» أي نهى الرسول عن كسر قطع النقد الفضية أو الذهبية - إلاّ إذا كانت مغشوشة فانها حينئذ يحكم بكسرها وتفتيتها عقوبة ويعاقب الغاش. وقطع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم رأس التمثال فصار كالشجرة، وهكذا إذا صار المال على شكل محرم فإنّه يغير هذا المال على الشكل الذي تزول به الحرمة، فضلاً عن معاقبة من فعله على الوجه الذي يراه الحاكم.

10 - التهديد الصادق : وذلك أن يهدد المذنب بإيقاع العقوبة عليه إذا فعل كذا، والدليل على ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : «رحم الله امرءاً علق سوطه بحيث يراه أهله».

11 - الوعظ : وذلك أن يعظ القاضي المذنب بتخويفه من عذاب الله، والدليل على ذلك قوله تعالى : ((واللاتي تخافون نشوزهن)).

12 - الحرمان : وذلك أن يحكم على المذنب بالحرمان من بعض الحقوق المالية التي يستحقها كحرمان النفقة للناشز، وكالحرمان من سَلَبِ القتيل، وكالحرمان من حصته في أموال الملكية العامة وهكذا.

13 - عقوبة التوبيخ : وهو اهانة المذنب بالقول. وقد ثبت التوبيخ بالسنة، فقد روى أبو ذر أنه سابَّ رجلاً فعيره بأمه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «يا أبا ذر أعيرته بأمه ؟ انك امرؤ فيك جاهلية „ وخاصم عبد عبد الرحمن بن عوف إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فغضب عبد الرحمن وسبَّ العبد بقوله يا ابن السوداء، فغضب النبي لذلك غضباً شديداً ورفع يده قائلاً : «ليس لابن بيضاء على ابن سوداء سلطان إلا بالحق» فخجل عبد الرحمن بن عوف واستخذى، ووضع خده على التراب ثمّ قال للعبد طأ عليه حتى ترضى. وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سب الرجلين اللذين خالفا نهيه حين نهى أن يشرب من البئر قبل وصوله إليها. فهذا كله يدل على أن التوبيخ والسب من العقوبات في التعزير، وقد سار على ذلك الصحابة رضوان الله عليهم، فقد روي عن عمر أنه وبخ عبادة بن الصامت بأن قال له : „ يا أحمق „ وعلى هذا يجوز للقاضي أن يوبخ المذنب، ولا يكون ذلك شتماً من القاضي، وإنما يكون عقوبة يوقعها القاضي على المذنب، وليس لعقوبة التوبيخ لفظ معين، وإنما كل لفظ يعتبر من قبيل التوبيخ يصح استعماله من قبل القاضي والحاكم إلاّ الألفاظ التي تعتبر من قبيل القذف فلا يجوز استعمالها، لورود النهي عنها عامّاً فيشمل الحاكم وغيره.

14 - عقوبة التشهير : التشهير بمن توقع عليه العقوبة لرفع ثقة النّاس منه، وهو اعلام النّاس بجرم الجاني وتحذيرهم منه، وفضيحته على رؤوس الاشهاد. والأصل في عقوبة التشهير قوله تعالى : ((وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين)) فإن المقصود به التشهير بهما. فإن في حضور عقابهما بالجلد تقريعاً وتوبيخاً وفضيحة، وقد ورد في السنة ما يدل على عقوبة التشهير، فقد روى البخاري عن أبي حميد الساعدي قال : «استعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً من بني أسد يقال له ابن الاتبيَّه على صدقة، فلما قدِم قال : هذا لكم، وهذا أهدي إليّ. فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر، قال سفيان : فصعد المنبر فحمد الله واثنى عليه ثمّ قال : ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول : هذا لك وهذا لي، فهلاّ جلس في بيت أبيه وامه فينظر هل يُهدى له أم لا، والذي نفس محمد بيده لا يأتي بشيء إلاّ جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثمّ رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه : ألا هل بلغت. ثلاثاً». ووجه الاستدلال بهذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أخبر أن من يأخذ من الأموال العامة، ومن يأخذ هدية لأنّه والٍ أو عاملٌ سيعاقبه الله يوم القيامة بفضيحته حيث يأتي يحمل ما اخذه من مال، إن كان بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، وهذا يعني فضيحة الولاة على رؤوس الاشهاد في ذلك الموقف العظيم. فيكون التشهير مما يعذب به الله، ولم يرد نص أنه خاص بعذاب الله كما ورد في العذاب بالنار، فيدل على أنه يجوز للحاكم أن يعاقب المذنب بالتشهير به. فالحديث دليل على جواز التعزير بالتشهير. وقد سار الصحابة على ذلك فعزروا بالتشهير. فقد نقل عن عمر بن الخطاب أنه كان يشهر بشاهد الزور بأن يطاف به، وقد نقل عن مشهوري القضاة انهم كانوا يحكمون بالتشهير، فقد كان القاضي شريح يحكم بالتشهير به وشريح هذا كان قاضياً على عهد عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وهو من مشاهير القضاة.

 

هذه هي أنواع عقوبات التعزير التي ورد من الشرع دليل على جواز أن يعاقب بها الحاكم، وما عداها من العقوبات لا يجوز للحاكم أن يوقع عقوبة بها، ولم يرد نص من الشارع في النهي عنها، وذلك لأنّ العقوبة فعل فلا بد من دليل على جوازه. ولا يقال لا بد من دليل على منعه من العقوبة بعقوبات معينة، لا يقال ذلك لأنّ الأصل هو عدم العقوبة، فايقاع العقوبة بعقوبة معينة هو الذي يحتاج إلى دليل. أما أن الاصل عدم العقوبة فذلك أن الدليل العام قام على كرامة الإنسان، وعدم ايقاع الأذى به، فايقاع عقوبة معينة عليه تحتاج إلى دليل يجيز ايقاعها، وما لم يقم الدليل على جواز عقوبة بعينها فلا يجوز ايقاعها.

ولا يقال إن التعزير قد جعل للحاكم مطلقاً دون قيد، فله أن يعزر بالعقوبة التي يراها، لا يقال ذلك، لأنّ الذي جعل للحاكم هو تقدير مقدار العقوبة، ولم يجعل له غير ذلك، وقد تدخل الشارع في العقوبات فعين أنواعها، أي عين أنواع العقوبات التي يعاقب بها، فصار القاضي مقيداً بهذه العقوبات، أي أن تعيين الشارع أنواع العقوبات قد قيد القاضي بها، فلا يحل له أن يعاقب بغيرها، وله أن يختار منها ما يراه زاجراً. وعليه فإنّه يجب على الحاكم حين يوقع عقوبة التعزير أن يتقيد بالأحكام الشرعية، فلا يعاقب إلاّ بالعقوبات التي جاء الشارع بها. ومن هنا لا يجوز للحاكم أن يوقع عقوبة المصادرة، لأنّه لم يرد نص شرعي بجواز العقوبة بها، ولا يقال أن المصادرة كالغرامة، لأنّها عقوبة مالية، إذ هي من جنس الغرامة، لا يقال ذلك لأنّ المصادرة غير الغرامة، إذ الغرامة دفع مال جزاء على ذنب، وأما المصادرة فهي أخذ عين المال الذي جرى بسببه الذنب، فهذه غير تلك، وأيضاً فإن النص الشرعي لم يكن نصاً على عقوبات مالية حتى يقال هذه عقوبة مالية تدخل تحت نص الشرع، وإنما نص على الغرامة، وعلى تغيير المال، وعلى إتلاف المال، ولم ينص على المصادرة فيوقف عند حدود النص، ولا يقاس عليه لعدم وجود عِلّة صالحة للقياس. على أن المصادرة نزع ملكية المال جبراً عن مالكه، وتمليكه للدولة بدون سبب من أسباب التملك الشرعية، وهذا لا يجوز.