القرآن الكريم لا ريب فيه

لقد ثبت بالدليل اليقيني الجازم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين التحق بالرفيق الأعلى كان القرآن كله مكتوباً في الرقاع والأكتاف والعسب واللخاف، وكان كله محفوظاً في صدور الصحابة رضوان الله عليهم. فقد كانت تنـزل الآية أو الآيات فيأمر حالاً بكتابتها بين يديه، وكان لا يمنع المسلمين من كتابة القرآن غير ما كان يمليه على كُـتّاب الوحي. أخرج مسلم من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه». وكان ما يكتبه كتاب الوحي مجموعاً في صحف. قال تعالى: ( رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2)) أي يقرأ قراطيس مطهرة من الباطل فيها مكتوبات مسـتقيمة قاطعة بالحق والعدل، وقال الله تعـالى: ( كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)) أي أن هذه التذكرة مثبتة في صحف مكرمة عند الله مرفوعة المقدار منـزهة عن أيدي الشياطين، قد كتبت بأيدي كتبة أتقياء. وقد ترك صلى الله عليه وآله وسلم جميع ما بين دفتي المصحف مكتوباً قد كُتِبَ بين يديه.

عن عبد العزيز بن رفيع قال: «دخلت أنا وشداد بن معقل على ابن عباس رضي الله عنهما فقال له شداد بن معقل: أَترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم من شيء؟ قال: ما ترك إلا ما بين الدفتين. قال: ودخلت على محمد بن الحنفية فسألنا فقال ما ترك إلا ما بين الدفتين».

فالإجماع منعقد على أن جميع آيات القرآن في سورها قد كتبت بين يدي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حين كان ينـزل بها الوحي مباشرة، وأنها كتبت في صحف. وتوفي الرسول الأعظم وهو قرير العين على القرآن معجزته الكبرى التي قامت حجة على العرب وعلى العالم. ولم يكن يخشى على آيات القرآن الضياع لأن الله حفظ القرآن بنص صريح: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)) ولأنه كان قد ثبّت هذه الآيات كتابة بين يديه وحفظاً في صدور الصحابة وأذن للمسلمين أن يكتبوا القرآن.

ولذلك لم يشعر الصحابة بعد وفاة الرسول أنهم في حاجة لجمع القرآن في كتاب واحد أو في حاجة إلى كتابته. حتى كثر القتل في الحفّاظ في حروب الردة، فخشي عمر من ذلك على ضياع بعض الصحف وموت القراء، فتضيع بعض الآيات، ففكر في جمع الصحف المكتوبة، وعرض الفكرة على أبي بكر وحصل جمع القرآن. عن عبيد بن السباق أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده. قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني وقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال عمر هذا والله خير. فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتتبع القرآن فاجمعه. فوا لله لو كانوا كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال: هو والله خير. فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري. ولم أجدها مع أحد غيره: ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) حتى خاتمة براءة. فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهما. ولم يكن جمع زيد للقرآن كتابة له من الحفاظ، وإنما كان جمعه له جمعاً لما كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان لا يضع صحيفة مع صحيفة أخرى ليجمعها إلا بعد أن يشهد لهذه الصحيفة التي تُعرض عليه شاهدان يشهدان أن هذه الصحيفة كتبت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . وكان فوق ذلك لا يأخذ الصحيفة إلا إذا توفر فيها أمران، أحدهما أن توجد مكتوبة مع أحد من الصحابة، والثاني أن تكون محفوظة من قبل أحد الصحابة، فإذا طابق المكتوب والمحفوظ للصحيفة التي يراد جمعها أخذها وإلا فلا. ولذلك توقف عن أخذ آخر سورة براءة حتى وجدها مكتوبة عند أبي خزيمة مع أن زيداً كان يستحضرها هو ومن ذكر معه. روي من طريق يحيي بن عبد الرحمن بن حاطب قال: "قام عمر فقال من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً من القرآن فليأتِ به، وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب، قال وكان لا يقبل من أحد شيئاً حتى يشهد شاهدان. هذا يدل على أن زيداً كان لا يكتفي بمجرد وجدانه مكتوباً حتى يشهد من تلقاه سماعاً مع كون زيد كان يحفظه وكان يفعل ذلك مبالغة بالاحتياط".

الجمع جمع الصحف

فالجمع لم يكن إلا جمع الصحف التي كتبت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كتاب واحد بين دفتين، فقد كان القرآن مكتوباً في الصحف، لكن كانت مفرقة فجمعها أبو بكر في مكان واحد. وعلى ذلك لم يكن أمر أبي بكر في جمع القرآن أمراً بكتابته في مصحف واحد بل أمراً بجمع الصحف التي كتبت بين يدي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع بعضها في مكان واحد والتأكد من أنها هي بذاتها بتأييدها بشهادة شاهدين على أنها كتبت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأن تكون مكتوبة مع الصحابة ومحفوظة من قبلهم. وظلت هذه الصحف محفوظة عند أبي بكر حياته، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر أم المؤمنين حسب وصية عمر. ومن هذا يتبين أن جمع أبي بكر للقرآن إنما كان جمعاً للصحف التي كتبت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس جمعاً للقرآن. وأن الحفظ إنما كان لهذه الصحف أي للرقاع التي كتبت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس حفظاً للقرآن.. ولم يكن جمع الرقاع والمحافظة عليها إلا من قبيل الاحتياط والمبالغة في تحري الحفظ لعين ما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . أما القرآن نفسه فإنه كان محفوظاً في صدور الصحابة ومجموعاً في حفظهم، والاعتماد في الحفظ كان على جمهرتهم لأن الذين كانوا يحفظونه كلياً وجزئياً كثيرون.

نسخ الصحف

هذا بالنسبة لجمع أبي بكر، أما بالنسبة لجمع عثمان فإنه في السنة الثالثة أو الثانية من خلافة عثمان، أي في سنة خمس وعشرين للهجرة قدم حذيفة بن اليمان على عثمان في المدينة وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في قراءة القرآن. فإنه رأى أهل الشام يقرأون بقراءة أبيّ بن كعب فيأتون بما لم يسمع أهل العراق، ورأى أهل العراق يقرأون بقراءة عبد الله بن مسعود فيأتون بما لم يسمع أهل الشام، فيكفّر بعضهم بعضاً. وأن اثنين اختلفا في آية من سورة البقرة، قرأ هذا وأتموا الحج والعمرة لله، وقرأ هذا وأتموا الحج والعمرة للبيت فغضب حذيفة واحمرت عيناه، وروي عن حذيفة قال: يقول أهل الكوفة قراءة ابن مسعود، ويقول أهل البصرة قراءة أبي موسى، والله لئن قدمت على أمير المؤمنين لآمرنه أن يجعلها قراءة واحدة، فركب إلى عثمان. وقد حدَّث ابن شهاب أن أنس بن مالك حدّثه: "أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأُمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء ما من القـرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا. حتى إذا نسـخوا الصـحـف في المصـاحـف ردهـا عثمان إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صـحـيفة أو مصـحـف أن يحرق" وقد كان عدد النسـخ التي نسـخت سـبع نسـخ، فقد كتبت سـبعة مصـاحـف إلى مكة وإلى الشـام وإلى اليمن وإلى البحرين وإلى البصرة وإلى الكوفة وحبس بالمدينة واحد.

وعلى هذا لم يكن عمل عثمان جمعاً للقرآن وإنما نسخ ونقل لعين ما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما هو. فإنه لم يصنع شيئاً سوى نسخ سبع نسخ عن النسخة المحفوظة عند حفصة أم المؤمنين، وجمع الناس على هذا الخط وحده ومنع أي خط أو إملاء غيرها. واستقر الأمر على هذه النسخة خطاً وإملاءً، وهي عين الخط والإملاء الذي كتبت به الصحف التي كتبت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين نزل الوحي بها، وهي عينها النسخة التي كان جمعها أبو بكر. ثم أخذ المسلمون ينسخون عن هذه النسخ ليس غير، ولم يبق إلا مصحف عثمان برسمه. ولما وجدت المطابع صار يطبع المصحف عن هذه النسخة بنفس الخط والإملاء.

بين جمْع أبي بكر ونَسْخ عثمان رضي الله عنهما

والفرق بين جمع أبي بكر وبين جمع عثمان أن جمع أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حَمَلته، لأنه وإن كان مكتوباً في صحف ولكنه لم يكن مجموعاً في موضع واحد ككتاب واحد، فجمعه في صحائف. وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القرآن حين قرأوه بلغاتهم على اتساع اللغات فأدى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض، فخشي من تفاقم الأمر فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد. فالمصحف الذي بين أيدينا هو عينه الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو عينه الذي كان مكتوباً في الصحف التي كتبت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو عينه الذي جمعه أبو بكر حين جمع الصحف في مكان واحد، وهو عينه الذي نسخ عنه عثمان النسخ السبعة وأمر أن يحرق ما عداها، وهو عينه القرآن الكريم في ترتيب آياته بالنسبة لبعضها وترتيبها في سورها وفي رسمه وإملائه. وأما النسخة التي أملاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الوحي وجمعت صحفها وجرى النسخ عنها، فإنها ظلت محفوظة عند حفصة أم المؤمنين إلى أن كان مروان والياً على المدينة فمزقها، إذ لم يعد لها لزوم بعد أن انتشرت نسخ المصاحف في كل مكان. عن ابن شهاب قال أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر قال: (كان مروان يرسل إلى حفصة - يعني حين كان أمير المدينة من جهة معاوية - يسألها الصحف التي كتب منها القرآن فتأبى أن تعطيه، قال سالم فلما توفيت حفصة ورجعنا من دفنها أرسل مروان بالعزيمة إلى عبد الله بن عمر ليرسلن إليه تلك الصحف فأرسل بها إليه عبد الله بن عمر فأمر بها مروان فشـقـقـت، وقال إنما فعلت هذا لأني خشيت إن طال بالناس زمان أن يرتاب في شأن هذه الصحف مرتاب).