طباعة
المجموعة: فقه الاسلام

القرآن الكريم لا ريب فيهنزل القرآن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم مفرقاً في مدة ثلاث وعشرين سنة. وكان نزوله على أنحاء شتى، تارة بتتابع، وتارة بتراخ. وإنما نزل منجماً ولم ينـزل دفعة واحدة لحكمة ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا) أي كذلك أُنزل مفرّقاً لنقوي بتفريقه فؤادك حتى تعيه وتحفظه. وقال تعالى: (وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)) أي قرآناً جعلنا نزوله مفرقاً منجماً على مكث، أي على مهل وتؤدة وتثبت، نزلناه تنـزيلاً أي حسب الحوادث. فمن أجل تثبيت فؤاد الرسول، ومن أجل قراءته على الناس على مكث وتؤدة، ومن أجل أن ينـزل حسب الحوادث وجوابات السائلين، نزل منجماً مفرقاً في ثلاث وعشرين سنة.

ترتيب الآيات

وكان القرآن ينـزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيأمر بحفظه في الصدور، وكتابته في الرقاع، من جلد أو ورق أو كاغد، وفي الاكتاف والعسب واللخاف، أي على العظم العريض وعسب النخل والحجارة الرقيقة. وكان إذا نزلت الآيات، أمر بوضعها موضعها من السورة، فيقول ألحقوا هذه الآية في سورة كذا بعد آية كذا، فيضعونها موضعها من السورة. عن عثمان قال: «كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم تنـزل عليه الآيات فيقول ضعوها في السورة التي يذكر فيها كذا» رواه الترمذي وأبو داود، وهكذا حتى نزل القرآن كله والتحق الرسول بالرفيق الأعلى بعد أن كمل نزول القرآن. ولذلك كان ترتيب آيات كل سورة على ما هي عليه الآن في المصحف توقيفاً من النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن جبريل عن الله تعالى فهو ترتيب توقيفي من الله تعالى. وعلى ذلك نقلته الأُمة عن نبيها صلى الله عليه وآله وسلم ولا خلاف في ذلك مطلقاً. وهذا الترتيب للآيات في سورها على الشكل الذي نراه الآن، هو نفسه الذي أمر به رسول الله، وهو نفسه الذي كان مكتوباً بالرقاع والأكتاف والعسب واللخاف ومحفوظاً في الصدور. وعليه فإن ترتيب الآيات في سورها قطعي أنه توقيفي عن رسول الله، عن جبريل، عن الله تعالى.

ترتيب السور

وأما ترتيب السور بالنسبة لبعضها فإنه كان باجتهاد من الصحابة رضوان الله عليهم، فقد أخرج أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم من حديث ابن عباس قالوا: "قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال؟ فقال عثمان: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً ما تنـزل عليه السور ذات العدد، فإذا نزل عليه شيء - يعني منها - دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وبراءة من آخر القرآن وكانت قصتها شبيهة بها فظننت أنها منها. فقُبِض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبين لنا أنها منها". وعن سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال: «كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلم ختم السورة حتى ينـزل بسم الله الرحمن الرحيم» وفي رواية: «فإذا نزلت بسم الله الرحمن الرحيم علموا أن السورة قد انقضت». فهذا يدل على أن ترتيب الآيات في كل سورة كان توقيفياً. ولّما لم يفصح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمر براءة أضافها عثمان إلى الأنفال اجتهاداً منه رضي الله عنه. ونقل صاحب الإقناع أن البسملة لبراءة ثابتة في مصحف ابن مسعود، وروى أن الصحابة كانوا يحتفظون بمصاحف على ترتيب في السور مختلف مع عدم الاختلاف في ترتيب الآيات، فمصحف ابن مسعود على غير تأليف العثماني من حيث ترتيب السور، وكان أوله الفاتحة ثم البقرة، ثم النساء ثم آل عمران، بعكس العثماني فترتيبه الفاتحة ثم البقرة ثم آل عمران ثم النساء. ولم يكن أي منهما على ترتيب النـزول. ويقال أن مصحف علي كان على ترتيب النـزول أوله اقرأ ثم المدثر ثم ن والقلم ثم المزمل ثم تبت ثم التكوير ثم سبح، وهكذا إلى آخره المكي ثم المدني. وهذا كله يدل على أن ترتيب السور بالنسبة لبعضها كان باجتهاد من الصحابة.

ولذلك كان ترتيب السور في القراءة ليس بواجب في التلاوة ولا في الصلاة ولا في الدرس ولا في التعليم، بدليل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ في صلاته في الليل بسورة النساء قبل آل عمران، أخرجه مسلم عن حذيفة بن اليمان. وأمّا ما ورد من النهي عن قراءة القرآن منكوساً فإن المراد قراءة الآيات في السورة الواحدة منكوسة لا قراءة السور منكوسة.

عرض جبريل القرآن على الرسول

وقد كان جبريل يقرأ جميع ما نزل من القرآن على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مرة في كل سنة. وفي السنة التي توفي فيها رسول الله قرأ جبريل القرآن كله على الرسول مرتين. عن عائشة رضي الله عنها عن فاطمة عليها السلام: «أسَرَّ إليّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن جبريل يعارضني بالقرآن كل سنة وأنه عارضني العام مرتين ولا أراه حضر إلا أجلي» أخرجه البخاري، وعن أبي هريرة قال: «كان يعرض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن كل عام مرة فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه» أخرجه البخاري.

ترتيب الآيات وعدد آيات السور توقيفي

فعرض جبريل القرآن على الرسول كل عام مرة معناه عرض ترتيب آياته بالنسبة لبعضها، وترتيب آياته في سورها، لأن عرض الكتاب معناه عرض جمله وكلماته وترتيبه، وعرضه مرتين في العام الذي توفي فيه الرسول، معناه كذلك عرض ترتيب آياته بالنسبة لبعضها. وترتيب آياته في سورها، ويمكن أن يفهم كذلك من الحديث عرض ترتيب سوره بالنسبة لبعضها. إلا أنه وردت أحاديث صحيحة أخرى صريحة في ترتيب الآيات؛ فإنها تنص على ترتيب الآيات بالنسبة لبعضها وترتيب الآيات في سورها: «ضعوا هذه الآيات في سورة كذا بعد آية كذا»، «ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي ذكر فيها كذا وكذا». وكانت السورة تختم ويبدأ بسورة غيرها بتوقيف من الله بواسطة جبريل. عن ابن عباس قال: «كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلم ختم السورة حتى ينـزل بسم الله الرحمن الرحيم» وفي رواية: «فإذا أنزلت بسم الله الرحمن الرحيم علموا أن السورة قد انقضت» سنن البيهقي وأبي داود. فهذا كله يدل قطعاً على أن ترتيب الآيات في سورها وشكل السور بعدد آياتها ووضعها، كل ذلك توقيفي من الله تعالى. وعلى ذلك نقلته الأُمة عن نبيها صلى الله عليه وآله وسلم وثبت ذلك تواتراً. أما ترتيب السور بالنسبة لبعضها فإنه وإن كان يمكن أن يفهم من أحاديث عرض القرآن، ولكن يمكن أن يفهم غيره من حديث آخر. عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها إذ جاءها عراقي فقال: (أي الكفن خير؟ قالت: ويحك وما يضرك؟ قال: يا أم المؤمنين، أريني مصحفك. قالت: لِمَ؟ قال: لعليّ أؤلف القرآن عليه فإنه يقرأ غير مؤلف. قالت: وما يضرك أيه قرأت قبل؟ إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا لا ندع الخمر أبداً. ولو نزل لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبداً، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإني لجارية ألعب: ( بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)). وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده. قال: فأخرجت له المصحف فأملت عليه آي السور). فهذا الحديث يدل على أن القرآن لم يكن مجموعاً فإذا أضيف إلى ذلك اختلاف ترتيب مصاحف الصحابة، دل على أن ترتيب السور بالنسبة لبعضها كان باتفاق من الصحابة.