كما سبق وبينا فإن من النصوص الشرعية ما يحتمل الاجتهاد لاستنباط الأحكام الشرعية منها - الحكم الشرعي - . وحيثما وجد الإجتهاد وجدت إمكانية التعدد في النتائج، فكيف يستقيم الأمر في دولة الخلافة، فتجتمع الرعية على اجتهاد معين؟ فهل توجد آلية شرعية لجمع كلمة الرعية رغم تعدد نتائج الاجتهاد حيث جاز الاجتهاد؟

لقد كان المسلمون في عصر الصحابة يأخذون الأحكام الشرعية بأنفسهم من الكتاب والسنة ، وكان القضاة حين يفصلون الخصومات بين الناس يستنبطون بأنفسهم الحكم الشرعي في كل حادثة تعرض عليهم ، وكان الحكام من أمير المؤمنين إلى الولاة وغيرهم ، يقومون بأنفسهم باستنباط الأحكام الشرعية لمعالجة كل مشكلة من المشاكل تعرض لهم أثناء حكمهم.

فأبو موسى الأشعري وشريح كانا قاضيين يستنبطان الأحكام ويحكمان باجتهادهما ، وكان معاذ بن جبل والياً في أيام الرسول يستنبط الأحكام ويحكم في ولايته باجتهاده ، وكان أبو بكر وعمر في خلافتهما يستنبطان الأحكام بأنفسهما ويحكم كل واحد منهما الناس بما يستنبطه هو ، وكان معاوية وعمرو بن العاص واليين ، وكان كل واحد منهما يستنبط الأحكام بنفسه ويحكم الناس في ولايته ، بما استنبطه في اجتهاده.

ومع هذا الاجتهاد لدى الولاة والقضاة ، فقد كان الخليفة يتبنى حكماً شرعياً خاصاً يأمر الناس بالعمل به ، فكانوا يلتزمون العمل به ويتركون رأيهم ، واجتهادهم ، لأن الحكم الشرعي أن أمر الإمام نافذ ظاهراً وباطناً ومن ذلك أن أبا بكر تبنى إيقاع الطلاق الثلاث واحدة ، وتوزيع المال على المسلمين بالتساوي من غير نظر إلى القدم في الإسلام أو غير ذلك ، فاتبعه المسلمون في ذلك ، وسار عليه القضاة والولاة . ولما جاء عمر تبنى رأياً في هاتين الحادثتين خلاف رأي أبي بكر ، فالزم وقوع الطلاق الثلاث ثلاثاً . ووزع المال حسب القدم والحاجة بالتفاضل لا بالتساوي ، واتبعه في ذلك المسلمون وحكم به القضاة والولاة . ثم تبنى عمر جعل الأرض التي تغنم في الحرب غنيمة لبيت المال تبقى في يد أهلها ولا تقسم على المحاربين ولا على المسلمين فاتبعه في ذلك الولاة والقضاة وساروا على الحكم الذي تبناه.

فكان الإجماع ( إجماع الصحابة ) منعقداً على أن للإمام أن يتبنى أحكاماً معينة ويأمر بالعمل بها ، وعلى المسلمين طاعتها ولو خالفت اجتهادهم . والقواعد الشرعية المشهورة هي ( للسلطان أن يحدث من الأقضية بقدر ما يحدث من مشكلات ) و ( أمر الإمام يرفع الخلاف ) و ( أمر الإمام نافذ ظاهراً وباطناً ) ولذلك صار الخلفاء بعد ذلك يتبنون أحكاماً معينة ، فقد تبنى هارون الرشيد كتاب ( الخراج ) في الناحية الاقتصادية وألزم الناس بالعمل بالأحكام التي وردت فيه .

وعليه ففي دولة الخلافة يتبني الخليفة من الأحكام ما يلزم لرعاية شؤون الرعية، ولهذا وجدت المواد ذات العلاقة في دستور دولة الخلافة على منهاج النبوة مبنة لذلك تمام البيان - المادة 1: أساس الدولة والدستور والقوانين ، المادة 3: تبني الدستور والقوانين، و المادة 22: قواعد نظام الحكم- .  واختلاف المسلمين وفرقتهم لا يكون سببه الاجتهاد، وإنما سببه افتقادهم لدولتهم دولة الخلافة على منهاج النبوة، التي تجمع كلمتهم على اجتهاد رجل واحد يحكمهم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم... لذلك فالاختلاف في الأجتهاد لا يعني الخلاف بين الأمة، واما الاختلاف مع الخليفة على مشروعية حكم تبناه فالفصل فيه وفق دستور دولة الخلافة على منهاج النبوة يكون لدى محكمة المظالم _ المادة 91: تملك محكمة المظالم صلاحية النظر في أية مظلمة من المظالم _

فمن يهمه صادقا مخلصا جمع كلمة الأمة عليه العمل مع العاملين لإقامة دولة الخلافة على منهاج النبوة، فرض الله وبشرى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فهي الطريقة الشرعية الوحيدة لجمع كلمة الأمة فضلا عن إيجاد الإسلام في واقع الحياة وحمله إلى العالم والذود عن حرمات الإسلام والمسلمين