طباعة
المجموعة: فقه الاسلام

 منذ نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، اشتدّت الغزوة الحضارية الغربية على الحضارة الإسلامية، ولا سيما على أنظمة الحياة والمجتمع والدولة التي شرّعها الإسلام وطبّقتها دولة الخلافة على مدى قرون من التاريخ.

 وكان ذلك في سياق إسقاط شرعية دولة الخلافة القائمة آنذاك وإسقاط قداسة أنظمتها وقوانينها التي هي أحكام شرعية مستمدَّة من نصوص الوحي، أي الكتاب والسنّة وما أرشدا إليه، ومن ثم تمهيد الطريق لقبول التشريعات الوضعية الغربية المنبثقة من فكرة فصل الدين عن الحياة التي قام عليها المجتمع الغربي منذ الثورة الفرنسية الكبرى. ولقد استعانت هذه الغزوة الحضارية الغربية بأناس من أبناء المسلمين صُنعوا على عين المعاهد ومراكز الدراسات الغربية.

هذا ما أراده الإستعمار الغربي وخلفه

وبالفعل، أسفرت هيمنة دول الغرب، بفعل الاحتلال العسكري الذي بلغ غاية توسّعه مع نهاية الحرب العالمية الأولى، عن إقصاء الأنظمة والقوانين الإسلامية عن رعاية شؤون الناس، وتطبيق الأنظمة والقوانين الغربية بدلاً منها، في معظم بلاد المسلمين.

وعلى الرغم من زوال الاحتلال العسكري عن معظم بلاد المسلمين، بقيت الدساتير والقوانين التي أدخلها إلى البلاد مطبَّقة، إذ كرّسها بإنشاء طواقم من المثقفين بثقافته وعقليته، وبمؤسّسات أنشئت خصّيصاً من أجل تطبيقها والحفاظ عليها. واستمرّت الجامعات وسائر مناهج التعليم ترعى هذه التشريعات وتصبغها بصبغة «العلمية» و«الديموقراطية»، إذ صوّروا للناس أنّها نتاج تضافر «العلماء الحداثيّين» والمجالس التشريعية التي نالت ثقة الجماهير الناخبة.

أمّا الأنظمة والقوانين الإسلاميّة التي طبّقتها دولة الخلافة طيلة مئات السنين، فقد صُوِّرَت على أنها نتاج عقول مشرّعين تاريخيّين أبدعوا ما احتاج إليه المجتمع والدولة والحكّام في حقب ماضية من التاريخ الإسلامي، وأنكروا أن تكون هذه الأنظمة مستمدّة من الوحي الذي أنزل على النبي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، إذ لا يرون هذه الأمور، أي أنظمة الحياة والمجتمع والدولة، من شؤون الدين، إسلاماً كان أو غيره.

لقد شعر روّاد الثقافة الغربية وتلامذتهم في العالم الإسلامي بالهناءة لرؤيتهم حضارة الغرب وثقافته وأنظمته تستقرّ إلى حين في العالم الإسلامي خلال القرن العشرين، دون منازعة ذات شأن من جهة المثقّفين المتديّنين. بل قد حظيت هذه الأنظمة بتبرير فريق واسع من هؤلاء المثقّفين، وحتى من بعض المتخصّصين في الشريعة والدراسات الإسلامية.

هذه أمة الإسلام، الخير فيها إلى يوم الدين

إلا أنّ هناءة هؤلاء لم تدم طويلاً، إذ فوجئوا بحركة فكرية في العالم الإسلامي تشنّ حملة ارتدادية على الغزوة الحضارية الغربية، ولا سيما على الجانب التشريعي منها. فمنذ عقود من القرن الماضي، انطلقت حركة ناشطة ما زالت مستمرّة، بل متصاعدة الوتيرة حتى يومنا هذا، مستهدفة المنظومة الحضارية الغربية برمّتها، بما في ذلك البنيان التشريعي لهذه الحضارة، والذي فُرِض على بلادنا بالقوّة والمكر منذ أوائل القرن العشرين.

وقد اقترنت هذه الحملة على الحضارة الغربية ببروز مشروع بنيان تشريعي إسلامي متكامل، مستنبط من القرآن والسنّة وما أرشدا إليه، ليحطّم أكذوبة خلوّ الإسلام من أنظمة الحياة، وليكون مشروع نظام جاهزاً للتطبيق بمجرّد قيام دولة تريد استئناف الحياة الإسلامية. وقد كان العمل العظيم الذي قام به من عمل لإقامة دولة الخلافة على منهاج النبوة ردّاً صارخاً ومفحماً على الكلام الذي كان يردّده العلمانيّون، من المثقّفين وأركان الأنظمة الحاكمة ودوائر الدراسات الاستشراقية وغيرها، من أن الحركات الإسلامية لا ترفع سوى شعارات وأنها لا تملك أي مشروع سياسي بديل تعمل على تطبيقه في حال وصولها إلى السلطة. فأثبت من خلال كتبه العديدة، بدءاً بمشروع الدستور ومقدّمته، مروراً بنظام الحكم والنظام الاقتصادي والأموال والنظام الاجتماعي ونظام العقوبات والتعليم المنهجي في دولة الخلافة، أو وصولاً إلى أجهزة الحكم والإدارة في دولة الخلافة، أثبت أنه يملك مشروعاً سياسياً متكاملاً للدولة الإسلامية ومجتمعها، لا يمتلك نظيرَه أي من الحركات السياسية الأخرى، إسلامية كانت أم علمانية.

والصراع مستمر

هذا في الوقت الذي تطوّعت فيه شخصيات وهيئات يحسبها البعض إسلامية، لتروّج ما بدأ الغزو الثقافي الغربي بترويجه منذ أكثر من قرن من الزمان، من أن الإسلام لم يعطِ نظاماً مفصلاً للدولة الإسلامية.

قد يقول قائل، مشكّكاً أو متشكّكاً: إن الأنظمة الوضعية بُنيت على نظريات محدّدة وواضحة. فنظام الحكم الديموقراطي بُني على قاعدة أنّ السيادة والسلطة للشعب، والنظام الاقتصادي الرأسمالي بُني على قواعد حرية التملّك ونظام السوق ونظرية الندرة النسبية للسلع والخدمات، والنظام الاجتماعي بُنيَ على قاعدة الحرية الشخصية، وقوانين الإعلام والصحافة بنيَت على قاعدة حرية الرأي... فما هي النظريات التي بنيت عليها الأنظمة الإسلامية للحياة والمجتمع والدولة؟

شريعة الإسلام ليس نظريات ولا فلسفة خيالية بل أحكام شرعية عملية

حاشا لأنظمة الإسلام أن تكون نظريات أو مبنية على نظريات. ولو كانت كذلك لما امتازت عن الأنظمة الوضعية في شيء. ذلك أن أنظمة الإسلام هي مجموع الأحكام الشرعية المتعلقة بأفعال العباد. فهي مأخوذة من خطاب الشارع، أي خطاب الله تعالى لعباده. فمجموعة المأمورات والمنهيات والمباحات التي تتعلّق بأفعال العباد تكوّن معاً معالجات الإسلام لمشكلات الإنسان كلها، أي أنظمة الإسلام لجميع جوانب الحياة.

وطريقة استخراجها هي الطريقة التي يعتمدها الفقهاء المجتهدون في استنباط الأحكام الشرعية كلها من أدلتها التفصيلية، أي من القرآن والسنّة وما أرشدا إليه. وهذه الطريقة هي أن كلّ فعل من أفعال العباد ينطبق عليه خطاب من الشارع، سواء بمنطوق النص أو مفهومه أو معقوله. فالقواعد الكلية التي تنطبق على كثير من أفراد المسائل والقواعد العامة التي تنطبق على مسمّيات عامة، والعلل التي جُعلت أصلاً لأحكام توجد كلّما وُجدت العلة، فضلاً عن النصوص التي تدلّ على كثير من الأحكام بمنطوقها، تُمكِّن المجتهد من استنباط الأحكام وتطبيقها على المسائل المستمرة أو المتجددة، بعد إدراك واقعها، أي تحقيقها مناطاً للأحكام الشرعية.

بالتالي، فإنه لا نظرية أسَّس عليها الفقهاء المسلمون نظاماً للحكم أو نظاماً للاقتصاد أو نظاماً للاجتماع أو نظاماً للتعليم أو قانوناً للإعلام... بل كان بروزُ منظومات فقهية تحت هذه العناوين ثمرةَ جهد الفقهاء في جمع الأحكام المتعلقة بكل فرع من فروع الحياة والمجتمع والدولة ونظمها وترتيبها، لتكون لنا كتباً ومراجع متخصّصة.

فنظام الحكم في الإسلام هو مجموعة الأحكام المستنبطة من القرآن والسنّة التي تنظِّم أجهزة الدولة وعلاقة بعضها ببعضها الآخر، وعلاقة الحاكم بالمحكوم، والتي بذل الفقهاء جهداً في ترتيبها ونظمها لتكون مرجعاً ميسوراً تطبيقُه في دولة الخلافة المنشودة.

والنظام الاقتصادي هو مجموعة الأحكام الشرعية المتعلقة بالمال وطرق كسبه وتنميته ووجوه التصرف به، وموارد بيت المال ومصارفه في دولة الخلافة. وقانون الإعلام هو مجموعة الأحكام المتعلقة بأفعال العباد الواقعة ضمن الدائرة المسماة في هذا العصر بالإعلام والصحافة...

إلا أنّه، وإن كانت أنظمة الإسلام مجموعة الأحكام التي شرّعها الشارع الحكيم ـــ وهو الله تعالى ـــ لأفعال العباد، والتي أنزلها في نصوص الوحي، إلا أنه يمكن للفقهاء والدارسين استقراء تلك الأحكام بعد نظمها وترتيبها لمعرفة القواعد الأساسية التي بنيت عليها، ومعرفة الأهداف التي شُرّعت لأجلها.

فبعد استقراء مجموعة الأحكام التي مثّلت نظام الحكم في الإسلام، اتّضح أنّ هذا النظام قام على أربع قواعد هي: أنّ السيادة للشرع، وأن السلطان للأمة، ووجوب تنصيب خليفة واحد يكون رئيساً للمسلمين جميعاً في الدنيا، وأنّ حقّ تبنّي الأحكام وسنّ القوانين في دولة الخلافة هو لرئيس الدولة وحده.  [ نظام الحكم في دستور دولة الخلافة ]

وبعد استقراء الأحكام الشرعية المكوّنة للنظام الاقتصادي الإسلامي، تبيَّن أن المشكلة التي شُرعت هذه الأحكام لمعالجتها هي «كيفية توزيع الثروة على الناس»، لا كيفية تنمية الثروة كما هو شأن النظام الرأسمالي، وأنّ سياسة هذا النظام، أي الغاية التي يرمي إليها من خلال أحكامه، هي ضمان الحاجات الأساسية من مأكل وملبس ومسكن لكل الناس فرداً فرداً، وتمكين جميع هؤلاء من تحقيق سائر الحاجات الكمالية بقدر ما يرغبون ويستطيعون وفق طريقة معينة للعيش ارتضاها الإسلام... [ النظام الاقتصادي في دستور دولة الخلافة ]

وعلى هذا المنوال، يمكن النظر في سائر فروع الأحكام التي اعتنى الفقهاء بترتيبها ونظمها بعد استنباطها أحكاماً لأفعال العباد من الأدلة الشرعية، أي من نصوص الوحي وما أرشدت إليه.

إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ( 36 ) ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون ( 37 )

فمن كان توكله على الله فهو حسبه، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ 40 الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ،