خاطب الله المكلَّفين بالشريعة الإسلامية كلها أصولاً وفروعاً، أي عقائد وأحكاماً فروعية. ومن مقتضى العقيدة الإسلامية التقيد بالحكم الشرعي، والذي هو مقياس الأعمال في الإسلام، فكان الأصل في الأفعال التقيد بالحكم الشرعي، وذلك في كل علاقات الإنسان في الحياة ، سواء الفرد أو المجتمع أو الدولة، وسواء علاقة الإنسان مع نفسه - كالمطعومات- أو مع غيره -المعاملات- أو مع خالقه -العبادات -. فلا بد من معرفة حقيقة الحكم الشرعي حين البحث في معرفة الأدلة الشرعية.

 الحكم الشرعي، قال تعالى: { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوٓا۟ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا۟ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۚ وَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ} - مقياس الأعمال في دولة الخلافة على منهاج النبوةوقد عرّف علماء أصول الفقه الحكم الشرعي بأنه خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع، وبيان ذلك:

  1.  أما كملة الشارع  في التعريف فهي بمعنى المشرّع وهو الله سبحانه وتعالى، فخطاب الشارع يعني خطاب الله
  2. وإنّما قيل خطاب الشارع ولم يُقَل خطاب الله، ليشمل السنّة وإجماع الصحابة من حيث كونه دالاً على الخطاب حتى لا يُتوهَّم أن المراد به القرآن فقط، لأن السنّة وحي، فهي خطاب الشارع. وإجماع الصحابة يكشف عن دليل من السنّة، فهو خطاب الشارع.
  3.  وإنّما قيل المتعلق بأفعال العباد ولم يُقَل المكلَّفين، ليشمل الأحكام المتعلقة بالصبي والمجنون كالزكاة في أموالهما.
  4. ومعنى كونه متعلقاً بالاقتضاء أي متعلقاً بالطلب، لأن معنى كلمة الاقتضاء الطلب. وهو، أي الطلب، ينقسم إلى طلب فعل وطلب ترك. وطلب الفعل إن كان جازماً فهو الإيجاب أو الفرض، وإن كان غير جازم فهو المندوب أو السنّة أو النافلة. وطلب الترك إن كان جازماً فهو التحريم أو الحظر، وإن كان غير جازم فهو الكراهة.
  5. وأمّا التخيير فهو الإباحة. 
  6. أمّا خطاب الوضع أو الخطاب المتعلق بأفعال العباد بالوضع، فهو جعل الشيء سبباً أو مانعاً أو ما شاكل ذلك، مثل كون دلوك الشمس موجباً لوجود الصلاة وهو سبب الصلاة، ومثل مانعية النجاسة للصلاة. فإنها أي دلوك الشمس ومانعية النجاسة وما شاكلها، وإن كانت علامة للأحكام فهي من الأحكام، لأن الله جعل زوال الشمس علامة على وجوب الظهر، ووجود النجاسة علامة على بطلان الصلاة. ولا معنى لكون الزوال موجِباً إلاّ طلب فعل الصلاة، ولا معنى لكون النجاسة مبطِلة إلاّ طلب ترك النجاسة، وهكذا، فهي في حقيقتها خطاب من الشارع.

وبذلك يكون تعريف الحكم الشرعي بأنه خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد جامعاً مانعاً. فهو بقوله بالاقتضاء أو التخيير قد شمل الأحكام الخمسة وهي: الواجب والمندوب والحرام والمكروه والمباح، وبقوله بالوضع قد شمل ما كان سبباً وما كان مانعاً وما كان شرطاً وما كان صحيحاً وباطلاً وفاسداً وما كان رخصة وعزيمة

وبناء على هذا التعريف يكون خطاب الشارع من حيث مقتضاه قسمين:

  1. خطاب التكليف
  2. وخطاب الوضع.

 

القطع والظن في الدليل الشرعي والحكم المستنبط منه:

وخطاب الشارع  من حيث قطعيته والحكم المستبط منه إما أن يكون قطعي الثبوت كالقرآن الكريم والحديث المتواتر ، أو ظني الثبوت كالحديث غير المتواتر :

  1. فإن كان قطعي الثبوت ينظر ، فإن كان قطعي الدلالة يكون الحكم الذي تضمنه قطعياً كركعات الفرائض كلها ، فإنها وردت في الحديث المتواتر ، وكتحريم الربا وقطع يد السارق وجلد الزاني ، فإنها أحكام قطعية ، والصواب فيها متعين ، وليس فيها إلا رأي واحد قطعي .
  2. وإن كان خطاب الشارع قطعي الثبوت ظني الدلالة فإن الحكم الذي تضمنه ظني مثل آية الجزية ، فإنها قطعية الثبوت ولكنها ظنية الدلالة في التفصيل ، فالحنفية يشترطون أن تسمى جزية ، وأن يظهر الذل على معطيها حين إعطائها . والشافعية لا يشترطون تسميتها جزية ، بل يصح أن تؤخذ باسم زكاة مضاعفة ، ولا ضرورة لإظهار الذل ، بل يكفي الخضوع لأحكام الإسلام .
  3. أما إن كان خطاب الشارع ظني الثبوت كالحديث غير المتواتر ، فيكون الحكم الذي تضمنه ظنياً ، سواء أكان قطعي الدلالة كصيام ستة أيام من شوال فإنها ثبتت بالسنة ، أو ظني الدلالة كمنع إجارة الأرض فإنه ثبت بالسنة .

 

معرفة الحكم الشرعي والتقيد به:

  1. وخطاب الشارع يفهم منه الحكم الشرعي باجتهاد صحيح ، ولذلك كان اجتهاد المجتهدين هو الذي يظهر الحكم الشرعي ، وعلى ذلك فحكم الله في حق كل مجتهد هو ما أدى إليه اجتهاده وغلب على ظنه .
  2. فالمكلف إذا حصلت له أهلية الاجتهاد بتمامها في مسألة من المسائل فإن اجتهد فيها وأداه اجتهاده إلى حكم فيها ، فقد اتفق الكل على أنه لا يجوز له تقليد غيره من المجتهدين ، في خلاف ما أوجبه ظنه ، ولا يجوز له ترك ظنه إلا إذا تبنى الخليفة حكماً شرعيا ، فإنه يجب عليه حينئذ العمل بما أمر به الخليفة ، لأن ما أدى إليه اجتهاده وغلب على ظنه هو حكم الله في المسألة وهو حكم شرعي ، ولأن أمر الإمام يرفع الخلاف . أما إذا لم يجتهد من له أهلية الاجتهاد فإنه يجوز له تقليد غيره من المجتهدين ، لأن إجماع الصحابة منعقد على أنه يجوز للمجتهد أن يترك اجتهاده ويقلد غيره من المجتهدين .
  3. وأما من ليس له أهلية الاجتهاد فهو المقلد ، وهو قسمان متبع وعامي ،(1) فالمتبع هو الذي لم يكن محصلاً لبعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد ، فإنه يقلد المجتهد بعد أن يعرف دليله ، وحينئذ يكون حكم الله في حق هذا المتبع هو قول المجتهد الذي اتبعه . (2) وأما العامي فهو الذي لم يكن محصلاً لبعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد فإنه يقلد المجتهد دون أن يعرف دليله . وهذا العامي يلزمه تقليد قول المجتهدين والأخذ بالأحكام التي استنبطوها ، ويكون الحكم الشرعي في حقه هو الذي استنبطه المجتهد الذي قلده . وعلى ذلك فالحكم الشرعي هو الذي استنبطه مجتهد له أهلية الاجتهاد ، وهو في حقه حكم الله لا يجوز له أن يخالفه ويتبع غيره مطلقاً ، وكذلك هو في حق من قلده حكم الله لا يجوز له أن يخالفه .

 

ضوابط التقليد:

  1. والمقلد إذا قلد بعض المجتهدين في حكم حادثة من الحوادث وعمل بقوله فيها ، فليس له الرجوع عنه في ذلك الحكم بعد ذلك إلى غيره مطلقاً.
  2. وأما تقليد غير ذلك المجتهد في حكم آخر فإنه يجوز له لما وقع عليه إجماع الصحابة من تسويغ استفتاء المقلد لكل عالم في مسالة .
  3. وأما إذا عين المقلد مذهباً كمذهب الشافعي مثلاً وقال أنا على مذهبه وملتزم له فهناك تفصيل في ذلك وهو :(1) أن كل مسألة من المذهب الذي قلده اتصل عمله بها فليس له تقليد غيره فيها مطلقاً ، (2) وما لم يتصل عمله بها فلا مانع من اتباع غيره فيها . (3) وأما المجتهد فإنه إذا توصل باجتهاده إلى حكم مسألة فإنه يجوز له أن يترك ما توصل إليه اجتهاده فيها وأن يقلد غيره إذا كان ذلك لجمع المسلمين على رأي واحد كما حصل مع عثمان رضي الله عنه عند بيعته .