طباعة
المجموعة: فقه الاسلام

الإسلام هو الدين الذي أنزله الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتنظيم علاقة الإنسان بخالقه ، وبنفسه ، وبغيره من بني الإنسان . وعلاقة الإنسان بخالقه تشمل العقائد والعبادات ، وعلاقته بنفسه تشمل الأخلاق والمطعومات والملبوسات ، وعلاقته بغيره من بني الإنسان تشمل المعاملات والعقوبات.

 فالإسلام مبدأ لشؤون الحياة جميعاً ، وليس ديناً لاهوتياً ، ولا يتصل بالكهنوتية بسبب . وانه ليقضي على الأوتوقراطية الدينية ( الاستبداد الديني ) فلا يوجد في الإسلام جماعة تسمى رجال الدين ، وجماعة تسمى رجال الدنيا ، بل جميع من يعتنقون الإسلام يسمون مسلمين ، وكلهم أمام الدين سواء . فلا يوجد فيه رجال روحيون ، ورجال زمنيون.

والإسلام عقيدة ونظم، وله طريقة مميزة واحدة في معالجة المشاكل:

  1. ، أما العقيدة فهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وباليوم الآخر ، وبالقضاء والقدر خيرهما وشرهما من الله تعالى . وقد بنى الإسلام العقيدة على العقل فيما يدركه العقل ، كالإيمان بالله ، وبنبوة محمد عليه السلام ، وبالقرآن الكريم ، وبناها في المغيبات ، أي ما لا يمكن للعقل أن يدركه كيوم القيامة والملائكة والجنة والنار على التسليم على أن يكون مصدرها ثابتاً بالعقل وهو القرآن الكريم والحديث المتواتر . وقد جعل الإسلام العقل مناط التكليف .
  2. أما النظم فهي الأحكام الشرعية التي تنظم شؤون الإنسان ، وقد تناول نظام الإسلام جميع هذه الشؤون ، ولكنه تناولها بشكل عام ، بمعان عامة ، وترك التفصيلات تستنبط من هذه المعاني العامة حين إجراء التطبيقات . فقد جاء القرآن الكريم والحديث الشريف يتضمنان خطوطاً عريضة ، أي معاني عامة لمعالجة شؤون الإنسان من حيث هو إنسان ، وترك للمجتهدين أن يستنبطوا من هذه المعاني العامة الأحكام الجزئية ، للمشاكل التي تحدث على مر العصور واختلاف الأمكنة .
  3. وأما طريقة الإسلام المميزة والواحدة في معالجة المشاكل ، فهو يدعو المجتهد لأن يدرس المشكلة الحادثة حتى يفهمها ، ثم يدرس النصوص الشرعية المتعلقة بهذه المشكلة ، ثم يستنبط حل هذه المشكلة ، من النصوص ، أي يستنبط الحكم الشرعي لهذه المسألة من الأدلة الشرعية ، ولا يسلك طريقة غيرها ، مطلقاً . على أنه حين يدرس هذه المشكلة ، يدرسها باعتبارها مشكلة إنسانية ليس غير ، لا باعتبارها مشكلة اقتصادية أو اجتماعية أو مشكلة حكم أو غير ذلك ، بل باعتبارها مسألة تحتاج إلى حكم شرعي ، حتى يعرف حكم الله فيها .

 الناحية الروحية:

وقد نظرت بعض الأديان إلى أن الكون فيه المحسوس والمغيب ، والإنسان فيه السمو الروحي والنزعة الجسدية ، والحياة فيها الناحية المادية والناحية الروحية ، وأن المحسوس يتعارض مع المغيب ، وأن السمو الروحي لا يلتقي مع النزعة الجسدية ، وأن المادة منفصلة عن الروح . ولذلك فهاتان الناحيتان منفصلتان عندهم ، لأن التعارض بينهما أساسي في طبيعتهما ، ولا يمكن امتزاجهما ، وأن كل ترجيح لإحداهما في الميزان فيه تخفيض لوزن الأخرى . ولهذا كان على مريد الآخرة أن يرجح الناحية الروحية . ومن هنا قامت في المسيحية سلطتان : السلطة الروحية ، والسلطة الزمنية ( أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله ) وكان رجال السلطة الروحية هم رجال الدين وكهنته ، وكانوا يحاولون أن تكون السلطة الزمنية بأيديهم ، حتى يرجحوا عليها السلطة الروحية في الحياة ، ومن ثم نشأ النزاع بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية . وأخيراً تم جعل رجال الدين مستقلين بالسلطة الروحية ، لا يتدخلون بالسلطة الزمنية ، وقد فصل الدين عن الحياة لأنه كهنوتي ، وهذا الفصل بين الدين والحياة ، هو عقيدة المبدأ الرأسمالي ، وهو أساس الحضارة الغربية ، وهو القيادة الفكرية التي يحملها الاستعمار الغربي للعالم ويدعو لها ، ويجعلها عماد ثقافته ، ويزعزع على أساسها عقيدة المسلمين بالإسلام ، لأنه يقيس الإسلام بالمسيحية على طريقة القياس الشمولي .

إلا أن الناحية الروحية هي كون الأشياء مخلوقة لخالق، ومدبرة بأمر هذا الخالق . لأن النظرة العميقة للكون والإنسان والحياة ، وما حولها وما يتعلق بها ، والاستدلال بذلك يري الإنسان النقص والعجز والاحتياج المشاهد الملموس في هذه الأشياء جميعها ، مما يدل دلالة قطعية على أنها مخلوقة لخالق ، ومدبرة بأمره ، وأن الإنسان وهو سائر في الحياة لا بد له من نظام ينظم غرائزه وحاجاته العضوية . ولا يتأتى هذا النظام من الإنسان . لعجزه وعدم إحاطته . ولأن فهمه لهذا التنظيم عرضة للتفاوت والاختلاف والتناقض مما ينتج النظام المتناقض المؤدي إلى شقاء الإنسان . ولذلك كان حتماً أن يكون النظام من الله تعالى . ولهذا كان لزاماً على الإنسان أن يسير أعماله بنظام من عند الله! ولا علاقة للناحية الروحية هنا أو الروح ببحث الروح سر الحياة، والتي لا يعلمها إلا الله.

وعليه فالإسلام يرى أن الأشياء التي يدركها الحس هي أشياء مادية ، والناحية الروحية هي كونها مخلوقة لخالق ، والناحية الروحية هي إدراك الإنسان صلته بالله ، وعلى ذلك لا توجد ناحية روحية منفصلة عن الناحية المادية ، ولا توجد في الإنسان أشواق روحية ونزعات جسدية ، بل الإنسان فيه حاجات عضوية ، وغرائز ، لا بد من إشباعها ، ومن الغرائز غريزة التدين التي هي الاحتياج إلى الخالق المدبر الناشيء عن العجز الطبيعي في تكوين الإنسان . وإشباع هذه الغرائز لا يسمى ناحية روحية ولا ناحية مادية ، وإنما هو إشباع فقط . إلا أن هذه الحاجات العضوية والغرائز إذا أشبعت بنظام من عند الله بناء على إدراك الصلة بالله كانت مسيرة بالروح ، وإن أشبعت بدون نظام ، أو بنظام من عند غير الله ، كان إشباعاً مادياً بحتاً يؤدي إلى شقاء الإنسان . فغريزة النوع إن أشبعت من غير نظام أو بنظام من عند غير الله كان ذلك مسبباً للشقاء ، وان أشبعت بنظام الزواج الذي من عند الله حسب أحكام الإسلام كان زواجاً موجداً للطمأنينة . وغريزة التدين إن أشبعت من غير نظام أو بنظام من عند غير الله بعبادة الأوثان أو عبادة الإنسان ، كان ذلك إشراكاً وكفراً ، وإن أشبعت بأحكام الإسلام كان ذلك عبادة . ولهذا كان لزاماً أن تراعى الناحية الروحية في الأشياء ، وأن تسير جميع الأعمال بأوامر الله ونواهيه ، بناء على إدراك الإنسان صلته بالله ، أي أن تسير بالروح ، ولذلك لم يكن في العمل الواحد شيئان اثنان ، بل الموجود شيء واحد هو العمل ، وأما وصفه بأنه مادي بحث ، أو مسير بالروح ، فإنه ليس آتياً من نفس العمل ، بل آت من تسييره بأحكام الإسلام ، أو عدم تسييره بها . فقتل المسلم عدوه في الحرب يعتبر جهاداً يثاب عليه ، لأنه عمل مسير بأحكام الإسلام ، وقتل المسلم نفساً معصومة ( مسلمة أو غير مسلمة ) بغير حق يعتبر جريمة يعاقب عليها ، لأنه عمل مخالف لأوامر الله ونواهيه . وكلا العملين شيء واحد هو القتل ، صادر عن الإنسان ، فالقتل يكون عبادة حين يسير بالناحية الروحية ، ويكون جريمة حين لا يسير بالناحية الروحية. ولذلك كان لزاماً على المسلم أن يسير أعماله الناحية الروحية، وكان مزج المادة الناحية الروحية ليس أمراً ممكناً فحسب بل هو أمر واجب . ولا يجوز أن تفصل المادة عن الناحية الروحية، أي لا يجوز أن يفصل أي عمل عن تسييره بأوامر الله ونواهيه بناء على إدراك الصلة بالله .

ولهذا يجب أن يقضى على كل ما يمثل الناحية الروحية منفصلة عن الناحية المادية . فلا رجال دين في الإسلام ، وليس فيه سلطة دينية بالمعنى الكهنوتي ، ولا سلطة زمنية منفصلة عن الدين ، بل الإسلام دين منه الدولة ، وهي أحكام شرعية كأحكام الصلاة ، وهي طريقة لتنفيذ أحكام الإسلام وحمل دعوته . ويجب أن يلغى كل ما يشعر بتخصيص الدين بالمعنى الروحي وعزله عن السياسة والحكم ،فيلغي مثلا الفصل والتمييز بين المحاكم الشرعية والمحاكم النظامية ، ويجعل القضاء واحداً لا يحكم إلا بالإسلام ، فسلطان الإسلام سلطان واحد .

ومما سبق يتضح جليا أن من يحمل دعوة فصل الدين عن الحياة، أو فصل الدين عن الدولة أو عن السياسة ، إنما هو تابع وموجه بتوجيه القيادة الفكرية الأجنبية ، وعامل - بحسن نية أو بسوئها - من عملاء الاستعمار . وهو إما جاهل بالإسلام أو معاد له .