وجب بلورة تعريف مصطلح "الحضارة" ومصطلح "المدنية"، وذلك لتفادي الخلط المتكرر بين المصطلحين، ولتفادي التبعات الكارثية لهذا الخلط! فالحضارة هي مجموع المفاهيم عن الحياة، والمدنية هي الأشكال المادية للأشياء المحسوسة التي تستعمل في شؤون الحياة . ولذلك تكون الحضارة خاصة حسب وجهة النظر في الحياة ، في حين تكون المدنية خاصة وعامة . فالأشكال المدنية التي تنتج عن الحضارة كالتماثيل تكون خاصة ، والأشكال المدنية التي تنتج عن العلم وتقدمه ، والصناعة ورقيها ، تكون عامة ، ولا تختص بها أمة من الأمم ، بل تكون عالمية كالصناعة والعلم .

وهذا التفريق بين الحضارة والمدنية يلزم أن يلاحظ دائماً ، كما يلزم أن يلاحظ التفريق بين الأشكال المدنية الناجمة عن الحضارة ، ، وبين الأشكال المدنية الناجمة عن العلم والصناعة . وذلك ليلاحظ عند أخذ المدنية التفريق بين أشكالها ، والتفريق بينها وبين الحضارة . فالمدنية الغربية الناجمة عن العلم والصناعة لا يوجد ما يمنع من أخذها ، وأما المدنية الغربية الناجمة عن الحضارة الغربية فلا يجوز أخذها بحال ، لأنه لا يجوز أخذ الحضارة الغربية ، لتناقضها مع الحضارة الإسلامية ، في الأساس الذي تقوم عليه ، وفي تصوير الحياة الدنيا ، وفي معنى السعادة للإنسان .

 أما الحضارة الغربية فإنها:

  • تقوم على أساس فصل الدين عن الحياة ، وإنكار أن للدين أثراً في الحياة ، فنتج عن ذلك فكرة فصل الدين عن الدولة . لأنها طبيعية عند من يفصل الدين عن الحياة ، وينكر وجود الدين في الحياة . وعلى هذا الأساس قامت الحياة ، وقام نظام الحياة .
  • أما تصوير الحياة فإنه المنفعة ، لأنها هي مقياس الأعمال ، ولذلك كانت النفعية هي التي يقوم عليها النظام ، وتقوم عليها الحضارة ، ومن هنا كانت النفعية هي المفهوم البارز في النظام ، وفي الحضارة ، لأنها تصور الحياة بأنها المنفعة .
  • ولذلك كانت السعادة عندهم إعطاء الإنسان أكبر قسط من المتعة الجسدية وتوفير أسبابها له . ولهذا كانت الحضارة الغربية حضارة نفعية بحتة ، لا تقيم لغير المنفعة أي وزن ، ولا تعترف إلا بالنفعية ، وتجعلها هي المقياس للأعمال .
  • وأما الناحية الروحية فهي فردية لا شأن للجماعة بها ، وهي محصورة في الكنيسة ورجال الكنيسة . ولذلك لا توجد في الحضارة الغربية قيم أخلاقية ، أو روحية ، أو إنسانية ، وإنما توجد قيم مادية ونفعية فقط . وعلى هذا الأساس جعلت الأعمال الإنسانية تابعة لمنظمات منفصلة عن الدولة ، كمؤسسة الصليب الأحمر ، والإرساليات التبشيرية ، وعزلت عن الحياة كل قيمة إلا القيمة المادية وهي الربح .

فكانت الحضارة الغربية هي هذه المجموعة من المفاهيم عن الحياة .

 أما الحضارة الإسلامية فإنها، تقوم على أساس هو النقيض من أساس الحضارة الغربية ، وتصويرها للحياة غير تصوير الحضارة الغربية لها ، ومفهوم السعادة فيها يختلف عن مفهومها في الحضارة الغربية كل الاختلاف:

  • فالحضارة الإسلامية تقوم على أساس الإيمان بالله ، وأنه جعل للكون والإنسان والحياة نظاماً يسير بموجبه ، وأنه أرسل سيدنا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالإسلام ديناً ، أي أن الحضارة الإسلامية تقوم على أساس العقيدة الإسلامية ، وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقضاء والقدر خيرهما وشرهما من الله تعالى . فكانت العقيدة هي الأساس للحضارة ، فهي قائمة على أساس روحي .
  • أما تصوير الحياة في الحضارة الإسلامية فإنه يتمثل في فلسفة الإسلام التي انبثقت عن العقيدة الإسلامية ، والتي تقوم عليها الحياة ، وأعمال الإنسان في الحياة ، هذه الفلسفة التي هي مزج المادة بالروح ، أي جعل الأعمال مسيرة بأوامر الله ونواهيه ، هي الأساس لتصوير الحياة . فالعمل الإنساني مادة ، وإدراك الإنسان صلته بالله حين القيام بالعمل من كون هذا العمل حلالاً أو حراماً هو الناحية الروحية فيه. فحصل بذلك مزج المادة بالروح . وبناء على ذلك كان المسير لأعمال المسلم هو أوامر الله ونواهيه .
  • والغاية من تسيير أعماله بأوامر الله ونواهيه ، هي رضوان الله تعالى ، وليس النفعية مطلقاً . أما القصد من القيام بنفس العمل فهو القيمة التي يراعى تحقيقها حين القيام بالعمل . وهذه القيمة تختلف باختلاف الأعمال . فقد تكون قيمة مادية كمن يتاجر بقصد الربح ، فإن تجارته عمل مادي ، ويسيره فيها إدراكه لصلته بالله حسب أوامره ونواهيه ابتغاء رضوان الله . والقيمة التي يراعى تحقيقها من القيام بالعمل هي الربح ، وهو قيمة مادية . وقد تكون القيمة روحية ، كالصلاة والزكاة والصوم والحج . وقد تكون القيمة أخلاقية ، كالصدق والأمانة والوفاء . وقد تكون القيمة إنسانية ، كإنقاذ الغريق وإغاثة الملهوف . وهذه القيم يراعيها الإنسان حين القيام بالعمل حتى يحققها . إلا أنها ليست المسيرة للأعمال ، وليست المثل الأعلى الذي يهدف إليه ، بل هي القيمة من العمل وتختلف باختلاف نوعه .
  • وأما السعادة فهي نيل رضوان الله ، وليست إشباع جوعات الإنسان ، لأن إشباع جوعات الإنسان جميعها ، من جوعات الحاجات العضوية ، وجوعات الغرائز ، هو وسيلة لازمة للمحافظة على ذات الإنسان ، ولا يلزم من وجودها السعادة .

هذا هو تصوير الحياة . وهذا هو الأساس الذي يقوم عليه هذا التصوير . وهو الأساس للحضارة الإسلامية . وإنها لتناقض الحضارة الغربية كل المناقضة ، كما أن الأشكال المدنية الناجمة عنها تناقض الأشكال المدنية الناجمة عن الحضارة الغربية .

فمثلاً : الصورة شكل مدني ، والحضارة الغربية تعتبر صورة امرأة عارية تبرز فيها جميع مفاتنها شكلاً مدنياً ، يتفق مع مفاهيمها في الحياة عن المرأة . ولذلك يعتبرها الغربي قطعة فنية يعتز بها كشكل مدني ، وقطعة فنية إذا استكملت شروط الفن ، ولكن هذا الشكل يتناقض مع حضارة الإسلام ، ويخالف مفاهيمه عن المرأة التي هي عرض يجب أن يصان ، ولذلك يمنع هذا التصوير لأنه يسبب إثارة غريزة النوع ويؤدي إلى فوضوية الأخلاق . ومثل ذلك أيضاً ما إذا أراد المسلم أن يقيم بيتاً وهو شكل مدني ، فإنه يراعي فيه عدم انكشاف المرأة في حال تبذلها لمن هو خارج البيت ، فيقيم حوله سوراً ، بخلاف الغربي فإنه لا يراعي ذلك حسب حضارته . وهكذا كافة ما ينتج من الأشكال المدنية عن الحضارة الغربية كالتماثيل ونحوها . وكذلك الملابس ، فإنها إن كانت خاصة بالكفار باعتبارهم كفاراً لم يجز للمسلم أن يلبسها ، لأنها تحمل وجهة نظر معينة ، وإن لم تكن كذلك بأن تعارفوا على ملابس معينة لا باعتبار كفرهم ، بل أخذوها لحاجة أو زينة فإنها تعد حينئذ من الأشكال المدنية العامة ويجوز استعمالها .

أما الأشكال المدنية الناتجة عن العلم والصناعة كأدوات المختبرات والآلات الطبية والصناعية ، والأثاث والطنافس وما شاكلها ، فإنها أشكال مدنية عالمية لا يراعى في أخذها أي شيء ، لأنها ليست ناجمة عن الحضارة ، ولا تتعلق بها .

ونظرة خاطفة للحضارة الغربية التي تتحكم في العالم اليوم ، ترينا أن الحضارة الغربية لا تستطيع أن تضمن للإنسانية طمأنينتها ، بل إنها على العكس من ذلك سببت هذا الشقاء الذي يتقلب العالم على أشواكه ، ويصطلي بناره . والحضارة التي تجعل أساسها فصل الدين عن الحياة خلافاً لفطرة الإنسان ، ولا تقيم للناحية الروحية وزناً في الحياة العامة ، وتصور الحياة بأنها المنفعة فقط ، وتجعل الصلة بين الإنسان والإنسان في الحياة هي المنفعة ، هذه الحضارة لا تنتج إلاّ شقاء وقلقاً دائمين ، فما دامت هذه المنفعة هي الأساس ، فالتنازع عليها طبيعي ، والنضال في سبيلها طبيعي ، والاعتماد على القوة في إقامة الصلات بين البشر طبيعي . ولذلك يكون الاستعمار طبيعياً عند أهل هذه الحضارة ، وتكون الأخلاق مزعزعة ، لأن المنفعة وحدها ستظلل هي أساس الحياة . ولهذا فمن الطبيعي أن تنفى من الحياة الأخلاق الكريمة كما نفيت منها القيم الروحية ، وأن تقوم الحياة على أساس التنافس والنضال والاعتداء والاستعمار . وما هو واقع في العالم اليوم من وجود أزمات روحية في نفوس البشر ، ومن قلق دائم وشر مستطير ، خير دليل على نتائج هذه الحضارة الغربية ، لأنها هي التي تتحكم في العالم وهي التي أدت إلى هذه النتائج الخطيرة والخطرة على الإنسانية .

ونظرة إلى الحضارة الإسلامية التي تحكمت في العالم منذ القرن السادس الميلادي حتى أواخر القرن الثامن عشر الميلادي ، ترينا أنها لم تكن مستعمرة ، وليس من طبعها الاستعمار ، لأنها لم تفرق بين المسلمين وغيرهم ، فضمنت العدالة لجميع الشعوب التي دانت لها طوال مدة حكمها ، لأنها حضارة تقوم على الأساس الروحي الذي يحقق القيم جميعها : من مادية ، وروحية ، وأخلاقية ، وإنسانية . وتجعل الوزن كله في الحياة للعقيدة . وتصور الحياة بأنها مسيرة بأوامر الله ونواهيه ، وتجعل معنى السعادة بأنها رضوان الله ، وحين تسود هذه الحضارة الإسلامية كما سادت من قبل ، فإنها ستكفل معالجة أزمات العالم ، وتضمن الرفاهية للإنسانية جمعاء .