عند دراسة المجتمع الإسلامي على الأساس الصحيح ، أي ندرسه من جميع نواحيه ، وبالتحقيق الدقيق ، نجده خير المجتمعات ، لأنه هكذا كان في القرن الأول والثاني والثالث ، ثم سائر القرون حتى منتصف القرن الثاني عشر الهجري ، ونجده طبق الإسلام في جميع عصوره ، حتى أواخر الدولة العثمانية بوصفها دولة إسلامية .

 على أن الذي يجب أن يلاحظ أن التاريخ لا يجوز أن يكون مصدراً للنظام والفقه ، بل النظام يؤخذ من مصادره الفقهية لا من التاريخ ، لأن التاريخ ليس مصدراً له ، فحين نريد أن نفهم النظام الشيوعي لا نأخذه من تاريخ روسيا ، بل نأخذه من كتب المبدأ الشيوعي نفسه ، وحين نريد أن نعرف الفقه الإنجليزي لا نأخذه من تاريخ إنجلترا بل نأخذه من الفقه الإنجليزي ، وهذا ينطبق على أي نظام أو قانون .

والإسلام مبدأ له عقيدة ونظام ، فحين نريد معرفته وأخذه لا يجوز أن نجعل التاريخ مصدراً له مطلقاً ، لا من حيث معرفته ولا من حيث استنباط أحكامه .

أما من حيث مصدر معرفته فهو كتب الفقه الإسلامي ، وأما من حيث مصدر استنباط أحكامه فهو أدلتها التفصيلية . ولذلك لا يصح أن يكون التاريخ مصدراً للنظام الإسلامي ، لا من حيث معرفته ، ولا من حيث الاستدلال به ، وعليه فلا يصح أن يكون تاريخ عمر بن الخطاب ، أو عمر بن عبد العزيز ، أو هرون الرشيد ، أو غيرهم مرجعاً للأحكام الشرعية ، لا في الحوادث التاريخية التي رويت عنهم ، ولا في الكتب التي ألفت في تاريخهم . وإذا اتبع رأي لعمر في حادثة فإنما يتبع باعتباره حكماً شرعياً استنبطه عمر وطبقه ، كما يتبع الحكم الذي استنبطه أبو حنيفة والشافعي وجعفر وأمثالهم ، ولا يتبع باعتباره حادثة تاريخية . وعلى ذلك فلا وجود للتاريخ في أخذ النظام ، ولا في معرفته . على أن معرفة كون النظام كان مطبقاً أم لا ، لا تؤخذ كذلك من التاريخ ، بل تؤخذ من الفقه ، لأن أي عصر من العصور كانت له مشاكل ، وكان يعالج هذه المشاكل بنظام ، فحتى نعرف ما هو النظام الذي كانت تعالج به المشاكل لا نرجع إلى حوادث التاريخ ، لأنه إنما ينقل إلينا الأخبار نقلاً ، بل يجب أن نرجع إلى النظام الذي كان يطبق ، أي إلى الفقه الإسلامي . وبالرجوع إليه لا نجد فيه أي نظام أخذه المسلمون من غيرهم ، ولا أي نظام اختاره المسلمون من عند أنفسهم ،  بل نجده كله أحكاماً شرعية مستنبطة من الأدلة الشرعية . وأن المسلمين كان حرصهم شديداً على تنقية الفقه من الأقوال الضعيفة ، أي من الاستنباطات الضعيفة ، حتى نهوا عن العمل بالقول الضعيف ولو كان لمجتهد مطلق .

ولذلك لا يوجد نص واحد تشريعي غير الفقه الإسلامي في العالم الإسلامي كله ، بل الموجود هو الفقه الإسلامي فحسب ، ووجود نص فقهي وحده في أمة دون أن يوجد معه نص آخر يدل على أن الأمة لم تكن تستعمل في تشريعها غير هذا النص .

والتاريخ إذا جاز أن يلتفت إليه فإنما يلتفت إليه لاستعراض كيفية التطبيق . ويمكن أن يذكر التاريخ الحوادث السياسية ، فترى فيها كيفية التطبيق . إلا أن هذا أيضاً لا يجوز أن نأخذه إلا بالتحقيق الدقيق من المسلمين ، وللتاريخ ثلاثة مصادر :أحدها الكتب التاريخية ، والثاني الآثار ، والثالث الرواية . 

  • أما الكتب فلا يجوز أن تتخذ مصدراً مطلقاً وذلك لأنها خضعت في جميع العصور للظروف السياسية ، وكانت تحشى بالكذب ، إما بجانب الذي كتبت في أيامه ، وإما ضد الذين كتبت عنهم في أيام غيرهم ، وأقرب دليل على ذلك تاريخ الأسرة العلوية في مصر ، فإنها قبل 1952 كانت لها صورة مشرقة وبعد 1952 تغير هذا التاريخ إلى صورة قاتمة عكس ما كانت عليه . ومثل ذلك تاريخ الحوادث السياسية في عصرنا هذا ، وفيما قبله . ولذلك لا يجوز أن نتخذ الكتب التاريخية مصدراً للتاريخ ، حتى ولو كانت مذكرات شخصية كتبها أصحابها .
  • أما من حيث الآثار فإنها إذا درست بنزاهة تعطي حقيقة تاريخية عن الشيء ، وهذه وإن كانت لا تشكل تسلسلاً تاريخياً ، ولكنها تدل على ثبوت بعض الحوادث . ومن تتبع آثار المسلمين في بلادهم سواء أكان في بنائهم ، أو أدواتهم ، أو أي شيء يعتبر أثراً تاريخياً ، يدل دلالة قطعية على أنه لم يكن موجوداً في العالم الإسلامي كله إلا الإسلام ، وإلا نظام الإسلام ، وإلا أحكام الإسلام ، وكان عيش المسلمين وحياتهم وتصرفاتهم كلها إسلامية ليس غير .
  • أما المصدر الثالث وهو الرواية فهو من المصادر الصحيحة التي يعتمد عليها إذا صحت الرواية ، ويتبع فيه الطريق الذي سلك في رواية الحديث . وعلى هذا الأسلوب يكتب التاريخ . ولذلك تجد المسلمين حين بدأوا يؤلفون ساروا على طريقة الرواية . ولهذا نجد كتب التاريخ القديمة كتاريخ الطبري ، وسيرة ابن هشام ، ونحوهما ، ألفت على هذا الأسلوب . وعلى هذا فالمسلمون لا يجوز لهم أن يعلموا أبناءهم تاريخهم من الكتب التي ألفت ومصادرها كتب مثلها ، كما لا يجوز أن يؤخذ استعراض تطبيق نظام الإسلام من هذا التاريخ . ومن ذلك يتبين أن الإسلام طبق وحده على الأمة الإسلامية ، ولم يطبق غيره في جميع العصور .

غير أنه منذ انتهت الحرب العالمية الأولى بانتصار الحلفاء وأعلن اللورد اللنبي قائد الحملة حين فتح بيت المقدس قائلاً : الآن انتهت الحروب الصليبية ، منذ ذلك الحين والكافر المستعمر يطبق علينا نظامه الرأسمالي في جميع شؤون الحياة ، حتى يجعل الانتصار الذي أحرزه أبدياً . ولذلك لا بد من تغيير هذا النظام الفاسد البالي ، الذي بسببه يتمكن الاستعمار من بلادنا ، ولا بد من قلعه من جذوره بأكمله جملة وتفصيلاً حتى نستطيع أن نستأنف حياة إسلامية .

وانه لمن سطحية التفكير أن نضع بدل نظامنا أي نظام ، ومن ضحالة الفكر أن نظن أن الأمة إذا طبقت النظام وحده دون عقيدة ينقذها ، بل لا بد أن تعتنق الأمة العقيدة أولاً ، ثم تطبق النظام المنبثق عن هذه العقيدة ، وحينئذ يكون تطبيق النظام واعتناق العقيدة منقذاً . هذا بالنسبة للأمة التي تتكون على مبدأ ، وتقوم دولتها على هذا الأساس ، أما بالنسبة لغيرها من الشعوب والأمم فلا ضرورة لأن تعتنق تلك الشعوب والأمم المبدأ حتى يطبق عليها ، بل الأمة التي تعتنق المبدأ وتحمله ، تطبقه على أي شعب أو أمة ، ولو لم تعتنق المبدأ ، لأنه ينهضها أيضاً ، ويجذبها لاعتناقه ، وليس اعتناق المبدأ شرطاً فيمن يطبق عليه ، بل اعتناق المبدأ شرط أساسي فيمن يطبقه .

ومن الخطر أن نأخذ القومية والنظام الاشتراكي ، لأنه لا يؤخذ منفصلاً عن فكرته المادية ، لأنه لا ينتج ولا يؤثر ، ولا يؤخذ متصلاً بفكرته المادية ، لأنها فكرة سلبية تتناقض مع فطرة الإنسان ، وتقتضي أن تترك الأمة الإسلامية عقيدة الإسلام . ولا يجوز أن نأخذ الاشتراكية ونحتفظ بالناحية الروحية من الإسلام ، لأننا لا نكون أخذنا لا الإسلام ولا الاشتراكية ، لتناقضهما ، ونقص المأخوذ منها ، ولا يجوز أن نأخذ نظام الإسلام ونترك عقيدته المنبثقة عنها أنظمته ، لأننا نكون أخذنا النظام جامداً لا روح فيه ، بل لا بد أن نأخذ الإسلام كاملاً بعقيدته وأنظمته ، وأن نحمل قيادته الفكرية حين نحمل دعوته .

فسبيل نهضتنا هو سبيل واحد ، وهو أن نستأنف حياة إسلامية . ولا سبيل إلى استئناف حياة إسلامية إلا بدولة الخلافة ، ولا سبيل إلى ذلك إلا إذا أخذنا الإسلام كاملاً : أخذناه عقيدة تحل العقدة الكبرى ، وتتركز عليها وجهة النظر في الحياة ، وأنظمة تنبثق عن هذه العقيدة ، أساسها كتاب الله وسنة رسوله ، وثروتها الثقافية هي الثقافة الإسلامية بما فيها ، من فقه ، وحديث ، وتفسير ، ولغة ، وغيرها ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بحمل القيادة الفكرية الإسلامية حملاً كاملاً بالدعوة إلى الإسلام ، وبإيجاد الإسلام كاملاً في كل مكان ، حتى إذا انتقل حمل القيادة الفكرية إلى الأمة بمجموعها وإلى دولة الخلافة ، قمنا بحمل القيادة الفكرية للعالم .

هذا هو السبيل الوحيد للنهضة : حمل القيادة الفكرية الإسلامية للمسلمين لاستئناف الحياة الإسلامية ، ثم حملها للناس كافة عن طريق دولة الخلافة .