من النظام الاقتصادي في الإسلام... في ظل دولة الخلافة على منهاج النبوة

النقود هي مقياس المنفعة التي في السلعة والجهد، ولذلك تُعرَّف النقود بأنها الشيء الذي تقاس به كل السلع والجهود. فالثمن للشيء والأجر للشخص مثلاً كلٌ منهما هو تقدير المجتمع لقيمة ذلك الشيء وجهد ذلك الشخص. ولا تعتبر السندات ولا الأسهم ولا ما شاكلها، من النقود.

وهذا التقدير لقِيَم الأشياء والجهود يعبَّر عنه بوحدات في شتى البلدان، فتصبح هذه الوحدات هي المقياس الذي تقاس به منفعة الشيء ومنفعة الجهد. وتكون هذه الوحدات واسطة للمبادلة. وهذه الوحدات هي النقود.

والإسلام حين قرر أحكام البيع والإجارة لم يعيِّن لمبادلة السلع أو لمبادلة الجهود والمنافع شيئاً معيناً تجري المبادلة على أساسه فرضاً، وإنما أطلق للإنسان أن يُجري المبادلة بأي شيء ما دام التراضي موجوداً في هذه المبادلة. فيجوز أن يتزوج امرأة بتعليمها القرآن، ويجوز أن يشتري سلعة بالعمل عند صاحبها يوماً، ويجوز أن يشتغل عند شخص يوماً بمقدار معيّن من التمر. وهكذا أطلق المبادلة لبني الإنسان بما يريدون من الأشياء.

إلاّ أن مبادلة السلعة بوحدة معينة من النقد قد أرشد الإسلام إلى هذه الوحدة النقدية، وعيّنها للمسلمين في جنس معين من النقد هو الذهب والفضة، فهو لم يترك للمجتمع أن يعبِّر عن تقديره لمقياس المنفعة للأشياء أو الجهود بوحدات نقدية ثابتة أو متغيرة يتصرف بها كما يشاء، وإنما عَيَّن هذه الوحدات النقدية التي يعبِّر بها المجتمع عن تقدير القيم للأشياء وللجهود تعييناً ثابتاً بوحدات نقدية معينة. ويُفهم هذا التعيين من عدة أمور:

أدلة اعتبار الذهب والفضة وحدة تقدير القيم

  • أحدها: أن الإسلام حين نهى عن كنز المال خصّ الذهب والفضة بالنهي مع أن المال هو كل ما يُتموَّل. فالقمح مال، والتمر مال، والنقد مال. والكنز إنّما يظهر في النقد لا في السلع والجهود. والمراد من الآية النهي عن كنز النقد لأنه هو أداة التبادل العامة، ولأن كنزه هو الذي يظهر فيه أثر النهي. أمّا غير النقد فإن جَمْعَه لا يسمى كنزاً وإنما يسمى احتكاراً. ولهذا كانت الآية التي نهت عن كنز الذهب والفضة إنّما نهت عن كنز النقد. وقد عَيَّنت الآية النقد الذي نهى الله عن كنزه وهو الذهب والفضة، قال تعالى: ((والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذاب أليم))، فالنهي منصبّ على أداة التبادل النقدية. وعلى هذا فإن كنز الذهب والفضة عيناً حرام سواء أكان مضروباً أم غير مضروب.
  • ثانيها: رَبَط الإسلام الذهب والفضة بأحكام ثابتة لا تتغير. فحين فرض الدية عيّن لها مقداراً معيناً من الذهب. وحين أوجب القطع في السرقة عيَّن المقدار الذي يُقطع بسرقته من الذهب. قال صلى الله عليه وسلم في كتابه الذي كتبه إلى أهل اليمن: «وإنّ في النفس الدية مائة من الإبل، وعلى أهل الذهب ألف دينار»، رواه النسائي عن عمرو بن حزم وقال: «تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً». رواه البخاري من طريق عائشة فهذا التحديد لأحكام معنية بالدينار والدرهم والمثقال يجعل الدينار بوزنه من الذهب، والدرهم بوزنه من الفضة، وحدة نقدية تقاس بها قِيَم الأشياء والجهود. فتكون هذه الوحدة النقدية هي النقد، وهي أساس النقد. فكون الإسلام ربط الأحكام الشرعية بالذهب والفضة نصاً حين تكون هذه الأحكام متعلقة بالنقد، دليل على أن النقد إنّما هو الذهب والفضة فحسب.
  • ثالثها: لقد عيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم الذهب والفضة نقداً، وجعلهما وحدهما المقياس النقدي الذي يرجع إليه مقياس السلع والجهود، وعلى أساسهما كانت تجري جميع المعاملات، وجَعَل المقياس لهذا النقد الأوقية، والدرهم، والدانق، والقيراط، والمثقال، والدينار. وكانت هذه كلها معروفة مشهورة في زمن النبي عليه السلام يتعامل بها الناس، والثابت أنه عليه السلام أقرها. وكانت تقع بالذهب والفضة بوصفهما نقداً جميع البيوع والأنكحة، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة. وقد حدد الرسول ميزان الذهب والفضة بميزان معين هو ميزان أهل مكة ، روى أبو داوود والنسائي عن ابن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «الوزن وزن أهل مكة» ومن مراجعة الموازين النقدية في الإسلام يتبين أن الأوقية الشرعية أربعون درهماً، والدرهم ست دوانق، والدينار عشرون قيراطاً، وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل. وقد أُقِرَّت موازين المدينة على هذا.
  • رابعها: أن الله سبحانه حين أوجب زكاة النقد أوجبها في الذهب والفضة، وعيَّن لها نصاباً من الذهب والفضة. فاعتبار زكاة النقد بالذهب والفضة يعيِّن أن النقد هو الذهب والفضة.
  • خامسها: أن أحكام الصرف التي جاءت في معاملات النقد فقط، إنّما جاءت بالذهب والفضة وحدهما. وجميع المعاملات المالية التي وردت في الإسلام إنّما جاءت نصاً على الذهب والفضة. والصرف هو بيع عملة بعملة، إما بيع عملة بنفس العملة، أو بيع عملة بعملة أخرى. وبعبارة أخرى الصرف مبادلة نقد بنقد، فتعيين الشرع للصرف –وهو معاملة نقدية بحتة ولا تتعلق إلاّ بالنقد- بالذهب والفضة، دليل صريح على أن النقد يجب أن يكون الذهب والفضة لا غير، قال عليه الصلاة والسلام: «بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يداً بيد»، رواه الترمذي. وقال عليه السلام: «الذهب بالورِق ربا إلاّ هاء وهاء» رواه البخاري .

التبادل بغير الذهب والفضة

وعلى ذلك تعتبر النقود من الأشياء التي جاء الإسلام بحكمها، وليست هي من الأشياء التي تدخل في الرأي والمشورة، ولا بما تتطلبه الحياة الاقتصادية، أو الحياة المالية، بل هي من حيث كونها وحدة نقدية، ومن حيث جنسها ثابتة بحكم شرعي. والناظر في الأمور الخمسة السابقة يجد أن النقد في الإسلام تعلقت به أحكام شرعية، ورُبطت به أحكام شرعية. فتحريم كنزه، ووجوب الزكاة فيه، وجعْل أحكام الصرف له، وإقرار الرسول للتعامل به، وربط الدية والقطع في السرقة به، كل ذلك يجعله أمراً يتوقف الرأي فيه على نص الشرع، فكون الشرع نص على هذا النقد بهذه الأحكام المتعلقة به وحده والمرتبطة به، أنه الذهب والفضة، دليل واضح على أن النقد يجب أن يكون من الذهب والفضة، أو أساسه الذهب والفضة. فكان لا بد من التزام ما عيَّنته الأحكام الشرعية من نوع النقد. فيجب أن يكون النقد في الإسلام هو الذهب والفضة.

إلاّ أنه ليس معنى تعيين الذهب والفضة وحدهما نقداً أنه لا يجوز التبادل بغيرهما ، فموضوع النقد هنا ليس موضوع التبادل بل هو موضوع اتخاذ نقد. فإنه مع جواز التبادل بين الناس بكل شيء، إلاّ أن اتخاذ مقياس نقدي للتبادل ولغيره لا بد من أن يكون الذهب والفضة لأن النقد في الإسلام هو الذهب والفضة.

الإسلام لم يعين حجم وضرب وشكل ونقش الذهب والفضة

غير أن الرسول جعل جنس الذهب والفضة نقداً، سواء أكان مضروباً أم غير مضروب، ولم يضرب نقداً معيناً على صفة معينة لا تختلف، بل كانت وحدات الذهب والفضة مجموعات من ضرب فارس والروم، صغاراً وكباراً، وقطع فضة غير مضروبة، ولا منقوشة، ويمنية يتعامل بها جميعها. ولكن اعتبارها كان بالوزن لا بالعدد ولا بالنقش، أو عدم النقش. فقد تكون الذَهَبة بمقدار البيضة وبحجمها ويُتعامل بها. فالتحديد كان بتعيين الذهب والفضة وبتعيين الوزن لكل منهما. وكانت حقوق الله كالزكاة وحقوق العباد كالديْن وثمن المبيع تتعلق بالدراهم والدنانير، أي بالذهب والفضة المقدرة بالوزن. وظل الحال كذلك طوال أيام النبي صلى الله عليه وسلم وطوال أيام الخلفاء الراشدين الأربعة وصدر أيام بني أمية، حتى جاء عبد الملك بن مروان فرأى صرف جميع ما يتعامل به من الذهب والفضة منقوشاً وغير منقوش إلى ضرب الإسلام ونقشه، وتصييرها وزناً واحداً لا يختلف، وأعياناً يُستغنى فيها عن الموازين فجَمَع أكبرها وأصغرها وضربها على وزن مكة. فضرب عبد الملك الدراهم من الفضة والدنانير من الذهب، وكان ذلك سنة خمس وسبعين هجرية. ومنذ ذلك التاريخ وُجدت دراهم إسلامية ودنانير إسلامية مضروبة. أي منذ ذلك التاريخ صار نقد دولة الخلافة متميزاً على صفة واحدة لا تختلف.

وعلى هذا فنظام النقد في الإسلام من حيث أساسه هو الذهب والفضة بالوزن. أمّا حجمه وضربه وشكله ونوع نقشه فكل ذلك من الأسلوب.

وعليه تكون كلمة الذهب والفضة، أينما وردت في ألفاظ الشرع وتقديراته تنطبق على أمرين: على النقد الذي يُتعامل به ولو كان نحاساً أو برنزاً أو ورقاً نقدياً إذا كان له مقابل، باعتبار ما يقابله من الذهب والفضة، وعلى معدني الذهب والفضة. فما كان من النقد ذهباً وفضة اعتُبر، وما كان أوراقاً نقدية أو نحاساً أو غير ذلك مما يمكن تحويله إلى ذهب أو فضة اعتُبر.