طباعة
المجموعة: فقه النظام الاقتصادي

من النظام الاقتصادي في الإسلام... في ظل دولة الخلافة على منهاج النبوة

 مهما تعددت وتنوعت معاملات الصرف فإنها لا تخرج عن بيع نقد بنقد من جنس واحد، وبيع نقد بنقد من جنسين مختلفين، وهي إما حاضر بحاضر أو ذمة بذمة، ولا تكون بين حاضر وبين ذمة غير حاضرة مطلقاً.

وإذا تمت عملية الصرف وأراد أحدهما الرجوع بها فإنه لا يصح متى تم العقد والقبض، إلاّ أن يكون هنالك غبن فاحش أو عيب فإنه يجوز، فإذا وجد أحد المتبايعين في ما اشتراه عيباً بأن وجده مغشوشاً كأن يجد في الفضة نحاساً أو يجد الفضة سوداء، فله الخيار بين أن يَرُد أو يقبل إذا كان بصرف وقته؛ أي بنفس السعر الذي صرف به، يعني أن الرد جائز ما لم ينقص قيمة ما أخذه من النقد عن قيمته وقت اصطرفا، فإن قبله جاز البيع، وإن رده فسخ البيع، فإذا اشترى ذهباً من عيار 24 بذهب من عيار 24 ووجد أحدهما الذهب الذي أخذه بعيار 18 فإنه يعتبر غشاً، وله الخيار بين أن يرد أو يقبل بصرف يومه، ولو أراد من استبدال الذهب بالذهب قبول النقد بعيبه على أن يأخذ منه ما نقص من ثمنه بالنسبة لعيبه فلا يجوز لحصول الزيادة في أحد العوضين وفوات المماثلة المشترطة في الجنس الواحد.

وإذا كان على رجل دين مؤجل فقال لغريمه: "ضع عني بعضه وأعجل لك بقيته" لم يجز، لأنه بيع معجل بمؤجل بغير مماثلة، فكأنه باعه دينه بمقدار أقل منه حاضراً، فصار التفاضل موجوداً فكان الربا، وكذلك إذا زاده الذي له الدين فقال له: "أعطيك عشرة دراهم وتعجل لي المائة التي عليك" لا يجوز لوجود التفاضل فهو ربا، فعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يداً بيد ، فما زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء »رواه مسلم .

وإذا كان لرجل في ذمة رجل ذهب وللآخر في ذمة الأول فضة فاصطرفا بما في ذمتهما بأن قضاه ما في ذمته من الذهب بما له عنده ديناً من الفضة جاز هذا الصرف، لأن الذمة الحاضرة كالعين الحاضرة، وإذا اشترى رجل بضاعة بذهب وقبض البائع ثمنها فضة جاز، لأنه يجوز اقتضاء أحد النقدين من الآخر، ويكون صرفاً بعين وذمة، وذلك لما رَوى أبو داود والأثرم في سننهما عن ابن عمر قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله، رويدك أسألك، إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء».

وإذا اشترى رجل من رجل ديناراً صحيحاً بدينارين مغشوشين لا يجوز، ولكن لو اشترى ديناراً صحيحاً بدراهم فضة ثم اشترى بالدراهم دينارين مغشوشين جاز، سواء اشتراهما من نفس الذي باعه أو من غيره، لما روى أبو سعيد قال: جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أين هذا»؟ قال بلال: تمر كان عندنا رديء فبعت منه صاعين بصاعٍ لمطعم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك : «أوه، عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ببيع آخر ثم اشتري به»، رواه مسلم وروى أيضاً أبو سعيد وأبو هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكُلُّ تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله ،إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعل، بِع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً»، متفق عليه. ولم يأمره أن يبيعه لغير الذي يشتري منه، ولو كان البيع لمن اشترى منه محرَّماً لبيَّنه وعرَّفه إياه. ولأنه باع الجنس بغيره من غير شرط ولا مواطأة فجاز، كما لو باعه من غيره. وبيع الذهب بالفضة ثم شراء الفضة كذلك. أمّا إن واطأ على ذلك لم يَجُز، وكان حيلة محرَّمة لأن الحيل كلها محرَّمة غير جائزة في شيء من الدين، وهي أن يُظهر عقداً مباحاً يريد به محرَّماً مخادَعةً وتوسلاً إلى فعل ما حرَّمه الله أو إسقاط ما أوجبه، أو دفعِ حق أو نحو ذلك، لأن الوسيلة إلى الحرام محرَّمة، ولأن الرسول قال: «لَيَستحِلَّنَّ طائفة من أمتي الخمر باسم يسمونها إياه». رواه أحمد عن عبادة بن الصامت، وروى أحمد عن أي مالك الأشجعي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:« ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها».

وعلى هذا فالصرف من المعاملات الجائزة في الإسلام وفق أحكام مخصوصة بيَّنها الشرع، وهو يجري في المعاملات الداخلية كما يجري في المعاملات الخارجية، فكما يُستبدل الذهب بالفضة والفضة بالذهب من نقد البلد، فكذلك يُستبدل النقد الأجنبي بنقد البلد سواء أكان في داخل البلاد أم خارجها، وسواء أكان معاملات مالية نقداً بنقد أم معاملات تجارية يجري فيها صرف النقد بالنقد. ولبيان الصرف في المعاملات الخارجية بين نقود مختلفة لا بد من بحث النقود.