طباعة
المجموعة: فقه النظام الاقتصادي

من النظام الاقتصادي في الإسلام... في ظل دولة الخلافة على منهاج النبوة

 

المبادئ وعلاج سوء توزيع الثروة

إن ظاهرة سوء توزيع الثروة بين الأفراد في مختلف دول العالم من الحقائق الثابتة التي تنطق بها جميع مظاهر الحياة اليومية في صراحة وفصاحة لا تَدَعان كبير مجال للتدليل عليها، وأن ما يعانيه البشر من هذا التفاوت الفاحش في قضاء الحاجات لا يحتاج إلى إظهار حدّة هذا التفاوت وبشاعته. وقد حاولت الرأسمالية معالجة ذلك فلم تفلح. والاقتصاديون الرأسماليون حين يبحثون نظرية توزيع الدخل يُهملون كل الإهمال سوء توزيع الدخل الشخصي، ويكتفون بعرض الإحصاءات من غير معالجة ولا تعليق. والاشتراكيون لم يجدوا وسيلة لمعالجة سوء التوزيع سوى تحديد الملكية بالكم. والشيوعيون جعلوا المعالجة منع الملكية.

 

أمّا الإسلام فقد ضَمِن حسن التوزيع:

  1. في تحديد كيفية الملكية
  2. وفي تحديد كيفية التصرف
  3. وفي إعطاء من قَصُرت به مواهبه ما يضمن له تقارباً مع غيره ممن يعيشون في المجتمع لإيجاد التقارب في توفير الحاجات بين الناس.

وبذلك عالج سوء التوزيع.

 

الاستغناء هو المفروض

إلاّ أنه مع وجود التقارب في قضاء الحاجات بين الأفراد قد توجد ثروات كبيرة لدى بعض الأفراد. والإسلام لم يفرض التقارب بين الناس في الملكية، وإنما فرض استغناء كل فرد عن غيره في حاجاته المعروفة بالنسبة له، «خير الصدقة ما كان عن ظهر غِنى» رواه البخاري. وهذه الثروات الكبيرة تهيئ لأصحابها فرض الادخار وتساعد على اكتساب الدخول الكبيرة فتظل الثروة الكبيرة موجودة حيث يكون المال الكبير، لأن المال يجلب المال، وإن كان للجهد أثر في اكتساب الثروة وتهيئة الفرص لاستغلال الأموال، فلا يوجد منها أي خطر على الاقتصاد، بل على العكس تنمي الثروة الاقتصادية للجماعة كما تنمي ثروة الفرد.

 

خطورة الكنز

ولكن الخطر إنّما يأتي من النقود المكنوزة عند بعض الأفراد من ذوي الثروات الكبيرة. فيهبط بكنز النقود مستوى الدخل وتنتشر البطالة ويصل الناس إلى حالة من الفقر. ولذلك لا بد من معالجة كنز النقود. فالنقود هي أداة التبادل بين مال ومال، وبين مال وجهد، وبين جهد وجهد. فهي المقياس لهذا التبادل، فإذا اختفت من السوق ولم تصل إليها أيدي الناس عُدم هذا التبادل، ووقف دولاب الاقتصاد. وبقدر وجود هذه الأداة متوفرة بين أيدي الناس بقدر ما يدفع سير العمل إلى الأمام.

وذلك أنه ما من دخلٍ لشخص أو هيئة إلاّ ومصدره شخص آخر أو هيئة أخرى، فالأموال التي تجبيها الدولة من الضرائب هي دخل للدولة، ولكنها إنفاق من الناس، والنفقات التي تنفقها الدولة على الموظفين والمشاريع وأرزاق الجند وغيرها هي دخل لهؤلاء وإنفاق من الدولة، والنفقات التي ينفقها الموظف والجندي وغيرهما هي دخل لمن تشترى السلع منهم كصاحب المنزل واللحام والخضري والتاجر وغيرهم، وهكذا.. فتكون دخول الناس في المجتمع ونفقاتهم الإجمالية تسير في شكل دائرة مستمرة، فإذا كَنَز شخص النقد فإنه يكون قد سحب من السوق نقداً، وهذا بالطبع لا ينتج إلاّ من تقليل إنفاقه فيؤدي حتماً إلى تقليل ما يدخل للآخرين الذين يعطيهم أو يتبادل معهم ما كنزه من النقد. وهذا يؤدي إلى تقليل إنتاجهم لأن الطلب على السلع قد قلّ، وهذا يؤدي إلى البطالة وإلى هبوط الاقتصاد في جملته. ومن هنا كان كنز النقد مؤدياً حتماً إلى وجود البطالة وهبوط الاقتصاد من قلة ما يَدخل للناس.

 

الادخار غير الكنز

إلاّ أن الذي يجب أن يُعلم أن هذا الضرر إنّما يأتي من كنز النقد لا من ادخاره، فالادخار لا يوقف دولاب العمل وإنما الذي يوقفه هو الكنز. والفرق بين الكنز والادخار هو أن الكنز عبارة عن جمع النقد بعضه فوق بعض لغير حاجة، فهو حبس النقد عن السوق. وأمّا الادخار فهو خزن النقد لحاجة من الحاجات كأن يجمع النقد ليبني بيتاً أو ليتزوج أو ليشتري مصنعاً أو ليفتح تجارة أو غير ذلك. فهذا النوع من جمع النقد لا يؤثر في السوق ولا في دولاب العمل لأنه ليس حبساً للمال وإنما هو تجميع له لإنفاقه، فهو سيدور حين يوضع موضع الإنفاق. ولذلك لا يوجد خطر من الادخار، والخطر إنّما هو من كنز النقد أي من جمع بعضه فوق بعض لغير حاجة.

وقد أباح الإسلام ادخار الذهب والفضة لأنه جمعٌ للنقد لحاجة، فأباح للمكاتِب أن يشتغل ويجمع النقد بعضه فوق بعض ليؤدي ما وجب عليه لسيّده ليُعتَق، وأباح للرجل جمع النقد بعضه فوق بعض ليجمع مهر امرأة ليتزوجها، وأباح جمع النقد بعضه فوق بعض حتى يقوم بأداء فريضة الحج، ولم يجعل في هذا النقد المجموع من الذهب والفضة سوى الزكاة عليه إذا بلغ مقداره النصاب، وحالَ عليه الحَوْل.

 

حرمة كنز الذهب والفضة

والذهب والفضة حين نزلت الآية في منع كنزهما كانت ذاتهما أداة للتبادل ومقياساً للجهد في العمل، والمنفعة في المال، سواء أكانت مصكوكة كالدراهم والدنانير أم لم تكن مصكوكة كالسبائك. وعليه فالنهي منصبّ على الذهب والفضة بوصفهما أداة للتبادل.

أمّا كنز الذهب والفضة فقد حرّمه الإسلام بصريح القرآن، قال تعالى: ((والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشِّرهم بعذاب أليم))، فهذا الوعيد بالعذاب الأليم لمن يكنزون الذهب والفضة دليل ظاهر على أن الشارع طلب ترك الكنز طلباً جازماً فكان كنز الذهب والفضة حراماً.

 

والدليل على أن الآية قد حرّمت كنز الذهب والفضة تحريماً قاطعاً هو: