طباعة
المجموعة: فقه النظام الاقتصادي

الفقر في اللغة الاحتياج. يقال: فقر وافتقر ضد استغنى، وافتقر إليه احتاج، فهو فقير، جمعه فقراء. أفقره ضد أغناه. والفقر مصدر ضد الغِنى. وذلك أن يصبح الإنسان محتاجاً وليس له ما يكفيه. والفقير في الشرع هو المحتاج الضعيف الحال الذي لا يَسأل. عن مجاهد قال: الفقير الذي لا يَسأل. وعن جابر بن زيد مثل ذلك قال: الفقير الذي لا يَسأل. وعن عكرمة: الفقير الضعيف. وقال تعالى: (ربِّ إني لِما أنزلتَ إليّ من خيرٍ فقير)، أي إني لأي شيء أنزلتَ إليّ قليل أو كثير من خيرٍ فقير، أي محتاج. وقال تعالى: (وأطعِموا البائس الفقير)، والبائس الذي أصابه بؤس أي شدّة، والفقير الذي أضعفه الإعسار. فمجموع الآيات والآثار تدل على أن الفقر هو الاحتياج. والذي يُحتاج إلى تفصيله هو معنى الاحتياج.

النظرة الرأسمالية للفقر

وفي النظام الاقتصادي الرأسمالي يجعلون الفقر شيئاً نسبياً، وليس هو مسمى لشيء معين ثابت لا يتغير، فيقولون إن الفقر هو عدم القدرة على إشباع الحاجات من سلع وخدمات. وبما أن الحاجات تنمو وتتجدد كلما تقدمت المدنية لذلك كان إشباع الحاجات يختلف باختلاف الأشخاص والأمم. فالأمم المنحطة تكون حاجات أفرادها محدودة فيمكن إشباعها بالسلع والخدمات الضرورية، ولكن الأمم الراقية المتمدنة المتقدمة مادياً تكون حاجاتها كثيرة ولذلك يحتاج إشباعها إلى سلع وخدمات أكثر فيكون اعتبار الفقر فيها غير اعتباره في البلدان المتأخرة.

فمثلاً يعتبر عدم إشباع الحاجة من الكماليات في أوروبا وأمريكا فقراً، ولكن عدم إشباع الحاجات الكمالية في مصر أو العراق مثلاً مع إشباع الحاجات الأساسية لا يعتبر فقراً.

وهذا الاعتبار في النظام الاقتصادي الرأسمالي خطأ لأنه يجعل معنى الأشياء اعتبارياً وليس حقيقياً. وهذا خطأ لأن الشيء له واقع حقيقي فيُعرف بواقعه، وليس هو شيئاً اعتبارياً ولا واقع له، ولأن التشريع الموضوع للإنسان لا يجعل النظام مختلفاً باختلاف الأفراد، ما دام قد جاء للإنسان بوصفه إنساناً لا بوصفه فرداً. فلو كانت الدولة تحكم أفراداً في اسبانيا وأفراداً في اليمن فإنه لا يصح أن تختلف نظرتها للفقر في بلد عن بلد آخر لأن كلاً منهم إنسان قد وُضع العلاج لمشاكله.

نظرة الإسلام للفقر والحاجات الأساسية

وقد اعتبر الإسلام الفقر اعتباراً واحداً للإنسان في أي بلد وفي أي جيل. فالفقر في نظر الإسلام هو عدم إشباع الحاجات الأساسية إشباعاً كاملاً. وقد حدد الشرع هذه الحاجات الأساسية بثلاثة أشياء هي المأكل والملبس والمسكن.

قال تعالى: (وعلى المولودِ له زرقُهُنّ وكسوَتُهُنّ بالمعروف لا تكلف نفسا لا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك)، وقال: (أسكنوهنّ من حيث سكنتُم مِن وُجدِكُم)، روى ابن ماجة عن أبي الأحوص قال: قال عليه الصلاة والسلام: «ألا وحَقُّهُنّ عليكم أن تُحسِنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن»، مما يدل على أن الحاجات الأساسية التي يعتبر عدم إشباعها فقراً هي الطعام والكسوة والمسكن. أمّا ما عدا ذلك فيعتبر من الحاجات الكمالية. فلا يكون من لم يُشبِع الحاجات الكمالية مع إشباعه الحاجات الأساسية فقيراً.

والفقر بالمعنى الإسلامي وهو فقدان ما يُشبِع الحاجات الأساسية، من الأمور التي تكون سبباً لانحطاط الأمّة وهلاكها. وقد جعله الإسلام من وعد الشيطان، قال الله تعالى: (الشيطان يعدكم الفقر).

واعتبر الإسلام الفقر ضعفاً وأمر بالعطف على الفقراء، قال تعالى: (إنْ تُبدوا الصدقات فنِعِمّا هِي وإن تُخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم)، وقال: (وأطعِموا البائس الفقير).

الإسلام بيّن وفرض علاج الفقر

وقد جعل الإسلام إشباع هذه الحاجات الأساسية وتوفيرها لمن لم يجدها فرضاً. فإذا وفرها الفرد لنفسه كان بها، وإذا لم يوفرها لنفسه لعدم وجود مال كاف بين يديه أو لعدم إمكانه تحصيل المال الكافي، جعل الشرع إعانته على غيره حتى يتوفر له ما يُشبع هذه الحاجات الأساسية.

من تجب عليهم النفقة

وقد فصّل الشرع كيفية إعانة الفرد في هذه الأشياء:

  1. فأوجبها على الأقارب الورثة، قال تعالى: (وعلى المولود له رزقُهُن وكِسوَتُهن بالمعروف لا تُكلَّف نفس إلاّ وُسعَها لا تُضارَّ والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك) أي على الوارث مثل المولود له من حيث الرزق والكسوة، وليس المراد بالوارث أن يكون وارثاً بالفعل بل أن يكون ممن يستحق الميراث،
  2. فإن لم يكن له أقارب ممن أوجب الله عليهم نفقة قريبهم انتقلت نفقته على بيت المال في باب الزكاة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ترك مالاً فلورثته ومن ترك كَلاً فإلينا » رواه مسلم، والكَلّ الضعيف الذي لا ولد له ولا والد. وقال تعالى: (إنّما الصدقات للفقراء والمساكين) الآية.
  3. فإن لم يَفِ قسم الزكاة من بيت المال في حاجات الفقراء والمساكين كان واجباً على الدولة أن تنفق عليهم من أبواب أخرى من بيت المال.
  4. فإن لم يوجد في بيت المال مال يجب على الدولة أن تفرض ضريبة على أموال الأغنياء وتحصّلها لتنفق على الفقراء والمساكين منها، لأن النفقة فرض على الأقارب، فإن لم يوجدوا فعلى واردات الزكاة، فإن لم يوجد منها واردات ففرضٌ على بيت المال، فإن لم يوجد فيه مال كانت فرضاً على جميع المسلمين. قال عليه الصلاة والسلام: «أيُّما أهل عَرَصة أصبح فيهم امرؤ جائعاً فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالى»،رواه أحمد، وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: «ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به»، رواه البزار عن أنس. وقال تعالى: (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم). وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ألزم الأنصار بإعالة المهاجرين الفقراء، مما يدل على أنه فرض على جميع المسلمين حتى يَكفوهم. وما كان فرضاً على جميع المسلمين كان على الخليفة بما عليه من واجب رعاية شؤون الأمّة أن يحصّل المال من المسلمين ليقوم بما هو فرض عليهم. فينتقل حينئذ الفرض من على المسلمين إلى أن يصبح فرضاً على بيت المال فيقوم بأدائه بإطعام الفقير والمسكين.

هذا من ناحية علاج فقر الفقير وأن من تجب له النفقة من الفقراء والمساكين يُجبَر هو على تحصيلها، فإن لم يستطع فيُجبَر قريبه على الإنفاق عليه إذا كان وارثا أي في درجة من القرابة التي ذكرها القرآن لوجوب النفقة. فإن لم يستطع القريب أو لم توجد القرابة، فعلى باب الزكاة من بيت المال، ثم على بيت المال، ثم على جميع المسلمين حتى تحصل الكفاية للفقراء والمساكين.

الغنى والفقر

أمّا بالنسبة لمن تجب عليه النفقة للفقير والمسكين من الأقارب فإنها لا تجب إلاّ على من كان في غِناء، أي من استغنى عن غيره. ويعتبر الشخص في غناء إذا كان ممن تتُطلب منه الصدقة، أمّا من نُهي عن الصدقة فلا.

روى البخاري عن سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غِنى». والغِنى هنا ما يستغني به الإنسان مما هو قدر كفايته لإشباع حاجاته.

ويقول الفقهاء: والغِنى هو ما يقوم بقوت المرء وأهله على الشبع من قوت مثله وبكسوتهم كذلك وسكناهم، وبمثل حاله من مركب وزي. فهذا يقع عليه في اللغة اسم غِنى لاستغنائه عن الناس.

ويقال في اللغة: أغنى غناءً الرجل: أجزأه وكفاه.

وعلى هذا لا تجب النفقة للفقير والمسكين إلاّ على من كان مستغنياً عن غيره أي من كان في سَعة، قال تعالى: (ليُنفِق ذو سَعة من سَعَته. ومن قُدِر عليه رزقه فليُنفق مما آتاه الله)، وروى مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إبدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا يقول فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك».

ونفقة الإنسان على نفسه هي سده لكفاية حاجاته التي تتطلب إشباعاً وليست كفاية حاجاته الأساسية فحسب. وذلك لأن الشرع أوجب عليه نفقة زوجته بالمعروف. وقد فُسّر بأنها حسب حالها وأمثالها. قال تعالى: (رزقُهُن وكِسوَتُهُن بالمعروف) فتكون نفقته على نفسه أيضاً بالمعروف، وليس الكفاية. وقال عليه الصلاة والسلام لهند امرأة أبي سفيان:«خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» رواه البخاري وأحمد فلم يقل: « ما يكفيك» فقط بل زاد كلمة « بالمعروف» مما يدل على أن المراد ما يكفيها حسب المتعارف عليه من كفايتها وكفاية ولدها بالنسبة لحالهما وأمثالهما.

فلا يُقدر إذن غناؤه الذي لا بد من توفره حتى تجب عليه النفقة بما يكفي حاجاته الأساسية فحسب، بل بما يكفي حاجاته الأساسية وبما يكفي حاجاته الأخرى التي يُعرف بين الناس أنها من حاجاته، وذلك لا يُقدَّر بمقدار وإنما يُترك للشخص ومستوى المعيشة الذي يعيش عليه.

وقد قَدّر بعض الفقهاء الحاجات التي يُعتبر ما زاد عليها غِنى خمسة أشياء هي: المأكل والملبس والمسكن والزواج وما يركبه لقضاء حاجاته البعيدة. غير أن ذلك لم يَرِد به نص صريح وإنما حسب ما كان يعتبر أنه بالمعروف. ولذلك يقدَّر الغِنى بما يَفضُل عن إشباع حاجاته بالمعروف فإن زاد وجبت النفقة عليه للفقير والمسكين، وإن لم تزِد لا تجب عليه.

الخلاصة

والحاصل أن الفقير الذي تجب له النفقة هو مَن عَدِم إشباع حاجاته الأساسية، أي من احتاج إلى الطعام والكسوة والسكنى،

وأمّا الغني الذي تجب عليه النفقة ويجب عليه ما يجب على جميع المسلمين من التكاليف المالية فهو من ملك ما يَفضُل عن إشباع حاجاته بالمعروف، لا حاجاته الأساسية فقط، ويقدَّر ذلك بحسب حاله وأمثاله من الناس.