طباعة
المجموعة: فقه النظام الاقتصادي

منذ أن تأسست أولى الحضارات الإنسانية والناس تسعى لتطوير وضعها المعيشي من خلال تحسين الظروف الصحية والقدرات الزراعية والإنتاجية للناس، وكذلك القدرات العسكرية والاقتصادية بشكل عام حتى يتسنى توفير الحماية للمجتمعات أو زيادة القدرة على توفير المصادر التي تضمن سد الحاجات الأساسية للناس من الخارج. وبسبب هذا السعي المستمر لسد الحاجات الأساسية وتوفير المصادر نتج أسلوب مميز مخصص للتطوير عرف بالبحث العلمي، وما برح هذا البحث يتقدم ويتطور حقبة بعد حقبة، وجيلاً بعد جيل، حتى غدا يتطور يوماً بعد يوم بوتيرة عالية يكاد يعجز حتى المختصين عن مواكبتها. ذلك أنه كلما دخل البحث العلمي في طور جديد تيسرت سبله واشتدت الحاجة إليه، فإذا به يصبح ملازماً لكل جزئيات حياتنا اليومية، فثمة ماكينة هائلة للبحث العلمي تمتد اليوم إلى معظم زوايا العالم تريد أن تنفذ بأدق ما يمكن تصوره للمادة وانتهاءً بمحاولة اختراق آفاق الكون، مروراً بكل تجليات الحياة ومظاهرها واستخداماتها واحتياجاتها ، ليكون البحث العلمي بذلك ربما الميزة الأهم والأخطر لعصرنا الذي نعيش في كنف متغيراته السريعة والهائلة.

وبسبب أهمية البحث العلمي راحت الأدبيات العلمية تسطر جوانب الأهمية والخطورة والفائدة لهذا الجانب من حياة الإنسان. فالعالم في سباق محموم من أجل الوصول إلى أكبر قدر من المعرفة الدقيقة والمثمرة التي تكفل الراحة والرفاهية والقوة والنفوذ للإنسان وتضمن له التفوق على غيره، كما يفيد البحث العلمي في تقصي الحقائق التي تعين الإنسان في التغلب على بعض مشاكله كالأمراض والأوبئة، ويفيد في فهم الظواهر الطبيعية ومحاولة تفسيرها والتنبؤ بها عن طريق الوصول إلى تعميمات وقوانين عامة كلية. كما أن أحد أهم الأهداف الرئيسة للبحث العلمي العمل على حل مشكلات حياة الإنسان بصيغ لا تقبل التجربة بالخطأ والصواب، وذلك ما يؤدي إلى تطوير تفكير الفرد الموضوعي الناقد ويرفع من مردوده السلوكي نوعاً وكماً، ويزيد من نسب النجاح التي يتوخاها.

لقد أولت الأمم اهتماماً بالغاً للتقدم التكنولوجي والبحث العلمي وتبنته كعامل استراتيجي لضمان قوتها وبقائها على الساحة الدولية بين غيرها من الأمم. إن الأمثلة على اهتمام المسلمين بالتقدم العلمي أكثر من أن تحصى، وهي من صميم العقيدة، ولكن منذ أن غُيِّب الإسلام عن الحكم بدأ التراجع في مختلف المجالات وأصبحت الفجوة عميقة بين المسلمين وأعدائهم في جميع مجالات التكنولوجيا.

فعلى سبيل المثال، فإن المؤسسة الوطنية للعلوم في أميركا حددت أهدافها من وراء الإنفاق على البحث العلمي بثلاث:

(1) تعزيز التقدم العلمي

(2) النهوض بالصحة الوطنية والازدهار والرفاه

(3) تأمين الدفاع الوطني.

وتبلغ ميزانيتها السنوية حوالي 6.9 مليار دولار وهذا المبلغ مصدر لحوالي 20% من المبلغ المستخدم للبحث العلمي في الولايات المتحدة للسنة المالية 2010م غير شامل ما تساهم به المؤسسات غير الحكومية.

وقد أدى اهتمام الولايات المتحدة والكثير من الدول الاستعمارية بالبحث العلمي إلى تمكين هذه الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة وأوروبا من التمسك بقيادة العالم في جميع مجالات العلوم والرياضيات والهندسة...

وفي واقع حياتنا كأمة إسلامية، فقد تراجع المسلمون لدرجة أصبحوا فيها متلقين لما يصنعه الغرب وليسوا منتجين لأي من الصناعات الثقيلة التي تتطلب تقنية عالية؛ وبذلك تأخرت الأمة ووصلت إلى ما وصلت اليه من انحطاط. إلا أن الانحطاط الذي وصلت إليه الأمة الإسلامية ليس بسبب تأخرها علمياً وإنما كان ناتجاً عن غياب دولة الخلافة التي ترعى شؤون المسلمين بما فيها الحث والحرص على التقدم التكنولوجي.

السيادة والبحث العلمي

من هنا فإن خطورة البحث العلمي تكمن في أنه صار يرتبط حقيقة بمسألة السيادة وليس بمسائل التنمية وحسب. عند هذه النقطة الجوهرية والفائقة الأهمية، فإن ثمة سؤالاً بديهياً يطرح نفسه: أين تقف أمتنا الإسلامية من مسيرة البحث العلمي العالمية؟ إن استقراءَ الواقع العام لأمتنا من ناحية، واستقراء واقع البحث العلمي خصوصاً، يؤشران أن الفجوة ربما آخذة في الاتساع بين مانحن عليه وما عليه العالم المتقدم، على الرغم من كل الهيكليات التي تبدو وكأنها تواكب مسيرة البحث العلمي العالمية، فما تزال- في الأصل - الإشكالية قائمة في الحكم على مرحلة النهضة العلمية التي يفترض أن بلادنا مرت بها، وهل حققت التحولات المهمة في حياة الأمة أم لا؟.

إن ما تحقق على مستوى (النهضة العلمية) لم يكن في الحقيقة سوى محاكاة شكلية لأبسط صور التقدم الحياتي الذي شهده العالم المتقدم ، وإن هذا الذي تحقق لم يكن في الحقيقة جهوداً (نهضوية) إنه من ثمار الغزو الثقافي والحضاري الغربي لبلادنا. وإذا ما قصدنا بالنهضة اعتماد الجهود الذاتية الأصيلة في تحقيق التحولات، أو على الأقل الانطلاق من معطيات النهضة العلمية في الغرب باتجاه تطويرها أكثر بجهود الأمة الذاتية، وباعتماد الجهود الأصيلة وليست القائمة على المحاكاة، فإننا ما نزال بعيدين عن النهضة، إن ما تحقق في بلادنا ليس سوى ارتجاعات لحضارة الغرب، وما سمح به الغرب وأراده ليس إلا من أجل أن يسوق منتجاته في أسواقنا.

عوامل تخلف التنمية

والمتتبع لتقارير التنمية الإنسانية العربية منذ سنة 2002م يجد أن المشاكل في تأخر التنمية في هذه المنطقة يعود حسب هذه التقارير إلى العوامل التالية:

  1. إخفاقات في تحقيق الحوكمة والحكم الرشيد
  2. الحاجة إلى المزيد في مجالات العلوم والتكنولوجيا والإبداع
  3. تعميق ثقافة المعرفة
  4. الفجوة التكنولوجية

دولة الخلافة وإرث الفجولة التكنلوجية

وتلخيصاً للنقطة الأخيرة، فإنه مما لا شك فيه أن الفجوة التكنولوجية بين المسلمين وغيرهم كبيرة جداً وتتسع باستمرار. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف ستتعامل دولة الخلافة مع هذا الأمر حال قيامها؟. اذ ستجد نفسها في مؤخرة الدول من الناحية التكنولوجية، وسياسة التصنيع مربوطة قطعاً بالتكنولوجيا، وهي أساس القوة المادية التي ستكون الدولة بحاجة إليها. وهنا يجب إيضاح بعض الأمور:

 

 الإقتصاد في دستور دولة الخلافة على منهاج النبوة