جعل الله لكل شخص أن يبيع سلعته بالسعر الذي يرضاه، وروى ابن ماجة عن أبي سعيد قال: قال صلى الله عليه وسلم: «إنّما البيع عن تراضٍ»، ولكن لمّا كانت الدولة مظنة التسعير على الناس فقد حرم الله عليها أن تضع أسعاراً معينة للسلع تجبر الناس على البيع والشراء بحسبها، ولذلك جاء النهي عن التسعير.

 

واقع التسعير

والتسعير هو أن يأمر السلطان أو نوابه أو كل من ولي من أمور المسلمين أمراً، أهل السوق أن لا يبيعوا السلع إلاّ بسعر كذا، فيُمنعوا من الزيادة عليه حتى لا يُغَلّوا الأسعار، أو النقصان عنه حتى لا يضارِبوا غيرهم، أي يُمنعون من الزيادة أو النقص عن السعر المقرر لمصلحة الناس،وذلك بأن تتدخل الدولة في الأسعار وتضع للسلع أو لبعضها أسعاراً معينة وتمنع كل واحد من أن يبيع بأكثر من السعر الذي عيّنته أو بأقل منه، لِما ترى في ذلك من مصلحة المجموع.

 

حرمة التسعير

وقد حرّم الإسلام التسعير مطلقاً لِما رُوى الإمام أحمد عن أنس قال: «غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله لو سعَّرتَ. فقال: إن الله هو الخالق القابض الباسط الرازق المسعِّر وإني لأرجو أن ألقى الله عزّ وجلّ ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال»، ولِما رُوى أبي داوود عن أبي هريرة قال: «إن رجلا جاء فقال: يا رسول الله، سعِّر؛ فقال: بل أدعوا. ثم جاءه رجل فقال: يا رسول الله سعِّر؛ فقال: بل الله يخفض ويرفع»، وهذه الأحاديث تدل على تحريم التسعير وأنه مظلمة من المظالم التي تُرفع الشكوى على الحاكم لإزالتها، وإذا فعلها الحاكم أثِم عند الله لأنه فعل حراماً. وكان لكل شخص من رعيته أن يرفع الشكوى إلى محكمة المظالم على هذا الحاكم الذي سعَّر، سواء أكان والياً أم خليفة، يشكو لها هذه المظلمة لتحكم عليه وتقوم بإزالة هذه المظلمة.

وتحريم التسعير عام لجميع السلع، لا فرق في ذلك بين ما كان قوتاً وما لم يكن كذلك، لأن الأحاديث تنهى عن التسعير مطلقاً، فهي عامة ولا يوجد ما يخصصه بالقوت أو بغيره، فكانت حرمة التسعير عامة تشمل تسعير كل شيء.

 

التعسير والسوق السوداء

وواقع التسعير أنه ضرر من أشد الأضرار على الأمّة في جميع الظروف، سواء أكان ذلك في حالة الحرب أم في حالة السلم، لأنه يفتح سوقاً خفية يبيع الناس فيها بيعاً مستوراً عن الدولة بعيداً عن مراقبتها، وهي ما يسمونها السوق السوداء، فترتفع الأسعار ويحوز السلعة الأغنياء دون الفقراء، ولأن تحديد الثمن يؤثر في الاستهلاك، فيؤثر في الإنتاج وربما سبّب أزمة اقتصادية. وفوق ذلك فإن الناس مسلَّطون على أموالهم لأن معنى ملكيتهم لها أن يكون لهم سلطان عليها، والتسعير حجر عليهم، وهو لا يجوز إلاّ بنص شرعي، ولم يَرِد نص بذلك، فلا يجوز الحجر على الناس بوضع ثمن معين لسلعهم، ومنعهم من الزيادة عليه أو النقص عنه.

 

الغلاء والأزمات

أمّا ما يحصل من غلاء الأسعار في أيام الحروب، أو الأزمات السياسية، فإنه ناتج إما من عدم توفرها في السوق بسبب احتكارها، أو بسبب ندرتها. فإن كان عدم وجودها ناتجاً عن الاحتكار فقد حرّمه الله، وإن كان ناتجاً عن ندرتها فإن الخليفة مأمور برعاية مصالح الناس، فعليه أن يسعى لتوفيرها في السوق في جلبها من أمكنتها. وبهذا يكون قد مُنِع الغلاء. وعمر بن الخطاب في عام المجاعة الذي سمي عام الرمادة إنّما حصلت المجاعة في الحجاز فقط لندرة الطعام في تلك السنّة، وقد غلا من جراء ندرته فلم يضع أسعاراً معينة للطعام بل أرسل وجلب الطعام من مصر وبلاد الشام إلى الحجاز، فرَخُص دون حاجة إلى التسعير.