طباعة
المجموعة: فقه النظام الاقتصادي

يُجبر كل من ملك أرضاً على استغلالها، ويُعطى المحتاج من بيت المال ما يمكّنه من هذا الاستغلال، ولكن إذا أهمل ذلك ثلاث سنين تؤخذ منه وتعطى لغيره، قال عمر بن الخطاب "ليس لمتحجر حق بعد ثلاث سنين"  وأخرج يحيى بن آدم من طريق عمرو بن شعيب قال: {أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من مزينة أو جهينة أرضاً فعطلوها فجاء قوم فأحيوها، فقال عمر: لو كانت قطيعة مني أو من أبي بكر لرددتها، ولكن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وقال عمر: من عطل أرضنا ثلاث سنين لم يعمرها فجاء غيره فعمرها فهي له}.

والمراد أنه قد مضى عليها أكثر من ثلاث سنين؛ أي لو كانت من أبي بكر لما مضى عليها ثلاث سنين، أو مني لما مضى عليها ثلاث سنين كذلك، ولكن من رسول الله، فقد مضت مدة تزيد عن ثلاث سنين، فلا يمكن إرجاعها، وأخرج أبو عبيد في الأموال عن بلال بن الحارث المزني: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطعه العقيق أجمع، قال: فلما كان زمان عمر قال لبلال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقطعك لتحجره على الناس، إنّما أقطعك لتعمل فخذ منها ما قدرت على عمارته ورُدّ الباقي}،وقد انعقد إجماع الصحابة على أن من عطل أرضه ثلاث سنين تؤخذ منه وتعطى لغيره.

 وعلى هذا فلمالك الأرض أن يزرع أرضه بآلته وبذره وحيوانه وعماله وأن يستخدم لزراعتها عمالاً يستأجرهم للعمل بها، وإذا لم يقدر على ذلك تعينه الدولة، وإن لم يزرعها المالك أعطاها لغيره ليزرعها منحة دون مقابل، فإن لم يفعل وأمسكها يُمهل مدة ثلاث سنوات، فإن أهملها مدة ثلاث سنوات أخذتها الدولة منه وأقطعتها لغيره، فقد حدّث يونس عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر قال: {جاء بلال بن الحارث المزني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقطعه أرضاً فأقطعها له طويلة عريضة، فلما ولي عمر قال له: يا بلال، إنك استقطعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضاً طويلة عريضة فقطعها لك، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يَمنع شيئاً يُسأله، وأنت لا تطيق ما في يديك، فقال: أجل، فقال: فانظر ما قويت عليها منه فأمسكه، وما لم تطق وما لم تقوَ عليه فادفعه إلينا نقسمه بين المسلمين، فقال: لا أفعل والله شيئاً أقطعنيه رسول الله، فقال عمر: والله لتفعلن، فأخذ منه ما عجز عن عمارته فقسمه بين المسلمين}،رواه يحيي بن آدم في كتاب الخراج. فهذا صريح في أن الأرض إذا لم يُطِق صاحبها زرعها وأهملها ثلاث سنوات أخذتها الدولة منه وأعطتها لغيره كما فعل عمر بن الخطاب مع بلال المزني في معادن القبلية.

تعطيل الأرض

والحاصل أن الأرض تملك بالتحجير وتملك بإقطاع الخليفة وتملك بالإحياء وتملك بالميراث وتملك بالشراء، والنصوص التي وردت في أخذ الأرض ممن عطلها ثلاث سنين ذَكرت المحتجر وذَكرت من أقطعها له الخليفة ولم تذكر غيرهما من مالكي الأرض، وهم الوارث والمحيي والمشتري، فهل تعطيل كل أرض يملكها مالك مدة ثلاث سنين يجعل الخليفة يأخذها منه ويعطيها لغيره؟ أم أن ذلك خاص بالمحتجر ومن أقطعها له الخليفة؟

والجواب على ذلك أن الناظر في المحجر يجد أن التحجير للأرض مثل شرائها أو إرثها أو أي سبب من أسباب تملكها في التصرف بالأرض ووضع اليد عليها، فإن باع المحجر الأرض التي حجرها مَلَك بيعها لأنه حق مقابَل بمال، فتجوز المعاوضة عليه، ولو مات المحجر انتقل ملك الأرض إلى ورثته كسائر الأملاك يتصرفون بها وتقسم عليهم حسب الفريضة الشرعية، وكذلك شأن من يُقطعه الخليفة أرضاً، فليس إذن في المحتجر والمقطَع أرضاً أية صفة خاصة عن باقي المالكين تجعل أخذ الأرض إذا عطلت ثلاث سنين خاصاً بهما دون باقي المالكين بأسباب أخرى من أسباب التملك للأرض، أو تجعل المحتجر والمقطَع كلاً منهما قيداً لأخذ الأرض إذا عطلت ثلاث سنين، أمّا كونه نص عليهما دون غيرهما فلا يُفهم معنى القيدية لأنه ليس وصفاً مفهماً لكون الأخذ لمن عطل، إنّما هو لأنه محتجر أو لأنه أقطع، بل هو من قبيل النص على فرد من أفراد المطلق، وهو أخذ الأرض من مالكها إذا عطلها، فيكون النص عاماً، ويكون ذكر المحتجر والمقطَع ذكراً لفرد من الأفراد لا قيداً يمنع غيرهما، على أنه إذا ورد النص في حادثة يُنظر فيه، فإن وردت فيه العلّيّة كان نصاً عاماً فيما عُلّل فيه، والنص هنا تُفهم منه العلّيّة، وهو أن أخذ الأرض بعد ثلاث سنين لتعطيلها عن الزراعة، فيكون تعطيل الأرض ثلاث سنين هو علة أخذها، وعلى ذلك تكون علة أخذ الأرض من المحتجر هي كونه عطلها ثلاث سنين وليس كونه محتجراً، ولا كونه محتجراً عطلها، لأن التحجير للأرض لا يفيد علية أخذها لا منفرداً ولا مقروناً مع التعطيل، بل تعطيلها وحده هو الذي يفيد علية أخذها، فيكون تعطيل الأرض علة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً، فحيثما حصل تعطيل الأرض من مالكها ثلاث سنين أُخذت منه، سواء أكان ملكها بالتحجير أم بالإقطاع أم بالإرث أم غير ذلك، وإذا لم يعطلها المحتجر ثلاث سنين لا تؤخذ منه، على أن احتجار الأرض في قول عمر:{وليس لمحتجر} هو كناية عن تملكها، إذ جرت عادة مالك الأرض أن يحجر الأرض –أي يحيط حدودها بحجارة لتُعرف أنها ملكه وتُميّز عن ملك غيره، ولا يشترط أن يضع حجارة حتى يقال محتجر، بل لو وضع زرعاً أو شجراً على حدود الأرض أو حفر حدودها أو قام بأي عمل يدل على أنه وضع يده عليها فإن ذلك كله يقال له احتجار، ويقال لمن يفعله بالأرض محتجر، ولهذا يقول الرسول في حديث آخر: {من أحاط حائطاً على أرض}، رواه أبو داوود.والذي يدل على أن احتجار الأرض هو كناية عن تملكها ما يرشد إليه معنى كلمة (احتجر) لغة، فإن اللغة تقول: احتجر الشيء: وضعه في حجره –أي حضنه-، فاحتجر الأرض يعني حضنها بمعنى مَلَكها. وعلى هذا يكون معنى الحديث: ليس لمن حضن أرضاً –أي مَلَكها- حق بعد ثلاث سنين، سواء وضع على حدودها حجارة أم أحاط عليها حائطاً أو فعل أي شيء يدل على ملكيتها.

هذا بالنسبة للنص. أمّا بالنسبة لما سار عليه عمر وسكت عنه سائر الصحابة فإن عمر قد حكم بالأرض التي أقطعها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مزينة وعمرها غيرهم لمن عمرها، ومنع مزين من أخذها وقال: {من عطل أرضاً ثلاث سنين لم يعمرها فجاء غيره فعمرها فهي له}، فهذا الكلام من عمر عام، إذ قال: {من عطل أرضاً}، وقال لبلال بن حارث المزني: {إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقطعك لتحجره على الناس، إنّما أقطعك لتعمل، فخذ منها ما قدرت على عمارته ورُدّ الباقي}، رواه أبو عبيد في الأموال. وأخذ منه بالفعل ما عجز عن عمارته. وتخصيص هذا بالإقطاع وحده دون مخصص صريح لا يجوز، بل يبقى عاماً، وأمّا كون الحادثة حصلت مع من أقطعها فهي تعبير عن واقعة وليست قيداً في هذه الحادثة.

وعلى هذا فإن كل مالك للأرض إذا عطلها ثلاث سنين تؤخذ منه وتعطى لغيره مهما كان سبب ملكه للأرض، إذ العبرة بتعطيل الأرض لا بسبب ملكيتها، ولا يقال إن هذا أخذٌ لأموال الناس بغير حق، لأن الشرع جعل لملكية الأرض معنى غير معنى ملكية الأموال المنقولة، وغير معنى ملكية العقار، فجعل ملكيتها لزراعتها، فإذا عطلت المدة التي نص الشرع عليها ذهب معنى ملكيتها عن مالكها، وقد جعل الشرع تمليك الأرض للزراعة بالإعتمار وتمليكها بالإقطاع والميراث والشراء وغير ذلك، وجعل تجريدها من صاحبها بالإهمال، كل ذلك من أجل دوام زراعة الأرض واستغلالها.

 

 الإقتصاد في دستور دولة الخلافة على منهاج النبوة

 إن وجدت خيرا فانشره، فالدال على الخير كفاعله، دولة الخلافة، - نصر نت - nusr.net