طباعة
المجموعة: فقه النظام الاقتصادي

أوجب الشرع على الدولة الاسلامية دولة الخلافة توفير ماتحتاجه الرعية من المصالح العامة، وأن يضمنها بيت مال المسلمين. لأن بيت المال يجيب عليه أن يصرف على مصالح المسلمين العامة، من مثل الطب والتعليم للرعية جميعها ، لافرق بين غني وفقير ، ولافرق بين مسلم او ذمي .

إن تعريف الإجارة بأنها عقد على المنفعة بعِوَض واشتراط كون المنفعة مما يمكن للمستأجر استيفاؤه يرشدنا عند تطبيقه على الحوادث إلى أن الإجارة جائزة على كل منفعة يمكن للمستأجر استيفاؤها من الأجير سواء أكانت منفعة الشخص كالخادم أو منفعة العمل كالصانع ما لم يرد في النهي عن تلك المنفعة دليل شرعي، لأن الأصل في الأشياء الإباحة والمنفعة شيء من الأشياء.

ولا يقال هنا إن هذا عقد أو معاملة والأصل فيها التقييد لا الإباحة. لأن العقد هو الإجارة وليست المنفعة أمّا المنفعة فهي شيء تجري عليه المعاملة وينصبّ عليه العقد وليست هي معاملة أو عقداً.

وعلى ذلك تجوز الإجارة على جميع المنافع التي لم يرد النهي عنها سواء أوَرَد نص في جوازها أم لم يرد فيجوز أن يستأجر المرء رجلاً أو امرأة يكتب له على الآلة الكاتبة صحائف معلومة بأجر معلوم لأن ذلك إجارة على منفعة لم يرد نهي عنها، فتجوز الإجارة عليها ولو لم يرد نص في جوازها ويجوز استئجار كيّال ووزّان لعمل معلوم في مدة معلومة لما رًوي في حديث سويد بن قيس جاءنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يمشي فساومنا وبعناه وثَمَّ رجل يزن بالأجر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {زن وأرجح} رواه أبو داوود فهذه الإجارة جائزة إذ قد ورد نص بجوازها.

 

أمّا العبادات سواء أكانت فرضاً أم نفلاً فإنه يُنظر فيها:

وأمّا ما روى الترمذي عن  عثمان بن أبي العاص من أنه قال: {إنّ من آخر ما عهد إليّ النبي صلى الله عليه وسلم أن أتخذَ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً}، فهذا الحديث نهى الرسول صلى الله عليه وسلم فيه عن اتخاذ المؤذن الذي يأخذ أجراً مؤذناً له، ولم ينه عن أخذ المؤذن أجراً، وهو يدل على أن هنالك مؤذنين يأخذون أجراً وآخرين لا يأخذون أجراً، فنهاه عن اتخاذ المؤذن ممن يأخذ أجراً، ونهيه هذا فيه تنفير من أخذ الأجر على الأذان مما يُشعِر بكراهة أخذ الأجرة عليه، غير أنه لا يدل على تحريم الإجارة على الأذان بل يدل على جوازها مع الكراهية.

أمّا التعليم فإنه يجوز للمرء أن يستأجر معلماً يعلم أولاده أو يعلمه هو أو يعلم من شاء ممن يرغب تعليمهم، لأن التعليم منفعة مباحة يجوز أخذ العِوَض عنها فتجوز الإجارة عليه. وقد أجاز الشرع أخذ الأجرة على تعليم القرآن، فكان جواز أخذ الأجرة على تعليم غير القرآن من باب أولى، فقد رُوى البخاري عن ابن عباس  عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: { أحقّ ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله}، وقد انعقد إجماع الصحابة على أنه يجوز أخذ الرزق على التعليم من بيت المال، فجاز أخذ الأجر عليه، فقد رُوي عن طريق ابن أبي شيبة عن صدقة الدمشقي عن الوضية بن عطاء قال: {كان بالمدينة ثلاثة معلمين يعلّمون الصبيان، فكان عمر بن الخطاب يرزق كل واحد منهم خمسة عشر كل شهر}. فهذا كله يدل على جواز أخذ الأجرة على التعليم. أمّا ما ورد من أحاديث النهي في هذا الباب، فإنها جميعها منصبّة على النهي عن أخذ الأجرة على تعليم القرآن، لا النهي عن الاستئجار على تعليمه، وهي كلها تدل على كراهة أخذ الأجرة على تعليم القرآن لا على تحريم الإجارة على تعلمه. وكراهة أخذ الأجرة لا تنفي الجواز، فيُكره أخذ الأجرة على تعليم القرآن مع جواز التأجير عليه.

وأمّا إجارة الطبيب فهي جائزة لأنها منفعة يمكن للمستأجر استيفاؤها، ولكن لا تجوز إجارته على البرء لأنه استئجار على مجهول، ويجوز أن يستأجر الطبيب ليفحصه لأنه منفعة معلومة ويجوز أن يستأجر الطبيب بخدمته أياماً معلومة لأنه عمل محدود، ويجوز أن يستأجره ليداويه فإن مداواته معلومة علماً نافياً للجهالة حتى ولو لم يعلم نوع المرض، إذ يكفي أن يعرف أنه مريض فقط. وإنما جاز استئجار الطبيب لأن الطب منفعة يمكن للمستأجر استيفاؤها فتجوز الإجارة عليها. ولأنه قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على جواز الإجارة على الطب، فقد رُوي البخاري  عن أنس أنه قال: {احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحجمه أبو طيبة وأعطاه صاعين من طعام وكلم مواليه فخففوا عنه}، وقد كانت الحجامة في ذلك الوقت من الأدوية التي يُتطَبب بها، فدل أخذ الأجرة عليها على جواز تأجير الطبيب. وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم: {كسب الحجّام خبيث} الذي رواه الترمذي عن رافع بن خديج  فلا يدل على منع إجارة الحجام بل يدل على كراهة التكسب بالحجامة مع إباحتها، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى الثوم والبصل خبيثين مع إباحتهما.رواه مسلم عن معدان بن أبي طلحة.

 الأجير الذي منفعته عامة

هذا كله في الأجير الذي منفعته خاصة. وأمّا الأجير الذي منفعته عامة، فإن خدماته تعتبر مصلحة من المصالح التي يجب على الدولة توفيرها للناس وذلك لأن كل منفعة يتعدى نفعها الأفراد إلى الجماعة، وكانت الجماعة محتاجة إليها، كانت هذه المنفعة من المصالح العامة التي يجب على بيت المال توفيرها للناس جميعاً، وذلك كأن يستأجر الأمير من يقضي بين الناس مشاهرة، وكاستئجار موظفي الدوائر والمصالح، وكاستئجار المؤذنين والأئمة. ويدخل في المصالح التي يجب على الدولة استئجار الأجراء لها للناس جميعاً التعليم والتطبيب. أمّا التعليم فلإجماع الصحابة على إعطاء رزق المعلمين قدراً معيناً من بيت المال أجراً لهم، ولأن الرسول جعل فداء الأسير من الكفار تعليم عشرة من أبناء المسلمين، وبدل فدائه من الغنائم وهي ملك لجميع المسلمين. وأمّا الطب فلأن الرسول صلى الله عليه وسلم أُهدي إليه طبيب فجعله للمسلمين. فكون الرسول جاءته الهدية ولم يتصرف بها ولم يأخذها بل جعلها للمسلمين، دليل على أن هذه الهدية مما هو لعامة المسلمين وليست له، فالرسول إذا جاءه شيء هدية ووضعه للمسلمين عامة يكون هذا الشيء مما هو لعامة المسلمين.

وعلى ذلك فإن رزق الأطباء والمعلمين في بيت المال، وإن كان يجوز للفرد أن يستأجر طبيباً وأن يستأجر معلماً، إلاّ أنه يجب على الدولة أن توفر الطب والتعليم للرعية جميعهم لا فرق بين مسلم وذمّيّ، ولا بين غني وفقير، لأن هذا كالأذان والقضاء، فهو من الأمور التي يتعدى نفعها، ويحتاج الناس إليها، فهي من المصالح العامة ومن الأمور التي يجب أن تُوفَّر للرعية وأن يضمنها بيت المال.

النظام الاقتصادي في دستور دولة الخلافة

هل وجدت في موقع