تختلف نظرة الإسلام إلى مادة الثروة عن نظرته إلى الانتفاع بها، وعنده أن الوسائل التي تعطي المنفعة شيء، وحيازة المنفعة شيء آخر. فالمال وجهد الإنسان هما مادة الثروة وهما الوسائل التي تعطي المنفعة، ووضعهما في نظر الإسلام من حيث وجودهما في الحياة الدنيا ومن حيث إنتاجهما يختلف عن وضع الانتفاع بهما وعن كيفية حيازة هذه المنفعة،

فهو قد تدخّل في الانتفاع بالثروة تدخلاً واضحاً، فحرَّم الانتفاع من بعض الأموال كالخمر والميتة، كما حرّّم الانتفاع من بعض جهود الإنسان كالرقص والبغاء، فحرَّم بيع ما حَرُم أكله من الأموال، وحرَّم إجارة ما حَرُم القيام به من الأعمال. هذا من حيث الانتفاع بالمال وجهد الإنسان، أمّا من حيث كيفية حيازتهما فقد شرع أحكاماً متعددة لحيازة الثروة كأحكام الصيد وإحياء المَوات وكأحكام الإجارة والاستصناع وكأحكام الإرث والهبة والوصية.

هذا بالنسبة للانتفاع بالثروة وكيفية حيازتها، أمّا بالنسبة لمادة الثروة من حيث إنتاجها فإن الإسلام قد حثّ على إنتاجها ورغّب فيه حين رغّب بالكسب بشكل عام، ولم يتدخل ببيان كيفية زيادة الإنتاج ومقدار ما يُنتج بل ترك ذلك للناس يحققونه كما يريدون. وأمّا من حيث وجودها فالمال موجود في الحياة الدنيا وجوداً طبيعياً، وخَلَقه الله سبحانه وتعالى مسخَّراً للإنسان، قال تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً}، وقال: {الله الذي سخّر لكمُ البحر لتجريَ الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله}، وقال: {وسخّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه}، وقال: {فلينظر الإنسان إلى طعامه أنّا صببنا الماء صباً ثم شققنا الأرض شقاً فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غُلباً وفاكهة وأبّاً متاعاً لكم ولأنعامكم}، وقال: {وعلّمناه صَنعَة لَبوسٍ لكم لتُحصِنَكم من بأسكم}، وقال: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس}. فبيّن في هذه الآيات وما شابهها أنه خلق المال وخلق جهد الإنسان ولم يتعرض لشيء آخر يتعلق به، مما يدل على أنه لم يتدخل في مادة المال ولا في جهد الإنسان، سوى أنه بيّن أنه خلقها لينتفع بها الناس. وكذلك لم يتدخل في إنتاج الثروة، ولا يوجد نص شرعي يدل على أن الإسلام تدخّل في إنتاج الثروة، بل على العكس من ذلك نجد النصوص الشرعية تدل على أن الشرع ترك الأمر للناس في استخراج المال وفي تحسين جهد الإنسان، فقد أخرج مسلم عن طريق عائشة رضي الله عنها ومن طريق أنس رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال في موضوع تأبير النخل: {أنتم أعلم بأمر دنياكم}، ورُوي أنه صلى الله عليه وسلم أرسل اثنين من المسلمين إلى جُرَش اليَمَن يتعلمان صناعة الأسلحة، وهذا يدل على أن الشرع ترك أمر إنتاج المال إلى الناس ينتجونه بحسب خبرتهم ومعرفتهم.

وعلى هذا فإنه تبين من ذلك أن الإسلام ينظر في النظام الاقتصادي لا في علم الاقتصاد، ويجعل الانتفاع بالثروة وكيفية حيازة هذه المنفعة موضوع بحثه، ولم يتعرض لإنتاج الثروة ولا إلى وسائل المنفعة مطلقاً.